
تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,744 |
تعداد مقالات | 14,253 |
تعداد مشاهده مقاله | 35,313,444 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 14,018,610 |
مقاربة سيميائية أنثروبولوجية للاستعارة التصويرية في شعر كريم معتوق | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بحوث في اللغة العربية | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
دوره 17، شماره 33، دی 2025، صفحه 37-54 اصل مقاله (750.17 K) | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2024.139982.1491 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نویسندگان | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ناصر جابری1؛ ناصر زارع* 2؛ محمدجواد پورعابد2؛ رسول بلاوي3؛ حسين مهتدي4 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1طالب الدكتوراه في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة خلیج فارس، بوشهر، إيران | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2أستاذ مشارك في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة خلیج فارس، بوشهر، إيران | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
3أستاذ في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة شهيد تشمران أهواز، أهواز، إيران | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
4ستاذ مشارك في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة خلیج فارس، بوشهر، إيران | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
چکیده | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
برز موضوع مخططات الصورة إثر بحوث ودراسات، قام بها بعض العلماء المعاصرين في مجال اللسانيات المعرفية، كجونسون ولایکوف، محاولة منهم للقيام بفهم عميق وحديث للاستعارة. فالاستعارة الحديثة التي يسمّيها جونسون استعارة مفهومية، تقوم على المفاهيم التجريدية التي يحاول الذهن البشري أن يجد ويخلق لها تعبيرا ماديا ملموسا، من خلال الاستعانة بالتجربة المعاشة للإنسان بجسمه في بيئته وحياته. تعتبر الاستعارة التصويرية (مخططات الصورة)، التي تندرج في إطار الاستعارة المفهومية، صورة جسدانية لمفاهيم تجريدية نفهمها بعون تجاربنا الفضائية ـ المكانية والحركية. إنّ هذه التجارب هي جزء من الثقافة التي ننتمي إليها كفرد، وكجزء من جماعة توارثت هذه الثقافة بشكل إرادي ـ شعوري، وكذلك لاشعوري ضمن النسق الثقافي الذي يشكّل نظرة تلك الجماعة إلى الحياة وفهمها منها، وطريقة ممارستها لتجارب الحياة، بما في ذلك الثقافة التعبيرية التي تتّصف بها. إنّ السيميائية الأنثروبولوجية التي يتّخذها هذا البحث بناءً على المنهج الوصفي ـ التحليلي، تستجلي الدلالة الثقافية ـ الإنسانية للتعبيرات اللغوية ـ الجمالية العربية المتجسّدة بالاستعارة التصويرية في شعر كريم معتوق أوّلا، وكذلك ثمّ البحث عن منظومة القواعد التي تشكّل الخطاب التعبيري العربي، وجذوره التراثية، ومنطلقاته العائدة إلى تجربة الشاعر الفردية والجماعية. توصّل البحث إلى نتائج عدّة، أهمّها: أن شعر هذا الشاعر الإماراتي المعاصر قد اتسم بالروح التراثية، والمسحة الثقافية العربية التي تركت أثرها في شعره. وكذلك تبيّن أن الذاكرة الجماعية لمجتمع الشاعر بما تحمل من عناصر بدائية وصور نموذجية أوّلية، قد تركت بصماتها في الاستعارة التصويرية الموظّفة من قبل الشاعر، فتمثّلت بثنائيّات متقابلة متجذّرة في النسق الثقافي للمجتمع العربي الخليجي، كما أنّ الشاعر وظّف استدعاء التراث بأنواعه في مخططات الصورة لديه. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
کلیدواژهها | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الاستعارة المفهومية؛ مخطط الصورة؛ السيميائية الأنثروبولوجية؛ كريم معتوق | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اصل مقاله | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
. المقدمة إنّ العمل على تحليل اللغة الشعرية التي يستخدمها الشاعر في كلّ لغة، یَفرِض الولوج في ساحة اللسانيات المعرفية التي تقوم على الإدراك البشري وتصوّر العالم من جانب، وعلم الدلالة المعرفي الذي يؤكّد على العلاقة الوثيقة بين المعرفة البشرية ونظرته إلى العالم والأعمال الجسدانية التي يتفاعل فيها مع بيئته من جانب آخر. عندئذ يُطرح موضوع العلاقة الوشيجة بين اللغة والعالم وتجارب الحياة اليومية للبشر، وأنّ هذه العلاقة لها تأثير مباشر على الصياغة اللغوية للتعابير التي ترتبط بالحركة والفضاء أو الموقع الذي يتعامل معه الإنسان في حياته وكيفية انعكاس ذلك في لغته. يتحدّث جونسون[1] أو زميله ليكاف[2]، وقبلهما بارتليت[3]، عن العلاقة بين اللغة والعالم وتجارب البشر، تحت عنوان مخططات الصورة. «إنّ هذه المخططات تتّسم بأنها سابقة للمفاهيم، بمعنى أنّ وجودها يسبق وجود المفاهيم التي تقوم عليها من خلال الاستعارة» (الحراصي، 2002م، ص 26)؛ وذلك بسبب الخلفیة التجربية المعاشة، والثقافة الفردية والجماعية لكل شخص. «خُصّص علم اللغة الأنثروبولوجي على وجه الخصوص لدراسة الروابط بين اللغة والثقافة منذ عام 1980 تقريبا، ومع ذلك، يكرّس عدد متزايد من اللغويين اهتماما جادا لمشروع أكثر طموحا؛ یشتمل على توضيح الطرق التي تُعكس بها الأشياء والتراكيب اللغوية، الطريقة التي ينظر بها البشر إلى العالم، ويصنّفونه، ويصوّرونه» (ترسك، 2005م، ص 25). فاستخدام الكاتب أو الأديب الشاعر لتعبير ما، يكشف عن ثقافة تعبيرية، تعود بدورها إلى النسق الثقافي للجماعة التي ينتمي إليها الشاعر. مما لا شكّ فيه، أنّ لكلّ جماعة ومجموعة لسانية أساليبها الخاصّة، للتعبير عن الأفعال التي تتعامل مع الفضاء والمكان والحركة، حسب ما اعتادوه، لإظهار هذه التفاعلات عبر اللغة. فمخططات الصورة التي تندرج تحت إطار الاستعارة المفهومية، يعبّر عنها، ويوظّفها الأديب في نصّه متأثّرا في لاشعوره بالذاكرة الثقافية الجماعية وما تحمله من عناصر أسطورية، ومقدّسات قديمة وحديثة، وأنماط وصور أولية أو بدائية، وتناصات استعارية، ورموز وأساليب أدبية، يكون قد تأثّر بها من الأدب القديم لقومه. فأحد الموضوعات الجوهرية المطروحة للبحث هي كيفية تجلّي عناصر النسق الثقافي لمجتمع الشاعر، وكذلك أدبه ولغته القديمين في شعره. فبما أنّ الشاعر الإماراتي، كريم معتوق[4]، وليد ثقافة وبيئة عربية، فقد جمع بين التراث والحداثة في شعره، حيث اللغة الشعرية القديمة، والأسلوب التعبيري الذي مزج بين القديم والحديث، والنظم بالشعر العمودي الكلاسيكي المقفى، والبحور الشعرية القصيرة تواكب روح العصر، واختيار الموضوعات الحديثة، كما جاء شعره زاخرا برموز لغوية وثقافية عربية، تستحق التحليل والتأمل. وكلّ هذا وما لم نذكر من تفاصيل أخرى، رغم أنّها جعلته يفوز بلقب أمير الشعراء في هذه المسابقة علي مستوى العالم العربي عام 2007م، لكن شحّ الدراسات حول أدب هذا الشاعر جعلنا نختاره موضوعا لهذه الدراسة. يتوخّي البحث خلال المنهج الوصفي ـ التحليلي، أثَر ثقافته العربية على لغته الشعرية، وبشكل خاص الاستعارات المتمثّلة في مخططات الصورة، ثمّ البحث عن جذور لغته التعبيرية في الأدب العربي القديم، تقصّيا لتأثّره بتلك الثقافة الأدبية وعناصرها. 1ـ1. أسئلة البحث يحاول البحث الإجابة عن الأسئلة التالية: ـ ما أقسام مخططات الصورة الواردة في شعر كريم معتوق؟ ـ كيف تجلّت العناصر الثقافية والأنثروبولوجية في مخططات الصورة المستخدمة في شعر معتوق؟ ـ ما الدلالات الأنثروبولوجية التي يمكن استنباطها من مخططات الصورة في شعره؟ 1ـ2. خلفية البحث من خلال بحثنا عن البحوث العلمية المنشورة التي تناولت موضوع مخططات الصورة، تبيّن لنا أنّ معظم البحوث المنتشرة في هذا الشأن هي باللغة الفارسية، فلم تتناول الأدب العربي إلّا بندرة، واختصّ غالبها بالقرآن الكريم، فلم يأخذ الأدب العربي حظّا وافرا من موضوع مخططات الصورة، كما أن البحوث والكتب المنشورة لم تجمع بين موضوع المخططات، والدراسة السيميائية الأنثروبولوجية، خصوصا بشأن شعر كريم معتوق. في ما يلي عرض لأهمّ ما نشر عن موضوع بحثنا: كتاب الاستعارات التي نحيا بها (2009م)، لجورج لايكوف، ومارك جونسون. فلقد شرح الباحثان فيه بإسهاب نظرية الاستعارة المفهوية، وتطرقا إلى مخططات الصورة وأنواعها، وأكّدا أننا لا ندرك العالم ونمارس تجربته إلّا عبر الاستعارات، وأنّ القيم الأكثر جوهريّة في ثقافة ما، تنسجم مع البنية الاستعارية لتصوراتها الأكثر أساسية. وكتاب الاستعارة (2016م)، لتيرنس هوكس. فهو قد خصّص جزءا منه لموضوع الاستعارة والأنثروبولوجيا، وخلص مستنتجا أنّ هناك رؤية رومانسية محدَثة أنثروبولوجيّة أقرّت المدى الذي تخلق الاستعارة عبره الواقع من أجلنا. ومقال الاستعارة في نماذج من شعر محمود درويش: مقاربة عَرفانية (2017م)، لحاجي المليود، حيث قد تطرّق فيه إلى مخططات الصور الاتّجاهية، والأنطولوجية، كالكيان والمادة والبنيوية في ديوان لماذا تركت الحصان وحيدا، باحثا عن جذور تجربة الشاعر الثقافية الاجتماعية وظروفه المعاشَة في استعاراته المفهومية. ومقال المعنَى، المبنَى، خطاطة القوّة في شعر الصعاليك: الشنفرى نموذجا: مقاربة عَرفانية (2018م)، لرضا عبد اللّٰه عليبي. قد تناول هذا البحث مخطّط القوّة من منظور دلالي معرفي، وتوصّل إلى أنّ معالجة الشاعر الصعلوك الإدراكية لذاته والمحيط كان المعبر إليهما جسديا بالأساس، وأن الجسدنة أظهرت دور الجسد في توجيه السلوك العام للصعلوك، بوصفه ذاتًا ثقافيّة، تحمل تصوّرات ثقافية مغايرة عن القيم الاجتماعية القبليّة السائدة. ودراسة كاربرد طرحوارههای تصویری و استعارههای مفهومی در شعر انحطاط با تکیه بر مطالعات قرآنی (= توظيف مخططات الصورة والاستعارات المفاهيمية في شعر الانحطاط استنادا إلى الدراسات القرآنية) (2020م)، لفرشتة جمشيدي، وعلي أكبر محسني. فقد تناولا فيها مخططات الصورة المستخدمة في المجلد الخامس لمجموعة أدب الطف، والدلالات العاطفية والأفكار فيها، وجذورها القرآنية الإسلامية. ومقالة كاربرد طرحوارههای تصویری در سرودههای سهراب سپهری و خلیل حاوی بر اساس نظریه معناشناسی شناختی» (= توظيف مخططات الصورة في شعر سهراب سبهري وخليل حاوي، على أساس علم الدلالة المعرفي) (2021م)، لشهريار باقرآبادي وآخرين. لقد سلط الباحثون الضوء على أثر الخلفية الفكرية والتجربة المعاشَة للشاعرَين على مخططات الصورة في شعرهم، واستنتجوا أنّ شعر سبهري متأثر بنظرته الشرقية وخصوصا البوذية، وأنّ حاوي له خلفيته المتأثّرة بالفلسفة الشرقية والغربية معا. ومقال طرحوارههاى تصويرى حوزه احساسات در رمان يوسف تادرس (= مخططات الصورة لحقل المشاعر في رواية يوسف تادرس) (2021م)، لطيبة فتحي وآخرين. قد تناول الباحثون كيفية تمظهر المشاعر من خلال مخططات الصورة الموظَّفة من قبل الكاتب عادل عصمت في روايته. إنّ البحوث والكتب المنشورة لم تجمع بين موضوع الاستعارة التصويرية (المخططات)، والدراسة السيميائية الأنثروبولوجية، خصوصا بشأن شعر عبد الكريم معتوق.
2ـ1. اللسانيات المعرفية[5] وعلم الدلالة المعرفي[6] تُعدّ اللسانيات المعرفية (العَرفانيّة) بوابة إلى الاستعارة، وثمّ إلى مخططات الصورة. فهي تحاول أن تكشف العلاقة بين الذهن البشري والإدراك من جانب، والعالم وتجربة البشر من جانب آخر. «إنّ اللسانيات العَرفانيّة تؤكّد أنّ الفهم الإنساني، ذو نزعة تجريبية. فالإنسان يفهم الأشياء من خلال التجارب التي عايشها، حيث إنّ لدى الكائن البشري ميلا إلى احتواء العالم المحيط به، وذلك بواسطة تمثّله وتخزينه في ذاكرته على شكل معلومات يعود إليها عند الحاجة» (التركي، 2017م، ص ٤52). الفرق بين علم اللغة وعلم الدلالة المعرفيين، هو أنّ الأوّل ينظر نظرة شمولية إلى اللغة في سياق أوسع من الثاني، حيث إنّ في اللسانيات، «تتم دراسة البنى الرسمية للغة ليس كما لو كانت مستقلة؛ ولكن باعتبارها انعكاسات للتنظيم المفاهيمي العام ومبادئ التصنيف وآليات المعالجة والتأثيرات التجريبية والبيئية» (جيرايرتس وكويكينز، 2007م، ص 3). أما علم الدلالة المعرفي، فهو يركّز على الجانب المفاهيمي من اللغة وجوانب صنع المعنى للغة كجزء من القدرات المعرفية، و«هي دراسة الطريقة التي يتم بها تنظيم المحتوى المفاهيمي في اللغة» (المصدر نفسه، 2007م، ص 29٤). إنّ اللسانيات المعرفية تكوّنت إثر محاولة علمائها للإجابة عن الأسئلة التي تدور في ذهنهم حول قدرات الإنسان والعمليّات التي تتمّ في ذهنه؛ «أسئلة من نحو: كيف نفكّر؟ كيف تتمثّل العالم من حولنا؟ كيف نكتسب المعلومات ونخزّنها ونوظّفها؟ كيف نعطي لتجربتنا في الحياة معنى؟» (الميلود، 2017م، ص ٤31). أحد أهمّ المصاديق لموضوع عمل علمَيّ اللغة والدلالة المعرفيين هو فهم الاستعارة وإسقاطاتها وكيفية تكوينها في العقل البشري. فالاستعارة في اللسانيات المعرفية دخلت حيّزا حديثا غير ما كانت عليه تقليديا. فسنوضح هذا الأمر فما يأتي.
2ـ2. الاستعارة الأدبية (اللفظية) والاستعارة المفهومية لقد كانت الاستعارة في نظرة البلاغيين وعلماء اللغة القدامى، مبتنية على صبغتها الأدبية. وطابعها اللفظي أكثر من الطابع المفهومي المعنوي الذي طُرح حديثا. ومن القدامى، من رأى أنّ غرض الاستعارة ـ كما يقول أبو هلال العسكري في كتاب الصناعتين ـ هو «شرح المعنى وفضل الإبانة عنه، أو تأكيده، والمبالغة فيه، أو الإشارة إليه بالقليل أو تحسين المعرض الذي يبرز فيه» (1971م، ص 205). لكنّ شرح المعنى والإبانة عنه أو المبالغة فيه إنّما يحصل خدمة للجانب اللغوي والأدبي المرتبط بالخيال الشعري أو الزخرف البلاغي؛ وهذا ما يظهر بجلاء في الفقرة الأخيرة من كلام العسكري، وهو «تحسين المعرض». أما الاستعارة في شكلها الحديث، فقد أخذت منحى آخر على يد علماء كجونسون ولايكوف، خاصة في كتاب الفلسفة في الجسد والاستعارات التي نحيا بها؛ إذ بحثا فيهما عن «الكيفية التي يفهم بها الإنسان لغته وتجربته والعلائق الرابطة بينهما، أي كيف تفعل التجربة في اللغة، وكيف تفعل اللغة في التجربة، وقد تمّ انتقاء آليات اشتغال التعابير الاستعارية لقياس هذا التفاعل ورصد بعض أجزائه» (2009م، ص 12). إنّ الاستعارة الحديثة، وفق النظرة المبتنية على اللغويّات العَرفانية، بإمكانها خلق المفاهيم وصياغتها، وكذلك بإمكانها تكوين دلالات مختلفة، وتستطيع أن تعطي صورة ملموسة للمفاهيم التجريدية باستعانة معرفة الإنسان وتجربته. إذن، هناك أربعة أركان يقوم إدراك المعنى في الاستعارة التصوّرية (المفهومية) عليها، وهي: «التعبيرات اللغوية المجازية، والتصوّرات القائمة في الذهن، والعرض التقابلي (بين المصدر والهدف)، ثمّ الإسقاط التصوّري. والعلاقة بين هذه الأركان، علاقة تكاملية» (الصغير والنصراوي، 2020م، ص ٤9). يعطي لايكوف للاستعارة منحى سايكولوجيا على ضوء النظريّة الغشتالتية التي تترابط فيها التجربة، والإدراك الحسّي، والتصنيف. تُعرف النظرية الجيشتالتية بعلم النفس الغشتالتي[7]، وهي تُعنى في أساسها بالطريقة التي يحاول الإنسان من خلالها فهم الأشياء من حوله. ومن أهم ركائزها "النظرة الشمولية" التي يقوم الإنسان بواسطتها بمعرفة كليّة أوليّة للأمور، دون الأجزاء وضمن نظام متكامل، وكذلك "التشابه" حيث يتم الربط بين المتشابهات لفهم طبيعة الأشياء، وهذا ما يحاول شرحه كلّ من لايكوف و جونسن بشأن الاستعارة المفهومية، وبالتالي «تحتاج الدراسة اللغوية للاستعارة إلى الإفادة من الدراسة السيكولوجيّة للمعرفة» (المصدر نفسه، ص 26 ـ 27). سنتطرق إلى علاقة الاستعارة بعلم النفس من منظار لايكوف، لاحقا في هذا المقال وبشكل خاص في قسم المخططات. 2ـ3.مخططات الصورة[8] وأنواعها مخطط الصورة أو الاستعارة التصويرية (ويسمّيها البعض المفهوميّة[9])، استعارة ترتبط بالفضاء والمكان أو بالحركة والاتجاهات، كما يعرّفها المنظّرون للاستعارة المفهومية كجونسن. «نشأت فكرة مخططات الصور من البحث التجريبي حول مصطلحات العلاقات المكانية بواسطة ليونارد تالمي[10] (1972، 1975، 1978، 1983)، ورونالد لانجاكير[11] (1976، 1987)، في منتصف السبعينيات» (همب، 2005م، ص 57). ومنهم من يرى أنّ المصطلح ظهر لأوّل مرّة في وقت واحد في عام 1987م، وفي كتابَي الجسد في العقل، ونساء ونار وأشياء خطيرة لجورج لايكوف (المصدر نفسه، ص 15). تندرج مخططات الصورة تحت إطار الاستعارة المفاهيمية؛ إذ تُفهَم عبر تجسيد الفضاء والحركة في ذهن الإنسان، بناء على التجربة. فهي كما عرّفها جونسن، «نمط ديناميكي متكرر لتفاعلاتنا الإدراكية والبرامج الحركية التي تعطي التماسك والبنية لتجربتنا» (1987م، ص 1٤). «يعتمد الفهم المتعارف عليه لمخططات الصور بقوة على قائمة من الأمثلة النموذجية مثل الوعاء، أو الأعلى ـ الأسفل، أو القريب ـ البعيد، أو المسار، واثنين أو ثلاثة عشرات من الأمثلة الأخرى» (همب، 2005م، ص 287). هناك أنواع مختلفة من مخططات الصورة، نظّر لها الباحثون وعرّفوها في مصادر متعددة، كالحاوية أو الوعاء، والمصدر ـ المسار ـ الهدف، ومخططات القوة بأشكالها المختلفة، كالتمكين، والانسداد، والقوّة المضادّة، والجذب، والإكراه، ومخطّط الاتصال، ومخطط الدورة، والحركة في الاتجاهات المختلفة، والتوازن، والدعم والرابط، وغيرها من المخططات التي يطول ذكرها وتبيينها. ولكن يبدو أنّ غالبية المخططات ومعظمها تندرج ضمن ثلاثة أقسام رئيسة وعامّة، كما قسّمها جونسن في كتابه العقل المتجسد والمعنى والعقل (2017م، ص 127 ـ 132)، كالتالي: ـ المخطط الحركي ـ الاتجاهي[12]: يصنّف بعض الباحثين هذا النوع من المخططات تحت إطار المخططات التي تنظّم نسقا كاملا من التصورات المتعالقة، ويسمّيها كتاب الاستعارات التي نحيا بها، بالاستعارات الاتجاهية / الحركية؛ «إذ إنّ أغلبها يرتبط بالاتجاه الفضائي: عال ـ مستفل، داخل ـ خارج، أمام ـ وراء، فوق ـ تحت، عميق ـ سطحي، مركزي ـ هامشي» (لايكوف وجونسن، 2009م، ص 33). وقد تكوّنت هذه المخططات لارتباطنا بالمكان والحركة من نقطة إلى نقطة. مثال على ذلك المخطط العمودي المرتبط بالـ"فوق ـ تحت؛ فـ«نظرا لوجودنا داخل مجال جاذبيّة على سطح الأرض، وبسبب قدرتنا على الوقوف منتصبا، فإننا نعطي أهميّة كبيرة للوقوف والارتفاع والسقوط» (همب، 2005م، ص 20). هناك علاقة وطيدة بين المخطط الاتجاهي والثقافة. مثال على المخطط الحركي ـ الاتجاهي وارتباطه بثقافة الشعوب، ما ذكره لايكوف: «تأمّل الشعيرة الثقافية التي يحمل فيها المولود حديث الولادة إلى الأدوار العلوية لتأكيد نجاحه أو نجاحها. إن الاستعارة المتحققة في هذه الشعيرة هي "المكانة فوق" (status is up)، كما في "شقّ طريقه إلى القمّة"، "لقد ارتقى سلّم النجاح"، "سترتفع في الدنيا"» (1991م، ص 7٤). الأشكال التالية تشير إلى أنواع من هذه المخططات: شكل الرقم 1. نماذج من المخطط الحركي ـ الاتجاهي ـ مخطط الوعاء / الاحتواء ـ الحاوية[13]: والذي يتعلّق بالكينونة والتفاعل في ومع الفضاء المحصور في ظرف محدّد، يحتوي أو لا يحتوي على مادّة. فهو «يشير إلى العلاقة بين الداخل والخارج والحدود بينهما» (هدبلوم، 2019م، ص 60). الحالة الأولى لبنية الاحتواء هي الكينونة في الداخل أو الخارج؛ والحالة الثانية لمخطط الوعاء، حالة الخروج من الوعاء، أو التوسّع للمظروف وتمدده إلى خارج حدود الظرف. «لننظر إلى الأمثلة التالية: خرج الوالي على الخليفة، هذا الفعل يعتبر خروجا من الدين، لا تخرجْ عن الموضوع! ... هنا يكمن دور الاستعارة حيث يتمّ بها نقل معرفتنا بالاحتواء لتشكيل مفاهيم مجرّدة حول أمور أساسية كالتمرّد السياسي، وروحية كالدين» (المصدر نفسه، ص 27 ـ 28)؛ والحالة الثالثة لبنية الاحتواء هي حالة الدخول في الحاوية أو الوعاء. فمثلا إن قلنا: لا تدخل في هذا النقاش، فإننا نكون قد رسمنا مخطط صورة وعائي بجعل النقاش المجرّد كوعاء مادي أو مكان يدخل فيه الشخص. تظهر الصورة التالية الحالات الثلاث لمخطط الوعاء أو الحاوية:
شكل الرقم 2. الحالات الثلاث لمخطط الوعاء ـ مخطط القوّة[14]: إنّ ما يعرف تحت عنوان مخطط القوّة، إنّما يرتبط بالموانع التي تسدّ مسار الحركة وكيفيّات تعامل الشيء المتحرك مع هذه الموانع؛ إذ يعرّفه جونسون في كتابه الجسد في العقل بأنّه «يرسم نماذج أو أنماط من الصورة من كيفية مواجهة الإنسان مع المانع والحالات المختلفة التي تتصور إثرها، تكون التجارب المجرّدة بواسطتها قابلة للفهم» (1987م، ص ٤7). يمكن تصوّر ثلاث صور لهذا المخطط بناء على طريقة تعامل المتحرّك مع المانع ونتيجة هذا التعامل. ففي الحالة الأولى، وهي "مخطط الانسداد"، يحول المانع دون حركة المتحرّك والوصول إلى الهدف؛ في الحالة الثانية التي يسمّيها جونسون "مخطط الانحراف"، يجد المتحرّك طريقا آخر لاجتياز المانع، حيث ينحرف عن الطريق الأساسي ليصل إلى الهدف عبر طريق أو أسلوب آخر؛ وأما في الحالة الثالثة التي يُطلَق عليها "مخطط إزالة المانع"، فيجتاز المتحرّك المانع بإزالته والقدرة على الوصول مباشرة ودون انحراف إلى الهدف. الصور التالية ـ كما بيّنها جانسون ـ تظهر الحالات الثلاث لهذا المخطط.
2ـ٤. السيميائية الأنثروبولوجية واللغة يشير التعريف الاشتقاقي للأنثروبولوجيا إلى الإنسان، وهي في تعريفها الاصطلاحي «علم من العلوم الإنسانية يهتمّ بدراسة الإنسان من حيث قيمِهِ (قيم جمالية، ودينية، وأخلاقية، واقتصادية، وثقافية، واجتماعية) ومكتسباته الثقافية» (تيلوين، 2011م، ص 20). إذا ما أردنا دراسة استعمال اللغة ضمن الاستعارات المختلفة، من منظار ثقافي ـ إنساني، ندخل مضمار اللسانيات الأنثروبولوجية التي تبحث عن كيفية استخدام اللغة لكلّ جماعة وقوم. يعرّف هايمز[15] الأنثروبولوجيا الألسنية بأنها «دراسة الكلام واللغة في سياق الأنثروبولوجيا» أو «دراسة اللغة كثروة ثقافيّة، والكلام كممارسة ثقافية» (دورانتي، 2013م، ص 21 ـ 22). ينظر العلماء والباحثون في مجال الألسنية الأنثروبولوجيّة إلى الاستعارة كظاهرة ثقافية أكثر من كونها ظاهرة لغوية. يدلّ هذا الأمر على هذه الحقيقة أنّ الاستعارة لدى كلّ قوم تتسم بسمات ثقافية لذلك القوم.
3ـ1. استدعاء التراث من خلال مخططات الصورة في شعر كريم معتوق يتمتع شعر كريم معتوق بضخم تراثي جمّ، يحمل في طيّاته جوانب متعددة من الثقافة العربية والإسلامية، القديمة منها والحديثة المعاصرة لحياة الشاعر المؤثرة في تكوين نظرته إلى الحياة. انعكست هذه النظرة المشبَعة بالتراث في أدبه، حيث تأثّرت استعاراته بوضوح بهذه الصبغة العربية الإسلامية، الأمر الذي أدى إلى صياغة مخططات الصور بأشكالها المختلفة تحت تأثیر هذه الثقافة. فتوزّعت عناصرها تارة في المبدأ أو المستعار منه، وتارة في الهدف أو المستعار له، وبرزت بشكل منوالي، أي كأسلوب عام وشامل على المنوال الذي ساد وتأثّر به من الثقافة العربية وأدبها، يتكرّر في الأفكار وحتى الصياغة اللغوية المتأثّرة بلغة الأدب القديم تارة أخرى. 3ـ1ـ1. التراث العربي ورموزه وظّف معتوق شتّى أنواع الرموز التراثية العربية في شعره بشكل عام، وفي مخططات الصورة التي استخدمها للتعبير عن أفكاره ومشاعره بشكل خاص؛ إذ تأخذ هذه العناصر والرموز الثقافية، المتلقّي بشكل مؤثر وسريع إلى التراث القديم والثقافة العربية التي يجدها حاضرة في ذهنيته والذاكرة الجماعية، وكذلك من خلال آثارها الحيّة الباقية في بيئة حياته أحيانا. يقول كارل يونغ[16] عن هذا الأمر: «وجود اللاوعي الجماعي يعني أنّ ذهن أيّ فرد ليس لوحا أبيض، ولا يمكن أن يكون بمنأى عن التأثيرات التي تركت أثرها فيه سابقا. على العكس من ذلك، ينبغي القول إنّه إضافة على الآثار الحتميّة لبيئة الحياة على الإنسان، فإنّ الذهن متأثّر بشدّة بالتصورات المسبقة الموروثة» (1975م، ص 112). يوظّف معتوق مثلا "القِربة"، وهي رمز ثقافي ـ تراثي، كان يستعمل لنقل المياه والاحتفاظ به قديما، ولايزال رائجا في بعض القرى، وذلك باستخدامه "قراب" جمعا لها، خلاف ما ورد في معاجم اللغة من جموع لها "قربات، وقِرَب"[17]، ضمن مخطط الوعاء أو الحاوية، للتعبير عن يأسه وطول انتظاره، حيث يعتبر الوقت كظرفٍ امتلأ بماء الانتظار ولا أمل من الحبيب، فيقول: طالَ أمسُكِ طالَ وامتَلَأتْ قِرابُ الوقتِ وابتَلَّتْ مِن النِسيانِ حَتَّى كان ظَنّي لَن يَعود (2022م، ص 8٤).
شكل الرقم 6. مخطط الوعاء، ازدياد إلى الخارج يحصل الاحتواء هنا بازدياد المظروف من الداخل بتأثير من الخارج؛ والدليل على ذلك أنّ معتوق يشير إلى ابتلال القربة إثر النسيان، ويقصد من ذلك نضوح جلد القربة وابتلالها من الخارج، كلّما بقي الماء فيها أكثر. يستخدم معتوق الامتلاء التدريجي والمتزايد للقراب، لبيان أنّ زاده للسفر في رحلة الحبّ ليس إلّا الانتظار المتزايد. وبهذا، قد استخدم مخطط صورة حركية / اتجاهية للعشق كاستعارة مفهومية ـ تصويرية، حيث يعتبر العشق سفرا أو رحلة. وفي مخطط حاوية آخر، يوظّف معتوق مرّة أخرى وعاء ضمن أدوات العيش، ليعبّر عن مشاعر الشوق والحبّ لديه، حيث يقول:
(2011م، ج 2، ص ٤53). يلعب الماء دورا حيويا في حياة الإنسان، وخاصة العربي الخليجي. فكانت الجرّة تُستخدم لنقل المياه الصالحة للشرب والغسل في العهود القديمة، كما تُستخدَم حاليّا في بعض المناطق والقرى النائية. لقد ذكرها الشاعر كرمز ثقافي مستدعيا بها جانبا من التراث المادّي لقومه، وأراد التعبير عن أمر ازدياد الشوق في نفسه بعامل سحر عينيّ المحبوب رغم النسيان وانخفاضه لديه. فمرّة أخرى، يحصل الاحتواء بازدياد المظروف من الداخل بتأثير خارجي، كما بيّنا في الشاهد السابق. حُشدت مخططات الصورة بالعناصر الثقافية ـ التراثية في شعر معتوق؛ ذلك أنّ الشاعر عبّر في شعره عن تجربته في الحياة. فانعكست المعاناة ومشاعر اليأس والألم والوحدة والفراق التي مرّ بها في رحلة الحبّ والعشق في مخططات الصورة في شعره. شكّلت هذه التجارب في جوانب منها موانع في طريق الشاعر، فظهرت في شعره كمخططات قوّة اجتازت بعضها، ولم تجتز الأخرى، حيث واجه طريقا مسدودا، لم يوفّق في سعيه نحو الهدف أو انحرف عن المسار لاجتياز الأزمة. يشير معتوق في قصيدة هكذا تحدّث ابن رشد، إلى مغامراته لمواجهة الموانع في الوصول إلى الحبيب، فيقول: كَمْ حاذَروا وَأَتيتُ طوفانًا علَى السُفُنِ المُحَمَّلَة انتظارًا للسُقوطِ أَتَيتُ زِلزالًا عَلَى جُرُفِ الخِيامِ الواهِيَة (2022م، ص 126). يشبّه معتوق نفسه في هذه الصورة من مخطط القوّة الذي يُعدّ من النوع الثالث، بالطوفان الذي يضرب مانعا يحول دون وصوله إلى المحبوب في رحلة الحب (مسير الحركة نحو المعشوق)، وهي السفن المحمّلة، وبزلزال يزلزل مانع جرف الخيام الواهية. الموانع في هذا المخطط ليست على مستوى يضعف معتوق أمامها، بل يفوقها بفارق كبير جدّا. يستخدم معتوق عناصر بيئية، امتزجت بثقافة الشاعر الخليجية، كالبحر، والسفن المحمّلة بالبضائع، والخيام التي كانت تُنصب للعيش في الصحراء قديما. وعلى معتوق أن يجتاز جرف الخيمة الذي كانوا يقيمونه حول الخيام كحدّ يمنع دخول ماء المطر وعلامة للغرباء بعدم اجتيازه. فهي كانت قوام الحياة للإنسان العربي؛ لكنّها ضعيفة وواهية أمام إرادة الشاعر، ومحكوم عليها بالزوال. يوظف معتوق عدة مرات الرموز الثقافية والتراثية، مثل عناصر البحر والخيام، لاستعادة تراث الماضي من جانب، وانعكاس عناصر الذاكرة الجماعية وثقافتها من جانب آخر. شكل الرقم 7. مخطط القوّة، النوع الثالث: إزالة المانع أمّا النوع الآخر من مخططات القوّة، والذي قد انعكس في شعر معتوق، فهو النوع الثاني الذي يتعلّق بانحراف الحركة من طريقها وهدفها إلى هدف آخر، وذلك قد يشكّل نكسة أخرى تشبه الانسداد الكامل؛ لكنّه اجتياز للموانع بحلول ثانوية لا بدّ منها. فمثال على ذلك، الصورة التي قد رسمها معتوق من محمود درويش، حيث يطلق عليه تسمية "الفتى القرشي"، ويصف لجمه لجموح الكلمات الثائرة، يقول: كانَ الفَتَى القُرَشيّ يَعرِفُ عَن مَساوِئِنا ويَكتُبُ عَنْ مَحاسِنِنا ويُربِكُهُ جَوادُ الحَرفِ، يَلجِمُه فيَصْهَل ثُمّ يَلجِمُهُ لِيَبْتَدِعَ القَصيدَ ويَختَصِر (2011م، ج 2، ص 272). هناك عناصر كثيرة، تحيط بدرويش، تجعله يكبح ثورة كلماته التي تتطلّع إلى مستوى أعلى وفضاء أوسع من التعبير الصريح، فينحرف عن تلك الرغبات باختيار طريق ثالث، أي طريق آخر للتعبير، يمكّنه من اجتياز الموانع والحدود، ليحصر نفسه في إطار شعر مراعٍ للخطوط. شبّه معتوق الحرف والكلام بالجواد الذي يصهل ويُسمع صوته، وإن ألجِم، ويعد إحدى الرموز الثقافية العربية التي ترمز للشجاعة والإقدام. شكل الرقم 8. مخطط الانحراف (ضمن مخطط القوّة) 3ـ1ـ2. التراث اللغوي إحدى مظاهر استدعاء التراث في شعر معتوق، والتي قد انعكست في مخططات الصورة لديه، هي كثرة استعماله للغة التعبيرية القديمة بمفرداتها ومصطلحاتها التي كانت سائدة في لغة أهل ذلك العهد، أو أنّها حُوِّرت على لسان العرب المعاصرين، وأخذت تُستخدم بشكل مجازي واستعاري تشبيها بأصلها القديم. مثال على هذه الحالة، ما جاء في قصيدة سيرة ذاتية قصيرة، حيث يرسم معتوق صورة تشرح حاله في طفولته كالتالي: مِن رحلَةٍ بدأتْ بِطفلٍ أبلمٍ قطَعَ الحياةَ لِغيرِ ما يَدري النِّهاية لِلمَسار (2021م، ص 18). قد وظّف معتوق المخطط الحركي / الاتجاهي، ليصف رحلته في الحياة منذ الطفولة، ضمن استعارة "الحياة رحلة / سفر"، فعبّر عن العيش وتجربة الحياة بقطع الطريق للمسافر، والذي كان رائجا في العصور القديمة، للتعبير عن السفر، وهو قد أُخذ في أصله من قطع الطيور في طيرانها وهجرتها من بلد إلى بلد. فقد ورد في الصحاح: «قَطَعَتِ الطيرُ قُطُوعاً و قِطَاعاً : خرجتْ من بلاد البرد إلى بلاد الحرّ، فهى قَواطِعُ ذواهبُ أو رواجع» (198٤م، مادة قطع). ثمّ استخدمت مجازا للإنسان. فقيل مثلا: «قطعَ المفازة قطعا: جازَها» (الزبيدي، 1993م، مادّة قطع). وقد تكرّر هذا المعنى للطير في لسان العرب، والصحاح، وتاج العروس، وتهذيب اللغة، والعين. والمثال الآخر صفة "أبلم" التي وردت في الشاهد السابق. فقد قصد بها معتوق السكوت، كما جاء في المصادر، نحو معجم مقاييس اللغة، والقاموس المحيط. فالظن الغالب أنها كانت في أساسها تُستخدم للبعير، إذا أُبلمت شفتاه، أي غلظتْ، كما جاء في لسان العرب (1993م، مادّة بلم)، وتاج العروس: «الغليظ الشفتين منّا ومن الإبل» (المصدر نفسه، مادّة بلم)، وغيرها من أمّهات المصادر. ومَن أُبلِمت شفتاه تمنعه من التكلّم بوضوح. هناك معان مختلفة لبعض الكلمات، يعود بعضها إلى أصلها القديم. لقد استخدم معتوق معناها القديم في بعض مخططاته. فمثلا "الطعن" يعني أساسا «النخس في الشيء بما ينفذه، ثمّ يُحمل عليه ويُستعار» (ابن فارس، 2001م، مادّة طعن). فكما قال ابن فارس، إن ما خُلِق من معان أخرى من الأصل الثلاثي (طعن)، يُحمَل عليه أو يُستعار مجازا، كـ«طُعِن فلان، أي أُصيب بالطاعون» (الأزهري، 2000م، مادّة طعن). فأصله أنّ القدماء «يسمّون الطواعين: رماح الجنّ، ويزعمون أنّ الجنّ يطعنونهم» (الزمخشري، 1979م، ج 1، ص 391)، أو الطعن بأعراض الآخرين باللسان؛ «طعن عليه يطعن طعنًا وطِعنانا: ثلبه» (ابن منظور، 1993م، مادّة طعن). فالأصل الضرب بالرمح، وهنا الضرب في القول. يقول معتوق واصفا محنته التي جعلته في مأزق لا خروج منها إلى نجاة بتوظيف مخطط قوّة من النوع الأوّل، أيّ مخطط الانسداد:
(2022م، ص 59). فـ"طعن القنا" تعبير يشير إلى المعنى الأساس للطعن، والذي غالبا ما كان يُستخدَم قديما للحرب والقتال، والقنا الرمح. شكل الرقم 9. مخطط الانسداد ضمن مخطط القوّة استعمل معتوق الطعن في موضع آخر في المعنى نفسه؛ ولكن بشكل مجازي، يقصد منه نفاد الصبر، حين يصف حزنه إثر الفراق والشعور به عند المساء، فيقول ضمن مخطط صورة وعائي / احتوائي:
(المصدر نفسه، ص 16). فمعتوق في هذا المخطط يعتبر نفسه وعاء فيه صبره، فيُطعَن برمح الحزن الذي خلقه فراقُ حبيبه وتذكّره لوجهه عند المساء.
3ـ1ـ3. التراث الديني أحد العناصر التراثية التي تتكرر بكثرة في شعر معتوق هي رموز وعناصر التراث الديني، بما فيها التراث القرآني و التناصات التي صيغت تأثيرا بالنص القرآني والنصوص الإسلامية. إن مخططات الصورة ضمن الاستعارة المفهومية، قد أخذت حظّا من هذا التراث الذي يشكّل جزءا من المنظومة الفكرية ـ الثقافية لمعتوق ومجتمعه؛ إذ عاشها منذ طفولته، كما يبيّن لنا ذلك هو نفسه: فدَخَلتُ الدّينَ / صَلَّيتُ التَراويحَ / ... وفَطَرنا وتَصَنَّعنَا الصّيامَ / في لَيالي رَمَضان / ... وَتَسابَقْنا إلَى مائِدةٍ مِنْ فَرَحٍ / كانَ الفَطور / ... كانَ فينا طَبعُ كُلِّ الأنبياء / حينَ كُنّا في الصِّغَر (2015م، ص 11). ويقول عن دور المسجد والحياة الدينية التي عاشها في الطفولة: «كانت الحياة مزيجا من الانفعالات الدائمة، والشغب، والحركة التي لا تنقطع إلا بحلول الظلام، وكان المسجد هو محور هذه الحركة في الحيّ، وكان إمام المسجد يراقب الأطفال بعد الصلاة ليعرف من لم يحضر، فكأننا أشبه ما نكون بالمدرسة» (المصدر نفسه، ص 18). يقول معتوق في قصيدة وصايا، عن الماء ضمن مخطط صورة حركي / دائري:
(2022م، ص 67). يشبّه الشاعر تحريك الماء عند الوضوء حول الوجه بالطواف حول الكعبة، وهي حالة حركة اتجاهية دائرية حول وجه المتوضئ. ما يوحي بالشعور بالفخر للماء الذي یطوف الوجه، وقد شُبّه بشخص طائف، يتواضع عندما يمرّ بالقدم، وهي عضو دانٍ في الرتبة بالقياس مع الوجه ضمن علاقة فضائية فوق ـ تحتية، وظّفها معتوق لرسم صورة لتواضع الماء مجازا. في صورة ثانية للاستعارة المفهومية، يصف معتوق مشهد يوم القيامة ضمن مخطط الوعاء، وخروج الأجساد الدفينة من الارض بتشبيه من ينفض ما في جوفه إلى الخارج: نَفنَى ولا تَفنَى الدُّهورُ / يَومًا فَهَل يَفنَى الزَّمانُ؟ / يَومًا سَتَنفضُنا القُبور / فَبِأيِّ آلاءِ رَبَّكُما تُكَذّبانِ (2011م، ج 1، ص 396). كما أنّ الشاعر يوظّف تناصا قرآنيا في إطار هذا المخطّط مباشرة، حيث جاء نفض القبور في إشارة دون واسطة إلى يوم القيامة كتناصّ غير لفظي، وذلك استدعاء للآية القرآنية: «وأخرَجَت الأرضُ أثقَالَهَاª (زلزال 99: 2)، والآية: «وإذا القُبورُ بُعثِرَتْª (الانفطار 82: ٤)، والآية: «وأنَّ الساعَةَ آتِيَةٌ لا رَيبَ فيها وأنَّ اللَّهَ يَبعَثُ مَن في القُبورِª (الحج 22: 7). يشبه معتوق في إطار استعارة تشخيصية، القبرَ بمن يقوم بإخراج الأموات ونفضها من الأرض إلى الخارج كمخطط وعاء من النوع الثالث. 3ـ1ـ٤.التراث الشعبي الثقافة الشعبية بمكوّناتها المختلفة هي الأخرى التي انعكست في شعر معتوق. فإنّ الأدب المتأثّر من التراث كثيرا ما ينهل من المخزون الشعبي الذي تعود جذوره الى الثقافة العامّة التي ينتمي إليها ذلك الشعب. إنّ المخطّطات التي انعكس فيها هذا التراث، شملت في جانب منها مخطط القوّة أكثر من غيرها. فمعتوق يستعين بالتراث الشعبي في مواقف وظروف عدّة وحتّى في حال انسداد طريقه للوصول إلى غاياته. فنراه يعيد بنا إلى حكايات الحبّ القديمة التي تحوّلت إلى جانب من الثقافة الشعبية المعاصرة وأدبها مستدعيا شخصيّة قيس وليلى قائلًا:
(2022م، ص 17). إنّ الصورة التي يظهرها لنا معتوق في هذا المقطع، ترسم مخطط صورة للقوّة الحاصلة إثر مواجهة قيس موانعَ لحبّه ليلى، من قبيل كلام الناس وإشاعاتهم واتّهامه بالزندقة. وهو وصف تراثي قديم كان يُطلق على من اُتُهم بالكفر أو الارتداد. فالمخطّط في هذه الصورة من النوع الثالث، حيث ينجح فيه قيس للوصول إلى حبيبته واجتياز الموانع في رحلته لوصل المحبوب بالإباء والمحاربة، بل حتى بالاستعانة بعناصر شعبيّة كالتمائم، وهي «الخرز الذي يُعلّق على الإنسان أو الدابّة مخافة العين» (الشيباني، 197٤م، مادّة تمم). والرُقية هي «العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحُمّى والصرَع وغير ذلك من الآفات» (ابن منظور، 1993م، مادّة رقي). فإن دلّ هذا الاستدعاء على شيء، فإنما يدلّ على مكانة التراث الشعبي في ثقافة الشاعر والبيئة التي عاش فيها. كما تتكرر هذه الحالة في شاهد آخر، يقول معتوق فيه:
(2011م، ج 1، ص 92). يحثّ فيه معتوق الشباب وأبناء الوطن على الجهد الدؤوب لنيل الدرجات العالية باجتياز المصاعب. فيشبّه هذا الجهد بالغوص في أعماق البحر بحثا عن اللؤلؤ الثمين، وهي ثقافة شعبية عريقة كانت سائدة في المجتمع الخليجي، امتهنها كثير من الناس للحصول على أرباح بيع اللؤلؤ. فالصورة الاستعارية المفهومية في هذا المقطع مخطط وعائي من جانب، حيث هناك دخول من الخارج إلى داخل البحر الذي يعتبر وعاء يضمّ المياه واللآلي، ومخطط حركي ـ اتجاهي من جانب آخر، حيث هناك وصف مجازي عمودي من سطح الماء إلى عمقه. شكل الرقم 10. مخطط الوعاء، إلى الداخل فهناك أحيانا يحصل تداخل في بعض مخطّطات الصورة، كما أشار إليها بعض الباحثين. «قد تكون تجربتنا في غرفة ما منظَّمة بشكل تخطيطي بطرق عديدة، على الرغم من أنّ جملة معيّنة قد تركّز فقط على إحدى هذه الطرق. على سبيل المثال، تعتبر الغرفة بمثابة حاوية، ولكنّها أيضا ذات جوانب مختلفة ... عندما ينتقل هاري من جانب إلى الجانب الآخَر من الغرفة. فإنّه يعبر هذا المحور الرئيسي ]المخطط الحركي / الاتجاهي[» (همب، 2005م، ص 62 ـ 63). يعود معتوق مرة أخرى إلى جانب آخَر من التراث الشعبي، عبر شعوره بالإحباط من تحقّق الأمنيات، ورفع الموانع عن طريق الحُبّ، مستعينا بمخطط صورة القوّة التي يكابد فيها ألم الفراق والبعد من الوصول إلى حبيبته، والحواجز التي يخلّفها، ينشد: حَمَلتُ إليكِ تاريخَينِ/ تاريخٌ بِلا غايَة/ وتاريخٌ يُعيدُ الحُلمَ/ يَرفَعُ لِلهَنا رايَة/ حَمَلتُ جَنينَ أحلامي/ ولكِن غَابَتْ الدَّايَة (2011م، ج 2، ص 159). هذه المرّة مانع عدم مجيء الداية التي كانت تساعد النساء الحوامل على الإنجاب ووضع الحمل قديما، وكانت تحلّ محل المستشفيات وأخصّائي الإنجاب، هو الذي حرم الشاعر من وصل حبيبته، فيشبّه في هذه الاستعارة وصل الحبيبة بمجيء الداية لتحقق أمنيات الشاعر بلقاء المحبوب، أي ولادة الطفل. 3ـ1ـ5. النماذج العليا البدائية[19] وثنائيّات النسق الثقافي في مخطّطات الصورة يندرج هذا الجانب من البحث تحت عنوان النقد الأسطوري ـ النموذج أوّلي[20] الذي يقوم بسبر الموروث الثقافي المتكوّن من أساطير، ونماذج أوليّة، وموتيفات تنعكس في أدب كلّ قوم. «دخلت مفاهيم النقد الأسطوري النموذجي الدراساتِ النقدية للأدب، من مجالات أخرى في العلوم الإنسانية، مثل الأنثروبولوجيا وعلم النفس .... إن مساهمة الأنثروبولوجيا في تشكيل هذا النهج مدينة للأبحاث الرائدة لاثنين من المنظّرين الكبار في هذا المجال، وهما جيمس فريزر وكلود ليفي شتراوس، وترجع مساهمة علم النفس إلى أعمال كارل جوستاف يونج» (پاینده، 1٤01ﻫ.ش، ج 1، ص 299 ـ 300). يتكوّن النسق الثقافي تدريجيا وبالتزامن مع تكوين الذاكرة الجماعية بشكل لاإرادي، وهي تعمل عملها في لاوعي أبناء كلّ قوم، فتنتقل من جيل إلى جيل دون قصد وإرادة. عناصر النسق الثقافي التي تكوّنت طيلة حياة أي جماعة، لها أثر واسع على الثقافة التعبيرية، وبالتالي تنعكس على الأدب نظمه ونثره. تشمل هذه العناصر كافّة مناحي الحياة الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية، وغيرها من الجوانب. من ضمن هذه العناصر، هي النماذج والصور العليا البدائية، وهي «صورة ذات أهمية أساسية لها انعكاس روحي ونفسي عميق، بالإضافة إلى أنها تتكرر في أنواع مختلفة من الأدب» (غاري والشامي، 2005م، ص xv). وهذه الصور البدائية العليا تؤثر على تفكير ونظرة الشخص دون علم منه، حيث قام بعض علماء النفس، مثل كارل يونغ، بدراسة تأثير مكوّنات النسق الثقافي، والصور المكوّنة للذاكرة الجماعية المخزونة في لاوعي الأفراد، على تصرّفاتهم وتعاملهم مع الآخرين، وكذلك أزمات الحياة وطريقة حلّها. يقول كارل يونغ عن اللاوعي الجماعي وأثره على ثقافة الفرد: الحياة النفسية هي ذهن أجدادنا القدامى وتظهر ماهيّة أفكارهم ومشاعرهم، وماهية تصوّراتهم عن العالَم والحياة وكذلك الآلهة والبشر ... الذهن كالجسم تماما نوع من أنواع المتاحف التي تظهر التاريخ التكاملي لبني البشر. لا يوجد سبب كي نفكّر بأنّ ضمير الإنسان وروحه الشيء الوحيد في العالم الذي يتجلّي في الفرد فقط ولا تاريخ له أبعد من ذلك (1939م، ص 2٤). لقد انعكس أثر هذه الصور والنماذج البدائية في شعر معتوق بوضوح، حيث يمكن لمسها في نظرته إلى الأمور الإيجابية والسلبية، وشعوره بالسعادة والارتياح من جانب، أو عكس ذلك الحزن والألم واليأس من تحقيق الأحلام. من ضمن هذه النماذج العليا البدائية هي صورة الجود والكرم، مقابل البخل. فقد عُجن عقل العربي وفكره برجحان الكرم على البخل، حيث إنّه يعتبر البخل منقصة للعربي وعار عليه، إذا اتّصف به، واشتهر بين الناس. هناك شخصيّات تاريخية عربية، صيغت حولها قصص وحكايات وأساطير كثيرة لما كانت تحمل من روح العطاء والكرم، حتى وإن آثروا الضيف أو المحتاج على أنفسهم. فحاتم الطائي من هذه الشخصيات. إذن العربي مجبول في لاوعيه على قري الضيف، والجود والعطاء. وإيجابية الجود وسلبية البخل تنعكس في أدبه بطرق مختلفة بشكل مباشر وغير مباشر. يظهر هذا الأثر لصورة الكرم والبخل الثنائيّة في لاوعي الشخص العربي بشكل جليّ في شعر معتوق، حيث يقول ناصحا بعدم مجادلة الغبيّ:
(2022م، ص 66). يعتبر معتوق مجادلة الغبي كالذي يرتجي جودا من البخيل. إنّ البخيل، في استعارة ضمن مخطط القوّة الأوّل، وهو الانسداد، أقام سدّا لمجرى ماء الجود والكرم. الملفت للنظر هنا أنّ معتوق يشبّه بخل البخيل وامتناعه عن العون والعطاء بسدّه للماء؛ وبذلك يشير إلى ثنائيّة ثانية في النسق الثقافي العربي الذي ظهر من لا وعي معتوق في استعارته هذه، وهي ثنائية "الماء واللا ماء"، أو "الارتواء والعطش" العائدين بدورهما إلى ثنائية أكبر وأشمل، وهي ثنائية الخصب والجدب؛ إذ إنّ الخصب لا يحصل بدون ماء. إنّ حياة العربي الخليجي بشكل عام رهينة بشكل كبير للماء، بسبب عدم وجود أنهار في معظم جغرافيا حياته، وإنّ مياه البحر المالحة ليست صالحة للشرب؛ لذلك نرى معتوق يقارن بين الجود والماء. فإنّ جريان الماء في حياة العربي الخليجي أمر حيوي، وله صلة وثيقة بالجود والكرم؛ إذ لا كرم بمنع الماء عن من يحتاج إليه. في صورة أخرى ضمن مخطط وعائي / احتوائي، يخاطب معتوق من خلالها حبيبته، ويحثّها على الوصل وعدم الفراق باستخدام عناصر من ثنائية الماء وفقدانه (العطش والجدب):
(2021م، ص 31) يعتبر معتوق في البيت الأخير من الشاهد، جسمه كظرف لمشاعر الحزن والفراق، متمثّلا بالعطش الذي رمزت إليه الصحراء والسحاب بمطره وهطوله الرامز إلى مشاعر الوصل وسعادة اللقاء الذي يروي الشاعر ويزيل عطش الفراق. إن دلّت هذه الثنائية المتكررة في شعر معتوق المنعكسة في مخطّطات الصورة على شيء، فإنها تدلّ على وجود نموذج الماء والعطش البدائي في لا وعي الشاعر، والذي يعود إلى الذاكرة الجماعية ولا وعيها، ويبرز بين الحين والآخر في أدب أبنائها. الصورة النموذجية البدائية الأخرى التي تعيش في لاوعي العربي الخليجي، وتشكّل عاملا مؤثرا يلعب دوره في تفكيره وخياله، هي صورة البحر وما تتكوّن من ثقافة حوله. فالبحر بمساحته الشاسعة التي تمتدّ في الأفق، وترافق الذكريات الكثيرة منذ طفولة الإنسان الخليجيّ، وما يربطه بحياته من كسب رزق، وسفر، ومصدر غذاء، وكذلك القضايا الثقافية ـ الاجتماعية المرتبطة به، يتحول إلى عنصر هام، يبرز في الشعر الخليجي في أشكال متعددة، ومنها انعكاساته في شعر معتوق؛ إذ يقول:
(المصدر نفسه، ص 19).
شكل الرقم 11. مخطط الوعاء، الوجود في الوعاء حيث يشبّه معاناة العراق من الأزمات المختلفة، بغريق في بحر البراءة ضمن مخطط وعائي / احتوائي. فالغرق بالنسبة للخليجي مرتبط بالبحر الذي يعيش على ضفافه ويترزّق منه. يتكرّر هذا الانعكاس بوحي من اللاوعي التاريخي في شواهد أخرى، حيث يصف معتوق معاناته وحزنه الشديد الذي انتهى به إلى الكآبة المحدقة به من كلّ صوب قائلا:
(المصدر نفسه، ص 19). المخطط الموظّف في هذه الصورة هو مخطط القوّة من النوع الأوّل، أي مخطط الانسداد؛ إذ كلّما حاول الشاعر اجتياز بحر الحزن والكآبة إلى ساحل الخلاص، فشل وكأنّه يفرّ من سيف القاتل، فتسدّ طريقه مقصلة الجلّاد، فلا نجاة له من الانسداد. أما الصورة التالية التي وظّف فيها معتوق مخطط الصورة كمظهر للبحر وعناصره، فهي صورة أشرعة تمثّل الخيال، قد رفعها ليبحر عبرها، في بحر الليل الفسيح ليعبر البحر ويصل إلى ما يسمّيه المحال، فيقول: ورَفَعتُ أشرِعَةَ الخَيالِ / في دَوحَةِ اللَيلِ الفَسيح / أغفو لِأعبُرَ لِلمُحال (المصدر نفسه، ص 39). فرفع الشراع في حركة جهوية من التحت إلى الفوق ضمن مخطط اتجاهي / حركي، جاء باستخدام الأشرعة للسفينة، وذلك لاجتياز البحر الذي يرمز للموانع والعوائق ليصل إلى شاطئ الأحلام والأمنيّات؛ لكنّ هذا الإبحار أمر محال، كما يراه معتوق.
الخاتمة لقد اشتمل شعر معتوق على شتّى أنواع المخططات المندرجة تحت الاستعارة المفهومية؛ لكنّ المخططات التي يمكن البحث فيها عن عناصر أنثروبولوجيّة وقراءة سيميائية ثقافية لها، تقسّمت في هذا البحث على ثلاثة مخططات رئيسة، وهي: مخطط الاتّجاه ـ الحركة، ومخطط الوعاء ـ الاحتواء، ومخطط القوّة. استخدم معتوق تقنيّة استدعاء التراث في مخططات الصورة للتعبير عن مشاعره. فانعكست فيها المواصفات الأنثروبولوجية العربية، وذلك ضمن استدعاء التراث العربي، والتراث اللغوي، والتراث الديني، وكذلك التراث الشعبي. وظّف الشاعر عناصر ورموز ثقافية من الموروث القديم، وما عاشه في حياته، مما ترك أثرها على شعره. تبيّن من خلال دراسة سيميائية أنثروبولوجية في مخططات الصورة في شعر معتوق، أنّه متأثّر جدّا بالتراث العربي القديم من الأدب، واللغة، والدين، والذي تمثّل بالتراث الإسلامي ـ القرآني. فتأثّرت لغته الشعرية بالأساليب التعبيريّة القديمة. أظهر هذا البحث أنّ مخططات الصورة في شعر معتوق متأثّرة بعناصر الصور النموذجية البدائية الثنائية، كالجود والبخل، والماء والجفاف، والبحر والصحراء وعناصر أخرى لها جذور عريقة في ثقافة الشاعر وحياته، وتتكرر في الأدب العربي في منطقة الخليج خاصّة.
[1]. Mark Johnson [2]. George Lakoff [3]. Frederic Charles Bartlett [4] .كريم معتوق شاعر وكاتب إماراتي معاصر، وُلد في الشارقة عام 1963. نشط في الإعلام والصحافة وكان يكتب مقالات في الصحف المحليّة، كما قدّم عددا من البرامج الإذاعية والتلفزيونية لمحطّات أبو ظبي ودبي. أصدر عدّة دواوين شعرية، من ضمنها: ديوان الطفولة (1922)، وديوان طوّقتني (1990)، وديوان هذا أنا (1996)، وديوان مجنونة (1996)، وديوان الطلقة الأخيرة (2011)، وغيرها من الأعمال الشعرية، وتُوّج بلقب أمير الشعراء في الموسم الأول من برنامج أمير الشعراء الذي يقام في الإمارات، عام 2007. آخر ديوان، أصدره، كان عام 2022، تحت عنوان لم يكن حبّا.
[5]. Cognitive Linguistics [6]. Cognitive Semantics [7] .Geshtalt Psychology [8]. Image Schema [9]. كما يسمّيها زولاتن كوفكسس في كتابه الاستعارة: مقدمة عمليّة، 2000م. [10]. Leonard Talmy [11]. Ronald Langacker [12]. Orientational Metaphors [13]. Container / Containment Metaphors [14]. Force Metaphors [15]. ديل هاثاواي هايمز (7 يونيو 1927 ـ 13 نوفمبر 2009) (Dell Hathaway Hymes) أنثروبولوجي ولغوي أمريكي متخصص في اللسانيات الاجتماعية. ارتكزت أبحاثه على اللغات الأصلية للأمريكتين في إقليم الشمال الغربي الهادئ. [16]. Carl Gustav Jung [17]. القِرْبةُ الوَطْبُ من اللَّبَن، وقد تكون للماءِ؛ وقيل: هي المَخْروزة من جانبٍ واحد؛ والجمع في أَدْنى العدد: قِرْباتٌ وقِرِباتٌ وقِرَباتٌ، والكثير قِرَب (ابن منظور، 1993م، مادّة قرب). [18]. استعَرَّتْ عَلَيكُم الغَنَم: نَدَّتْ واستَعصَتْ (الشرتوني، 1982م، مادة ع ر ر). [19]. Archetypes [20]. الحوافز الأصلية والفطرية، في تخيّل كافة الناس، كيفما كانت انتماءاتهم المجتمعية. وهي كذلك سرد أو حبكة أو شخصية، تحيل القارئ على الذاكرة الجماعية، باعتبارها موروثا سلفيا، يظهر على السطح في شكل أساطير وأشعار (علوش، 1985م، ص 222 ـ 223). | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مراجع | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
* القرآن الكريم. أ. العربية ابن فارس، أبو الحسين أحمد. (2001م). معجم مقاييس اللغة. بيروت: دار إحياء التراث العربي. ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم. (1993م). لسان العرب. بيروت: دار صادر. الأزهري، أبو منصور محمد بن أحمد. (2000م). تهذيب اللغة. بيروت: دار إحياء التراث العربي. التركي، إبراهيم بن منصور. (2017م). «البعد الفكري والثقافي للاستعارة في البلاغة العرفانية». فصول. ج ٤. ع 100. ص 451 ـ 469. تيلوين، مصطفى. (2011م). مدخل عام في الأنثروبولوجيا. بيروت: دار الفارابي. الجوهري، أبو نصر إسماعيل بن حمّاد. (198٤م). الصحاح. بيروت: دار العلم للملايين. الحراصي، عبد اللّٰه. (2002م). دراسات في الاستعارة المفهومية. مسقط: كتاب نزوى. دورانتي، الساندرو. (2013م). الأنثروبولوجية الألسنية. ترجمة فرانك درويش. ط 8. بيروت: المنظمة العربية للترجمة. الزبيدي، مرتضى. (1٤1٤م). تاج العروس من جواهر القاموس. بيروت: دار الفكر. الزمخشري، أبو القاسم جار اللّٰه محمود بن عمر. (1979م). أساس البلاغة. بيروت: دار صادر. الشرتوني، سعيد. (1982م). أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد. قم: مكتبة المرعشي النجفي. الشيباني، إسحاق بن مرار. (197٤م). كتاب الجيم. القاهرة: الهیئة العامة لشؤون المطابع الأمیریة. الصاحب، إسماعيل بن عبّاد. (1٤1٤م). المحیط في اللغة. بيروت: عالم الكتب. الصغير، محمد حسين علي؛ وجنان تكليف علي النصراوي. (2020م). «التعبير بالاستعارة التصوّريّة عن التقابلات الوجدانيّة في القرآن الكريم». المجلة الدوليّة للعلوم الانسانية والاجتماعية. ع 13. ص 36 ـ 52. الصینی، محمود إسماعيل. (1٤1٤ﻫ). المكنز العربي المعاصر. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون. العسكري، أبو هلال الحسن بن عبد اللّٰه. (1971م). الصناعتين. القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي. علوش، سعيد. (1985م). معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة. بيروت: دار الكتب اللبنانية. عليبي، رضا عبد اللّٰه. (2018م). «المعنى، المبنى، خطاطة القوّة في شعر الصعاليك: "الشنفرى نموذجا"، مقاربة عرفانية». مجلة آداب القيروان. ع 13. ص 81 ـ 106. لايكوف، جورج. (201٤م). النظرية المعاصرة للاستعارة. الإسكندرية: مكتبة الاسكندرية. ـــــــــــــــــ . (1991م). اللسانيات ومنطق اللغة الطبيعي. ترجمة عبد القادر قنيني. الدار البيضاء: أفريقيا الشرق. ـــــــــــــــــ؛ ومارك جونسن. (2009م). الاستعارات التي نحيا بها. ترجمة عبدالحميد جحفة. الدار البيضاء: دار توبقال للنشر. معتوق، كريم. (2011م). ديوان الشعر. أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث. ــــــــــــــ . (2015م). سيرة ذاتية تشبهني. أبو ظبي: نبطيّ للنشر. ــــــــــــــ . (2021م). ولديّ أقوال أخرى. الشارقة: دار عشتار للنشر والتوزيع. ــــــــــــــ . (2022م). لم يكن حبّا. الشارقة: كريم معتوق. الميلود، حاجي. (2017م). «الاستعارة في نماذج من شعر محمود درويش: مقاربة عرفانية». فصول. ج ٤. ع 100. ص 431 ـ 451. هوكس، تيرنس. (2016م). الاستعارة. ترجمة عمر زكريّا إبراهيم. القاهرة: المركز القومي للترجمة.
ب. الفارسية باقرآبادى، شهريار؛ على سليمى، و تورج زينىوند. (1399ﻫ.ش). «كاربرد طرحوارههاى تصويرى در سرودههاى سهراب سپهری و خليل حاوى: بر اساس نظريه معناشناسى شناختى».ادب عربى. ج ٤. ع 12. ص 1 ـ 18. پاینده، حسين. (1٤01ﻫ.ش). نظریه و نقد ادبی. چ ٤. تهران: سمت. جمشيدی، فرشته؛ و علیاكبر محسنی. (2020م). «كاربرد طرحوارههای تصويری و استعاره مفهومی در شعر انحطاط با تكيه بر مطالعات قرآنی». مطالعات قرآنی. ج 12. ع ٤7. ص 89 ـ 118. فتحی ايرانشاهی، طيبه؛ سيد محمود ميرزايی الحسينی، و شیرین پورابراهیم. (2021م). «طرحوارههای تصویری حوزه احساسات در رمان حکایات یوسف تادرس». مجله انجمن زبان و ادبیات عربی. ج 17. ع 58. ص 131 ـ 15٤.
ج. الإنجليزية غاري والشامي Garry, J & H. ElShamy. (2005). Archetypes and motifs in folklore and literature. New York: M.E Sharpe. جيرايرتس وكويكينز Geeraerts, D & H. Cuyckens. (2007). The Oxford handbook of cognitive linguistics. New York: Oxford University Press Inc. همب Hampe, B. (2005). From Perception to Meaning, Image Schemas in Cognitive Linguistics. Berlin: Mouton de gruiter. هدبلوم Hedblom, M. (2019). Image Schemas and Concept Invention: Cognitive, Logical, and Linguistic Investigations. Doctoral dissertation. Magdeburg, Germany: Otto-von-Guricke university, Faculty of computer scince. جونسن Johnson, M. (1987). The body in the mind: The bodily basis of meaning, imagination, and reason. Chicago: University of Chicago Press. ------------. (2017). Embodied mind, meaning, and reason : how our bodies give rise. Chicago, United States of America: The University of Chicago Press. يونغ Jung, C. (1939). The integration of the personality. New York: Farrar & Rinehart. --------- (1975). The significance of constitution and heredity in psychology, the collected works of C.G. Jung. Princeton: Princeton University Press. ترسك Trask, R. (2005). Key consepts in language and linguistic. New York: Routledge. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 54 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 37 |