تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,686 |
تعداد مقالات | 13,791 |
تعداد مشاهده مقاله | 32,391,004 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 12,793,521 |
تحلیل الأفعال الکلامية في سورة النور علی ضوء نظریة جان سیرل | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
دوره 17، شماره 32، تیر 2025، صفحه 1-16 اصل مقاله (1.33 M) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2024.141341.1519 | ||
نویسندگان | ||
سعید بهمن آبادی1؛ على اكبر فراتى* 2؛ کوثر بهمن آبادی3 | ||
1طالب الدكتوراه في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة طهران، طهران، إيران | ||
2أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة طهران، طهران، إيران | ||
3طالبة الماجستير في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة طهران، طهران، إيران | ||
چکیده | ||
تعد نظریة الفعل الکلامي من الاتجاهات التداولیة التي تضع السیاق الخارجي للنص في خانة اهتماهها في تحلیل الخطاب الذي یولّده المؤلف؛ وذلك للکشف عن مقصدیته التي أراد إيصالها إلی المتلقّي. وعلی المتلقي أنْ یأخذ هذا الأمر (السیاق الخارجي) بعین الاعتبار، لإدراك أحسن للنصّ. وهذا من إنجازات هذه النظریة التي قد أسّسها أوستین، وقد وسّعها ونظّهما جان سیرل؛ وذلك بتتبع دراسات أستاذه أوستین. المقال یعالج آيات سورة النور المبارکة التي تتناول عدة موضوعات، أهمّها قضیة (الإفك) التي تحذّر منها؛ وذلك بسبب العقوبات التي تعقب الکاذبین في هذا الأمر. هذا المقال منهجه الوصفي – التحلیلي، بحیث قد اتخذ نظریة الفعل الکلامي أسلوباً لتحلیل آیات سورة النور المبارکة. یهدف المقال إلی دراسة آیات سورة النور المبارکة، وفق النظریة المذکورة، للکشف عن المعاني الضمنیة للمتکّلم في کلامه، ويييّن أن السیاق الخارجي للنصّ له تأثیر ملحوظ في فهم المتلقي. من النتائج التي توصّل إلیها المقال، وذلك وفق تطبیقه نظرية الأفعال الكلامية علی آیات السورة المذکورة، علی ضوء تقسيم سيرل للأفعال الكلامية، أنّ المتكلّم وظّف فعلي الكلامي الإخباري والتوجيهي، حيث بيّن مكانة المفترين في الآخرة، والنظام الطبيعي للعالم، وخلق الليل والنهار، وحالة الأشخاص المتظاهرين بالإيمان، وخصائص المؤمنين وإبلاغ الخبر للانسان من حيث علمه بأعمالهم، وذلك من خلال الفعل الكلامي الإخباري، والأمر بإقامة الصلاة، وأداء الزكاة، وإطاعة نبيّه (|)، ونهي المؤمنين عن الأفكار التي تسبّب الشك في قدرة اللّٰه تعالى. وأما وفقاً للموقف الخارجي، فالأهداف الكلامية الضمنية للمتكلّم تختزل في الأفعال الكلامية الالتزامية والتوجيهية والتعبيرية والإعلانية، وهذا تمّ كشفه عن طريق مقام النصّ؛ فإنّ الآليات اللغوية المستخدمة من جانب المتكلّم تتناسب تماماً مع أهدافه، وهذا مؤشّر على معرفته بالموقف الكلامي والبلاغة بأكمله. وفقاً لتحليل الآيات، أنّ نسبة استخدام الفعل الكلامي التوجيهي هي الأكثر بالنسبة للأفعال الكلامية الأخرى، كما أنَّ الموقف الكلامي للآيات المنورة قد ساعد بشكل ملحوظ في الوصول إلى ما قاله المتكلّم ضمنيّاً، وهو الأمر الذي يُعدّ الأساس في نظرية الفعل الكلامي. | ||
کلیدواژهها | ||
القرآن الكريم؛ الأفعال الكلامية؛ جان سرل؛ السیاق الخارجي؛ المعنی الضمني؛ سورة النور المباركة | ||
اصل مقاله | ||
تعتبر الدراسات الحديثة للنص والخطاب دراسة فنية وحديثة في اللسانيات المعاصرة، تتجاوز وصف الجملة، وتتناول المعاني الكامنة والخفية، بحيث تُحظى نظرية الأفعال الكلامية بالأهمية من المكان في تبيين الخطاب ما عرضه أولاً جون أستين[1]، ثم أنضجه تلميذه، وقسّم له خمسة تقسيمات تَضع تحت الإخباريات، والتوجيهات، والتعبيرات، والإعلانيات، والالتزاميات، بحيث يمكن معالجة النصوص، وخاصة النصوص السياسية والعقائدية من هذا المنطلق، والحصول على المعاني والدلالات الكامنة وتفسيرها بشكل واضح، وذلك حسب السیاق الخارجي للنصوص. وهذا الأخیر قد صار محط الاهتمام من جانب منظّري هذه النظریة، بحیث قد اعتبروا الکلام أمراً خارجیا یحدث في المواقف المختلفة في العالم الخارجي؛ لذلك قد عبّروا عن قولهم بأنّه على القارئ والمتلقي العنایة بالسیاق الخارجي، وذلك لإدراك أعمق للنص للوصول إلى ما قاله المتكلّم ضمنيّاً خلال حديثه. هذا، ويهدف المقال إلى تناول آيات سورة النور المباركة، في ظل نظرية الأفعال الكلامية، مستلاً الأفعال الكلامية، وذلك بناء على مقام النص ومقتضاه. وأما الهدف الرئيس من البحث، فهو ينحصر في الکشف عن المعاني الكامنة للمتكلّم في سورة النور المبارکة، وفق السیاق الخارجي لها. وأما أسئلة البحث، فهي فيما يلي: ـ كيف يوظّف المتكلّم الأفعال الكلامية في سورة النور لإبلاغ رسالته؟ ـ أي واحد من الأفعال الکلامیة يحظى بالتردّد الأكثر في السورة المباركة؟ 1ـ1. منهج البحث يسعى المقال إلى تناول المقام النصي لسورة النور المباركة، منتهجاً المنهج الوصفي ـ التحليلي، ويحاول تطبیق نظریة الفعل الکلامي علی آیات السورة المذکورة، باعتبارها أسلوباً للبحث؛ وذلك للکشف عن المعاني الضمنیة للمتکّلم في کلامه حسب السیاق الخارجي، وتبیین مدی تأثیر الأخیر في فهم المتلقي لمقصدیة المتکلم. وفي هذا السیاق، فإنّ البحث قد شرح ـ في بادئ الأمر ـ التداولية اللغوية، والأفعال الكلامية، وأقسامها الخماسية لجون سيرل[2]، وفي الإطار التطبيقي، قد قام البحث بتحلیل آيات السورة الشريفة علی ضوء النظریة المذکورة آنفا. 1ـ2. خلفية البحث الدراسات السابقة للمقالة كما هي: مقالة الأبعاد الدلالية في سورة النور: دراسة تطبيقية، لميادة عكاوي (٢٠١٩م). يعالج هذا البحث الأبعاد الدلالية في سورة النور المباركة دراسة تطبيقية لأمثلة دلالاتها المعجمية، والصرفية، والنحوية، والصوتية، والنفسية، والاجتماعية، والسياقية؛ وذلك للوقوف على القيم المنطوية في هذه الدلالات. ومن النتائج أنّ الأبعاد الدلالية في سورة النور المباركة تختصر في حدّ الزنا والقذف، لتبيّن أنّ آية النور في أبعادها الدلالية التقت مع محور التربية والهداية، وأنّ الدلالة المعجمية تتّخذ معاني جديدة عند دخولها السياق بحسب موقعها من الدلالات المتقدمة. ومقالة صيغة الأمر والنهي في سورة النور: دراسة تحليلية في علم المعاني، لسيتي خنيفة (٢٠١٦م). يهدف هذا البحث إلى دراسة تحليلية لمعاني صيغة الأمر والنهي الموجودتين في سورة النور. ومن النتائج أنّ معنى الأمر يتكوّن من ستة عشر أصليّا وثلاثة عشر خارجاً عن المعنى الأصلي، ويتكوّن معنى النهي من الأربع أصلياً والستة خارجاً عن المعنى الأصلي. ومقالة سورة النور: دراسة بلاغية أسلوبية، لمرجان رادية (٢٠١٢م). يهدف هذا البحث إلى دراسة بلاغية أسلوبية لسورة النور الشريفة. ومن نتائجها هو أنّ كلّ مفردة في القرآن تُحظى بمعنى ما في مكانتها، وحتى الحروف لا يمكن تغيير مواقعها ومواضعها، ما أوردها اللّٰه تعالى إلا لمكانها في التركيب، وكذلك أنّ كلّ تقديم أو تأخير أو ذكر الكلمة بصورة التنكير والتعريف له سبب وغرض بلاغي. ورسالة استخدام اسم الإشارة في سورة النور: دراسة تحليلية تداولية، لعائشة (٢٠١٥م). يسعى هذا البحث إلى دراسة استخدام أنواع اسم الإشارة في سورة النور المباركة. ومن النتائج المتوصّلة إليها أنّ أشكال من اسم الإشارة الشخصية بضمير المتصل في سورة النور توجد منذ الآية الأولى حتى الآية الأربعة وثلاثين. وأما وظائف اسم الإشارة الشخصية، فهي تنقسم إلى اسم الإشارة الشخصية بضميري المتصل والمنفصل. ورسالة الكلام الخبري في سورة النور: دراسة بلاغية، لمحمد إرشادي (٢٠١٩م). يعالج هذا البحث أنواع الكلام الخبري في سورة النور الشريفة، ويدرس أغراض الكلام الخبري فيها دراسة بلاغية. ومن النتائج هي أنّ هناك العديد من من الكلام الخبري الوارد في سورة النور، وهي الكلام الخبري الابتدائي، والطلبي، والإنكاري. وتبين أيضا أن أغراض الكلام الخبري في سورة النور تختزل في فائدة الخبر والمدح والتحذير. ورسالة الجملة في سورة النور: دراسة نحوية بلاغية، لوردة بوعطية (2016 ـ 2017م). يهدف هذا البحث إلى الدراسة النحوية البلاغية للجمل في سورة النور الكريمة. ومن نتائجه هو أنّ الجملة هي المحور الأساس في التراكيب اللغوية، بحيث تخضع كلّ اللغات الطبيعية لمجموعة من القواعد التي تضبط مختلف العلاقات المتحكمة في تجاور وحداتها، وتحث السورة الشريفة على آداب وتعاليم اجتماعية، غرضها البلاغي هو التوجيه والإرشاد. ودراسة سورة النور: دراسة تحليلية نحوية، لعلي محمد النوري (١٩٨٥م). يركز هذا البحث على دراسة سورة النور المباركة دراسة تحليلية نحوية. ومن نتائجه هو أنّه وظّف المتكلم الفعل السالم توظيفاً أكثر بالنسبة إلى بقية الأنواع في سورة النور، وأنّ الفعل المجرد أكثر استعمالاً بالنسبة إلى الفعل المزيد. كما سبق ذكره خلفية لبحثنا هذا، فإنّا نلاحظ أن الباحثين الكرام قد تطرّقوا إلى الآيات المنورة لسورة النور من وجهة نظرهم، وتوصّلوا إلى نتيجة ما حسب دراستهم، وإنّ بحثنا هذا قد يسعى إلى تطبيق نظرية الفعل الكلامي لسيرل على الآيات للسورة المباركة. وفقاً للدراسات السابقة، يعد هذا الاتجاه التداولي حديثاً بالنسبة إلى السورة، وتختلف نتائج المقال عما سبقه تماماً، وهذه الميزة تُعطي بحثنا الجدة وتعتبر السمة البارزة له. ۲. الإطار النظري للبحث 2ـ1. التداولية ظهرت التداولية لتتناول اللغة وتبين دورها والمعنى وذلك من خلال المقام والسياق لتعالج دلالة المتكلم حين التواصل مع المتلقي تفادياً للقراءات السقيمة، وألقت الضوء على التواصل بحيث تعتبر القضايا المقامية أساساً للتواصل مع المتلقي ولفهم دلالة المتكلم (كاطع، ٢٠٢٢م، ص ٢٢). تعتبر التداولية نظرية مستقلة في السبعينات من القرن العشرين للميلاد؛ وذلك بسبب الاتجاهات الشكلية من مثل علم الدلالة التوليدي ومتأثرة من علم الدلالة، بحيث تدل الاتجاهات اللغوية أن اللغويين يعتنون باللغة التواصلية، كما أنّ الفلاسفة يتناولون اللغة بوصفها نظاماً شكلياً وأداةً للحصول على الإنجازات العلمية. ولهذا إنّ اللغة بناءً على النظريات المعاصرة وسيلة للتواصل بين المجتمع. وعلى هذا، تعدّ اللغة وسيلة للتواصل يوظفه المجتمع لغرض المعاني والتواصل الاجتماعي (جميل، 1988م، ص 6۷). وتبعاً لما جاء، نستنتج أنّ اللغة وسيلة معقدة للتواصل وظاهرة جماعية يختارها المتكلم للتعبير عن المعنى وبحسب المقام والمتلقي؛ وذلك من خلال الوظائف اللغوية إنجازاً للدلالة وترك الأثر المطلوب على المخاطب (كاطع، ٢٠٢٢م، ص ٢٢). تتفق الاتجاهات الفلسفية حول الدلالة جميعاً أنّ الغرض الواقع بين المتكلم والمتلقي يفسر بناءً على السياق، ولو تُحظى بوجوه متمايزة فيما تشترك التداولية مع هذا المبدأ، وتفسر اللغة في السياق؛ وبعبارة أخرى (المصدر نفسه، ٢٠٢٢م، ص ٢٣)، أنّ «التداولية تعالج وظيفة الألفاظ في التواصل الاجتماعي، وتعتني بها في المحادثات وحين التواصل» (ليكن، 2008م، ص 137). لهذا واستناداً إلی ما تمّ ذکره، فإنّ المستخدم یجب أن يهتم بانتقاء ألفاظ دقيقة وهادفة لأجل تواصل ناجح بالغرض، ويضع البصمات على المقام والمقتضى لينقل المعنى إلى المخاطب من جانب، ويحصل على المعنى المطلوب من جانب آخر، بحيث يمكن القول إنّ المقام يؤدّي دوراً بارزاً في استيعاب مقصود المتكلم، وفي نقله إلى السامع (كاطع، ٢٠٢٢م، ص٢٥). هذا الأمر نفسه هو الأساس في أيّ الاتصال بالآخرین، ورعایة ظروف المتلقي تعدّ أساساً للاتصال الناجح والمفید. بعبارة أخری، أنّ الباثّ یتحتّم علیه أن یقیّد نفسه في الإطار الکلامي وفق الظروف، وعلی المخاطَب والقارئ أن یأخذا هذه الأخیرة بعین الاعتبار. ولهذا، تعالج في التداولية دلالة الجمل، وذلك في البيئة الناتجة للغة، بحيث تؤثر إلى جانب العناصر اللغوية عناصر مختلفة من مثل الدلالة المكانية، والزمنية، والاجتماعية، والتاريخية، والأدبية في تأويل النص (نجفي وآخرون، 1396ه.ش، ص 1). هذا «ولا تهدف التداولية إلى الألفاظ، بل إلى الأفعال وأغراضها» (كوك، 1389ﻫ.ش، ص 58). نستنتج ممّا تبيّن في النص أعلاه، أنّه لا يتحقق مثل هذا التواصل في عالم الواقع بمساعدة المفردات والجمل والتأويل، بل يتوجه بالمقام، بحيث نحتاج إلى التنقل من الشكل إلى المعنى، وكذلك من اللغة إلى التداولية أو المعنى السياقي الذي قد يكون من الأهمية بالمكان في تحديد قصدية المتكلّم من جانب المخاطَب والقارئ، ويساعده بشكل كبير على ما يضمره من أهداف وأغراض. ومن خلال السياق الخارجي، لا يكتفي المخاطَب بالمعنى المعجمي الذي يختزل النص في السياق الداخلي، بل يولي الاهتمام البالغ للمواقف المحاطة بإنتاج النصّ. وهذا الأخير، أي السياق الخارجي، هو الركيزة المعتمدة عليه في نظرية الفعل الكلامي.
2ـ2. نظرية الأفعال الكلامية ظهرت النظرية لأول مرة لدى جون أوستن، ثم طورها الفيلسوف الراحل، جون سيرل، وتعتمد على حقيقة أنّ الكلام يمكن أن يتخذ جانباً موضوعياً وعملياً، بحيث تكمن الأهمية الرئيسة لنظرية الفعل اللغوي في ظهور طرق جديدة للدراسات اللغوية في أنّ هذه النظرية تخلق جسراً وبيئةً بين النظرية اللغوية المجردة والحقائق الموضوعية، إضافةً إلى الملاحظات حول كيفية استخدام اللغة، كما تمنحنا معلومات مثيرة للاهتمام حول الاستخدام الموضوعي للغة (كاطع، ٢٠٢٢م، ص ٢٦). يعدّ الفعل الكلامي بحد ذاته جانباً مهماً من التداولية، حيث إنّه يناقش معاني محددة يحيلها المساهمون في الخطاب إلى مكونات النص، بناءً على معرفتهم الخلفية وتفسيرهم لسياق النص. وفقاً لما سبق ذكره، فيجب أن نقول إنّ نظرية الفعل الكلامي قد توصّلت إلى أن السياق الخارجي للنص والموقف الكلامي قد يُحظيان بالأهمية للكشف عما يقصده المتكلّم، وأن الوصول إلى هذا الموضوع (السياق الخارجي) كان من الميزات البارزة لهذة النظرية، بحيث النظريات المسبقة قد عالجت اللغة نفسها فقط، ولا ترى للغة جانباً خارجيّاً، وليس ديناميكيّاً، واختصرت اللغة في معناها الداخلي، والمقصود به هو السياق الداخلي؛ ولكنّ نظرية الفعل الكلامي قد أثبت الجانب الخارجي للغة بوقوعها في العالم الخارجي، ولاقى هذا الاكتشاف الاستحسان من جانب الباحثين في مجال اللغة. يمكن الاستنتاج أنّ النمط الذي قدمته نظرية الفعل الكلامي للغة هو الموقف حول استخدام معنى اللغة في السياق، وتضع السلوك اللغوي في صميم الظروف الاجتماعية والبيئة التي تنشأ عنها والدالة على التواصل والسلوك (كاطع، ٢٠٢٢م، ص ٢٦). یمکننا القول بأنَّ نظرية الفعل الكلامي توصّلت إلى أن اللغة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالبيئة المحيطة بالشخص، بحيث إنّه يتأثّر كثيراً بالمجتمع الذي يعيش فيه، وهذا التأثُّر يبرز في سلكوياته وكيفية تواصله بالآخرين، وبالتالي هذة البيئة المُحاطة به هي السبيل الوحيد للكشف عما يقوله ضمنيّاً ولمعرفة الثقافة السائدة على مجتمعه. وفصل القول لهذة النظرية أنّ البيئة تعطي المعنى للغة بجميع جوانبها. ترتبط نظرية الفعل الكلامي باسم جون أوستن، حيث لم يقدم تشكيل نظرية الفعل الكلامي عمل الكلام؛ لأنّه كان دوره في النهاية عبارة عن مجموعة من المحاضرات التي ألقيت في جامعة هارفارد في عام 1955، تليها عنوان محاضرة كيف تتعامل مع الكلمات، فيما اقترح أوستن أنه بدلاً من التأكيد على الدور الوصفي للغة، من الأفضل تعريف اللغة كوسيلة لفعل الأشياء. ويهدف أوستن في البداية إلى تحدي ما أسماه مغالطة وصفية (المصدر نفسه، ٢٠٢٢م، ص ٢٨). ووفقًا لهذا الرأي، تم اعتبار الدور الرئيسي للغة لإنتاج جمل إخبارية أو لوصف الواقع؛ ولهذا كان هدفه الأكثر تحديداً هو الاستجابة لاتجاه الوضعية فيما تتعلق بالعقلانية. فكانت معارضته، في الواقع، للمبادئ الثلاثة التي تكمن وراء موقف المنطقيين الوضعيين في دائرة فيينا، فيما تتعلق بالجمل الإخبارية باعتبارها النوع الرئيسي للجمل، وإبلاغ الجمل باعتبارها الاستخدام الرئيسي للغة، وتحديد صدق الكلام وكذبه (صفوي، 1391ه.ش، ص 27۲). وهكذا، برفضه تقسيم الوضعيين المنطقيين عن اللغة، قسّم الخطابات إلى فئتين: الإخبار والإنشاء، بحيث اعتبر الفرق بين الاثنين في قدرة الافتراضات على الصدق والكذب. وسرعان ما أظهرت دراسات أوستن الأكثر تفصيلاً وعمقاً أنّه من الخطأ تقسيم اللغة إلى إخبار وإنشاء؛ لأنّ ما ينطبق على الإخبار ينطبق أيضاً على الإنشاء، وأخيراً ذكر أنّ الأفعال الكلامية هي من نوع الإنشاء والفعل (صحراوي، ٢٠٠٥م، ص ٨٥). هذه هي الطريقة التي توصل بها أوستن إلى نظرية الأفعال الكلامية، وقدمها لأول مرة تحت ستار نظرية فلسفية، بحيث يقدم تعريفا جديدا لنظرية الفعل الكلامي، والذي يقوم على التعرف على المستويات الثلاثة للعمل المنجز من خلال الكلام، بدلاً من التمييز بين الأفعال والتعبيرات، ويُطلق على غلاف هذا العمل الجديد الأقوال التعبيرية والقصدية والعاطفية فيما تعتبر الأفعال التعبيرية بمثابة الفعل الكلامي أو إنتاج خطاب لغوي دلالي، ويتضمن هذا الفعل نفسه ثلاثة أفعال فرعية عبارة عن صوتي وبنيوي وبلاغي، يُطلق على القصدية الكلام، أي التعبير عن العبارات التي تعادل التعبير عن الأقوال أو الإنذارات وإصدار الأوامر والأسئلة ونحو ذلك (المصدر نفسه، 2005م، ص 45). أمّا الفعل القصدي، فيرتبط بمقصود المتكلم وتعبيره تلويحاً، ويعني هذا أنّ المتكلم يقصد دلالةً من خلال كلام ما (ايشاني ونعمتي قزويني، 1393ه.ش، ص 30). لكن المستوى الثالث هو الفعل العاطفي الذي يعود إلى المتلقي، ويوجّهه المتكلم إلى المتلقي بعباراته اللغوية، وفهم موقفه ويخلقه من خلال المشاعر، ويتطلب مهارة المتكلم أن يأخذ في الاعتبار جميع جوانب المقام والمقتضى ليكون ناجحا وعلى علاقة فعالة في نفس الوقت. ينتج المتكلم في هذا المستوى فعلاً يثير مشاعر المتلقي؛ لأنّه يرتبط في الحقيقة مع السامع وبيئته، ويتحقق من خلال ردود المتلقي (الشهري، 2004م، ص 75). وفقاً لما جاء في الفقرات السابقة، يمكن أنْ نقول إنّ اوستين قد اهتمّ بالجانب الخارجي للغة، وقد عدّها وسيلة لإقامة الاتصال بين الآخرين، وقد فطن في دراساته في هذا المجال بأنّها الموجودة في العالم الخارجي، ويقع فعل ما في الكون عندما يتكلّم الباثّ وتدرك الذات المدركة هذا الحدث أو الفعل بحواسه؛ وفي المقابل، نريد القول بأنّ هذا الاكتشاف اللغوي ليس بأمر جديد؛ ذلك أنّ العلماء البلاغيين القدماء البارزين، مثل عبد القادر الجرجاني والسكاكي، توصّلوا إلى هذه النتائج، وعالجوا اللغة من بعدها الخارجي، عندما قالوا بأنّ المتكلّم يجب أن يراعي ظروف المتلقّي وأحواله ليقطف الثمر من كلامه. والمثال البارز في هذا المضمار ما قاله الجرجاني في توظيف الباثّ الأدوات "أنّ" و"لام الابتدائية" عند تردّد المتلقّي لإزالة شكه وترسيخ الكلام في ذهنه. أخيرا، تجدر الإشارة إلى أنّ أوستن يقسم الفعل الكلامي إلى أنواع مباشرة وغير مباشرة، بحيث إن الفعل المباشر يبدأ بالضمير "أنا" ويتبعه فعل، وتحتوي الجملة على فعل مضارع یليه فعل، مثل: "أنا (بموجب هذا) أعدك بذلك بدءا من الأسبوع المقبل أدرس". فهذه الجملة تبدأ بضمير، وتحتوي على فعل "واعد" يتناسب مع فعل الكلام. ثم يذكر المتكلم ما يريد القيام به، وهو الدراسة. لكن الفعل غير المباشر فعل لا تحتوي فيه الجملة بشكل مباشر على فعل يعني القيام بشيء ما، مثل "سأدرس الأسبوع المقبل". ففي هذه الجملة، لم يذكر العمل بذاته. وأيضا لم يُذكر ضميرٌ في بداية الجملة. فمن الواضح أن هذا التقسيم يقوم على ظهور الفعل وعمله غير التعبيري. وإذا أردنا الحديث عن تقسيم الأفعال الکلامية على أساس الفعل غير التعبيري، فعلينا أن نذكر نوعين من الأفعال الإخبارية وغير التعبيرية، بناءً على نظرية جون سيرل، والتي سنتحدث عنها فيما يلي.
2ـ3. تبيين الأفعال الخماسية القصدية لسيرل[3] على الرغم من أن أوستن هو مؤسس نظرية الأفعال الكلامية تاريخيا؛ لكن مما لا شك فيه أن جون سرل كان له دور بارز في الفلسفة في منتصف القرن الماضي من خلال شرح وتفسير وتوضيح الأساسيات واستخراج المواد وتطبيق نتائج نظرية الأفعال الكلامية. ولهذا، يمكننا أنْ نعدَّ سيرل عاملاً هامًا في ربط وجهات نظر فلسفة مدرسة اللغة التقليدية بنظريات فلسفة العقل في منتصف القرن العشرين. يتبع سرل تفكير أوستن في كتابه أفعال الكلام، ويقدم أنواع الأفعال القصدية، ويشرح كل منها بناءً على الظروف، فضلاً عن ربط نظرية الكلام بقضايا اللغة العامة. قسم سيرل الأفعال الكلامية إلى خمس فئات: ١. الفعل الإخباري: يعبر هذا الفعل عن إيمان الراوي بصحة الأحداث، ويسعى المتحدث إلى تطبیق محتوى الافتراضات مع العالم الخارجي. إن وصف أحداث وظواهر العالم الخارجي والتعبير عن رأي المتحدث واعتقاده بصحة النظرية هي بعض القضايا التي طُرحت في الفعل الإخباري. الأفعال التي تندرج في هذه الفئة هي: التعبير عن الواقع، والإقرار والاستنتاج، والادعاء، والافتراض، والتنبؤ وما إلى ذلك.
الفعل الكلامي اللفظي والضمني: يميز سرل بين قصد المتحدث من جهة والمعنى الحرفي للقضايا من جهة أخرى. یقصد المتحدث في الجملة الحرفية بالضبط معنى الجملة؛ لذلك يتوافق المقصود مع معنى الجملة، والتي يتم تفسيرها على أنها فعل كلامي مباشر. ومع ذلك، في التعبير المجازي، فإن فهم معنى ما يقال يعتمد على فهم مقصود المتحدث. بمعنى آخر، في الفعل غير المباشر، يقصد المتحدث ما هو في ذهن المتحدث وتحتوي الجملة على عبء غير معبر (سيرل، ۱۹۸۱م، ص ۳۰). على سبيل المثال، يمكن القول إن مراعاة الأدب عادة ما تؤدي إلى فعل كلامي غير مباشر يُطلب منه نية المتحدث، مثل الجملة: "هل يمكن أن تعطيني كوب الماء هذا"، الذي يبدو أنه سؤال؛ ولكنه طلب من المتلقي الذي يتم التعبير عنه بأدب. سرل في مقالته عام 1975م، يعرّف فعل الأقوال غير المباشر على أنه «فعل الأقوال التي يتم تنفيذ الفعل القصدي بشكل غير مباشر ومن خلال فعل قصدي آخر» (شيمن، 1384ه.ش، ص 216). فعلى سبيل المثال، أن جملة "هل يمكن أن تعطيني الكتاب؟" مثل هذه الجملة، بالإضافة إلى نية المتحدث، لها فعل قصدي آخر؛ لأن هذا الجزء من القول يمكن اعتباره فعلا هادفا للسؤال؛ لكن المقصود من تعبيره هنا هو في الواقع طلب لفعل شيء ما. يعدد سرل ظروف كل من هذين الفعلين، وبالتالي يدعو الفعل القصدي الرئيسي إلى القصد الأساسي، ويعتبره مشتقا من المقصود الثانوي لجزء الكلام أو نفس السؤال (المصدر نفسه، ص ۲۱۸). على أساس ما تمّ ذكره آنفاً، فيمكن الاستنباط على أن سيرل يحاول التمييز بين فعل الكلام المباشر وغير المباشر، ويعتقد أن الكلمة يمكن أن يكون لها فعل هادف، ذلك بالإضافة إلى المعنى الظاهر الذي ينوي فيه المتحدث ويفهمه، وفقًا للسياق الاستقرائي للكلمة. وغني عن القول أنه في فعل الكلام المباشر، يعتقد أن المعنى الظاهري للجملة هو نفس نية المتحدث بعض الأحيان، علاوة إلى المعنى الضمني الذي قد أكّد عليه في تقسيماته الخمسة المذكورة للأفعال الكلامية. النقطة الثانية في هذا الصدد هي أنّه يمكن القول بأنّ سيرل لم يتطرق إلى الموضوع الجديد، وهو يختزل في المعنى الضمني للكلام؛ ذلك أنّ اللسانيين القدماء العرب قد أشاروا إلى هذا الأمر ثنايا كتبهم القيّمة، وقد قسّموا الكلام إلى المعنى الأول والثانوي حسب قصدية المتكلّم، وقد وضّحوا أنّ السياق الخارجي هو الأساس في الكشف عن غرضه وقصده من قِبَل المتلقّي. وفي هذا المضمار، نستند إلى قول الجرجاني عالم البلاغة الكبير، المتعلّق بالمعنى الثانوي وغير المباشر الذي اختصره هو في (معنى المعنى)، وقد ركّز على السياق الخارجي في فهمه (1422ه، ص ٨٥). وفقاً لما سبق ذكره في نصّ المقال، علينا القول بأنّ سيرل قد فرّق بين القول والفعل، وقد رأى أنّ كلّ القول الذي يتكلّمه قائلٌ، فهو يحدث في العالم الخارجي، وهذا العالم الخارجي يُعدّ الأساس عنده في الوصول إلى ما قاله المتكلّم ضمنيّاً، وعلى المتلقّي أنْ يأخذ بعين الاعتبار هذا الأمر، يعني أنّه يرى أنّ الكلام ليس بظاهره الذي يختصر في صياغة الجملة من مفردات، بل بباطنه الذي يقصده المتكلّم من وراء تلك المفردات. وعلى هذا الأساس، قد قسّم الكلام على المباشر والضمني في النظرية تلك.
سبب تسمیة هذه السورة المبارکة یختصر في أنّ کلمة "النور"، التي قد ذُکرت سبع مرات في هذه السورة، وتوجد آیة النور في هذه السورة. تبدأ سورة النور باسم اللّٰه عز وجل (خرمشاهي، ۱۳۹۳ه.ش، ص ۱۲۴۳). تتناول سورة النور المبارکة الأحکام الفقهیة الکثیرة، ومنها حدّ الزنا، وحدّ القذف، وأحکام اللعان، ووجوب الحجاب علی النساء، وإعفاء الحجاب من العاجزات، ولزوم وجود أربعة شهداء لإثبات الزنا، والمسائل الخاصة بالنکاح، وقضیة الإفك، ومن الموضوعات التي تعالجها هذه السورة المبارکة. تمكن الإشارة إلی موعظة الربّ بالمؤمنین في التورع عن القضیة التي هم لیسوا مطلعین علیها والتجنب عن الافتراء والتهمة والنهي الشدید عن إشاعة الفحشاء والاستئذان من صاحب البیت عند دخول بیته (المصدر نفسه، ۱۳۹۳ه.ش، ص ۱۲۴۳).
إن الإطار التطبيقي في ما يلي: ـ «الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌª (النور 24: ٢٣). إنّ المتكلم يعود إلى مسألة "القذف" واتّهام النساء الطاهرات المؤمنات بالزنا في الآية الكريمة المذكورة أعلاه، ويقول بكلّ تأكيد وحزم إنّ تلك التصرفات إزاء النساء المذكورات تُعدّ الذنب الذي يستحقّ العذاب. في الواقع، تمّ ذكر ثلاث صفات لهؤلاء النساء، ولكلّ من الصفات دليل على أهمية الظلم الذي تتعرّض النساء إليهن عن طريق التهمة: المحصّنات، والعفيفات (الغافلات) اللاتي لا يشوبهنّ أي تلوّث وخطئية والمؤمنات. وبالتالي يعرض لنا مستوى العذاب والعقاب الّذي يستحقّه هؤلاء الظلمة البعيدون كلّ البعد عن المروءة، والّذين يتّهمون النساء الطاهرات. يجدر بنا الإشارة إلى أن الاتصاف بصفة "الغافلات" تعبير بديع يُشير إلى قمة الطهارة والعفة والبُعد عن أي وقاحة أو شذوذ أخلاقية، أي أنّهن بلغن مبلغاً في اللامبالاة بالنسبة إلى الإباحات الجنسية، كأنّما لا يعرفن عن ذلك شيئاً أبداً؛ لأنّ موقف الإنسان من الإثم والذنب يأتي أحياناً بالشكل الذي لا يخطر على باله أن يرتكب ذنباً على الإطلاق؛ كأنّما لا يتصور القيام بذلك في العالم الخارجي، وهذه هي الذروة في التقوى. وربّما يكون القصد من "الغافلات"، النساء اللاتي لا يطّلعن بالنسبة إلى التهم الموجهة إليهن؛ لذلك لا يقمن بشيء في سبيل الدفاع عن أنفسهن، وبالتالي نرى أنّ الآية الشريفة تسلّط الضوء على جانب جديد من مسألة الاتهام؛ لأنّ مدار الحديث ـ سابقاً ـ كان يدور حول الذين يتّهمون علانية، وكانوا يُعرفون ويُعاقبون. أمّا هنا، فالحديث حول من يقوم بنشر الإشاعات سرّاً، ويتهرّبون من العقوبة والحدود الشرعية. يقول القرآن في هذا الصدد: لا يظنّ هؤلاء بأنّهم سينجون من العقاب الإلهي من خلال هذه التصرّفات، بل إنّهم محرومون من رحمة اللّٰه في هذا الدنيا؛ إذ قد أعدّ اللّٰه لهم عذاباً أليماً في الآخرة. على الرغم من أنّ الآية المذكورة قد أتت بعد قصة "الإفك"؛ ولكن يبدو أنّ نزول تلك الآية كان مرتبطاً بهذه الأحداث. أمّا هذه الآية القرآنية، فمثلها مثل جميع الآيات الّتي نزلت بشأن ما، لها مفهوم عام لا يرتبط بموضوع بعينه فقط. إنّ المعنى المباشر لهذه الآية المذكورة، هو تبيين ووصف مكانة الذين يتّهمون النساء بفعل الفحشاء في الدنيا والآخرة، وهو يدخل ضمن نطاق الأفعال الإخبارية، ومصداقها هو عبارة «لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌª؛ لكن على أساس الموضع الخارجي للسياق، فإنّ المتكلم يريد من ذلك إنذار مخاطبيه بالعذاب الكبير والشديد، وهو نوع من أنواع التهديد، وهو يعدّ ضمن الأفعال الالتزامية. إنّ الشرط في الأفعال الالتزامية هو وقوع الحدث في المستقبل، وإنّ المتكلّم يعمل على توظيف هذه العبارة الدالة على المستقبل، لكي يضفي على كلامه تأثيراً أكبر، وتصبح العبارة دالة على حتمية وقوع الفعل في المستقبل. وإنّ هناك مناسبة بين العبارة وبين الغرض المذكور حول الوعيد بالعذاب الشديد في المستقبل لمن يتّهم النساء بالفاحشة والزنا. فإنّ ذلك سيتحقق لا محالة. ونشير كذلك إلى أنّ المتكلّم قد اعتمد على تقنية "التقديم والتأخير" في عبارة «وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌª في صدد إضفاء تأثير أكبر على كلامه، وهو بذاته تأكيد على حتمية إنجاز الوعد والهدف المذكور. وإنّنا نلحظ مفارقة قائمة بين المعنى المباشر وغير المباشر في الآية المذكورة.
ـ «الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمª (النور 24: 26). إنّ الآية المذكورة أعلاه في الواقع تعقيب وتأكيد بالنسبة إلى آيات الإفك والآيات السابقة عليها، وهي بيان لسنّة طبيعية في العالم، وهي متزامنة مع مسائل التشريع أيضاً. إنّ اللّٰه يُشير في هذه الآية إلى أنّ «الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِª، وفي الجهة الثانية، أيضاً يتابع حديثه، يقول: «وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِª، وفي القسم الأخير من الآية هناك إشارة إلى الصالحين والصالحات من الرجال والنساء: «أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَª، وبالتالي: «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمª. بعبارة أخرى، أنّ الآية المذكورة بيان لاتجاه "السنخية"، وهو بناء على مدار موضوعنا في هذا البحث، فهو يدور حول العفة والتلوث الجنسي. وكذلك تذكّرنا الآية المذكورة بمثل عربي معروف يقول: "السنخية علة الانضمام"، وهي إشارة في الواقع إلى سنة تكوينية تضمّ الموجودات الأرضية والسماوية شيئاً فشيئاً، وهي تجذب زوجها مثل القشّ والمغناطيس. من هذا المنطلق، أنّ المعنى المباشر للآية الشريفة المذكورة يظهر لنا من خلال التبيين والشرح للسُّنة الطبيعية في العالم، وهو يدخل ضمن نطاق الأفعال الإخبارية. ونرى مصداقه البيّن في عبارة «الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِª؛ ولكن على أساس السياق الخارجي للنصّ، فإنّ المتكلّم يريد نهي الطاهرين والطاهرات ومنعهم الزواج من الخبيثات والخبيثين. وتذكر الآية المخاطب بعدم القيام بهذا الفعل المذكور. وبما أنّ هذه الآيات قد تلت آيات الإفك، وكذلك آية «الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَª، فإنّ هذا التفسير متلائم مع الهدف الضمني من الآية الكريمة، أي النهي عن القيام بهذا الأمر. يمكن القول: إنّ المتكلّم أراد غاية أخرى، علاوة على الغاية الأولية التي ذكرناها، ألا وهي أنّه يقوم بتوبيخ الّذين يرمون الطاهرين والطاهرات بالتهمة، ويعاتبهم بصورة ضمنية. ونلحظ ذلك من خلال العبارة القرآنية «أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَª. ومن ثَمّ يصوّر لنا مكانة الطاهرين والطاهرات من النساء من خلال عبارة «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمª، وهو نوعٌ ما يعدّ فعلاً التزاميّا؛ لكن اللّٰه تعالى أراد أوّل ما أراد من ذلك، تقديم البشارة لهولاء المؤمنين والمؤمنات بالنعيم الّذي ينتظرهم في الآخرة. إنّ العبارة تعدّ نوعاً ما ضمن الأفعال الإخبارية، ويعود شرط تأثيرها إلى وقوعها في المستقبل، حتّى تحظى بذلك التأثير المذكور. إنّ المتكلّم اعتمد على تقنية "التقديم والتأخير"، لكي يضفي على كلامه تأثيراً أكبر، وإنّ العبارة تمتاز بالتأكيد والحتمية في وقوع الفعل في المستقبل، وإنّ المعنى المباشر وغير المباشر للآية المذكورة ليسا مقترنين. ـ «یُقَلِّبُ اللّٰه اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِª (النور 24: 44). إنّ الآية المذكورة تشير إلى آية أخرى من آيات عظمة الربّ الخالق، ألا وهي خلق الليل والنّهار. كما أثبت العلم أنّ تقلّب الليل والنّهار والتغييرات الطارئة على ذلك، أمر ضروري لمواصلة حياة الإنسان، وهي عبرة لمن يعتبر من الناس. إنّ إشعاع نور الشمس يؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة، وإحراق الموجودات، وإتلاف أعصاب الإنسان؛ ولكن عندما نواجه ستار الليل المظلم بعد إشراقة الشمس، فإنّ ذلك يلطّف الأجواء. من هذا المنطلق، أنّ المعنى المباشر لهذه الآية الشريفة يقدّم لنا تفسيراً حول خلق الليل والنهار واتّعاظ أولي الأبصار من النّاس بعظمة الخلق والخالق. وإنّ الآية تدخل ضمن نطاق الأفعال الإخبارية، وهو مصداق لقول «يُقَلِّبُ اللّٰه اللَّيْلَ وَالنَّهَارَª. ولكن على أساس السياق الخارجي للنص، فإنّ المتكلم أراد ضمنياً أن يتّجه الأفراد المتسطحين في الفكر إلى التدبر، وهو من أهمّ الأمور في الحياة، حتّى ينظروا إلى العالم بنظرة ثاقبة وبتمعّن، ولا يمضوا حياتهم في القيام بالأمور المادية التافهة. إنّ المتكلّم اعتمد على فعل مضارع "يقلّب"، ليحظى كلامه بتأثير أكبر على المخاطب، وهو داّل على استمراية الفعل ودوام وقوعه، وإنّ هذا المفهوم متلائم تماماً مع الغرض الرئيسي المتمثل في استمرارية التغييرات بالنسبة إلى الليل والنهار وقدرته اللامتناهية في هذا المجال. وكذلك يُمكن أن نشير أيضاً إلى أنّ المتكلم أراد ضمنياً، علاوه على الهدف المذكور، توبيخ من ليس أهلاً للتدبّر والبصيرة في الخلق؛ لأنّ قدرة اللّٰه الظاهرة في خلقه، ومن ذلك تقلّب الليل والنهار، لا تدع مجالاً لهذه النظرة السطحية والساذجة. من هذا المنطلق، يتطرق المتكلم إلى لوم هؤلاء الفئة من النّاس. إنّ العبارة هي ضمن الأفعال التعبيرية، وقد اعتمد المتكلم فيها الكناية على سبيل التعريض، ووضح لنا خصيصة تلك التقنية الموظّفة من خلال الكلام الخفي الذي لا يمكن للمخاطب أن يفهم الموضوع ببساطة. ونلحظ مصداق ذلك في عبارة "أولو الأبصار" من الآية الشريفة. فإن العبارة في الواقع تعريض بالأفراد الذين لا يتحلّون بالبصيرة. وإنّ المعنى المباشر والضمني في هذه الآية متغايران. ـ «وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللّٰه وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَª (النور 24: 48). يذكر اللّٰه سبحانه وتعالى في هذه الآية حجة واضحة وشفافة لعدم إيمانهم. يجدر بنا الإشارة إلى أنّ العبارة تشير إلى الدعوة نحو اللّٰه ورسوله (|)؛ إلّا أنّ العبارة التالية أتت على صورة المفرد "ليحكم"، وهي إشارة صريحة إلى حكم النبي (|)، وهذا يدلّ على أنّ حكم النبيّ هو حكم اللّٰه، وهما في الحقيقية يرجعان إلى أصل واحد. ويجب الانتباه إلى أن الآيات المذكورة أعلاه والمرتبطة بالإعراض عن حكم النبي (|)، تختصر على مجموعة من المنافقين فقط، ربّما لأنّه لم تكن هناك مجموعات أخرى وقحة وبعيدة عن الحياء؛ لأنّ النفاق مثله مثل الإيمان له درجات ومستويات مختلفة. هذه صفة يتّصف بها المنافقون، أي يتظاهرون بالإيمان؛ ولكن جراء انحرافهم عن أصل التوحيد، لا يستسلمون لحكم اللّٰه والنبي (|) أبداً. من هذا المنطلق: إنّ المعنى المباشر في هذه الآية الشريفة يشير إلى تبيين ووصف الّذين لهم إيمان لساني. والعبارة هي تدخل ضمن الأفعال الإخبارية؛ ومصداقها البارز في هذه الآية هو عبارة «لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَª؛ ولكن على ضوء الموضع الخارجي للنص، فإنّ المتكلم أراد توبيخ وملامة هؤلاء الكافرين من النّاس؛ لأنّ حكم اللّٰه والنبي حكم واحد، وإنّ إعراضهم وعدم اكتراثهم يصوّر لنا عدم اهتمامهم بمسألة التوحيد والنبوة، وبالتالي إنّ المتكلّم يريد ملامة هؤلاء الأفراد. تشتمل العبارة على أفعال تعبيرية وعلى أساس إضفاء تأثير أكبر على كلامه من خلال اختيار الجملة الاسمية التي من شأنها أن تدلّ على القطعية والثبوت في الفعل، وهي متلائمة تماماً مع غرض المتكلم؛ أي قطعية إعراضهم ولامبالاتهم بالنسبة إلى حكم اللّٰه والنبي (|). وإنّ المعنى المباشر وغيرالمباشر في هذه الآية الشريفة غير منطبقين. ـ «وَمَنْ يُطِعِ اللّٰه وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللّٰه وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَª (النور 24: 52). من يتوكّل على اللّٰه ويجعله حكماً في حياته، فلا شك أنّه سيكون ناجحاً في جميع أموره وشؤونه المادية والمعنوية، وهو الأمر الذي قد بعث اللّٰه نبيّه الأكرم (|) لإبلاغه إلى الناس، ليسيروا في طريق الصحيح في حياتهم، ولا يحزونوا على ما تعمل أيديهم فيها، وليكونوا من الفائزين بالجنة في الآخرة. وبما أنّ هذه الآية تتحدّث حول موضوع الطاعة بصورة مطلقة، فالآية السابقة تتكلّم حول الاستسلام بالنسبة إلى حكم اللّٰه تعالى؛ والأوّل مفهوم عام والآخر خاص؛ لذا يجب أن تكون النتيجة واحدة في كلتا الحالتين. أمّا الأمر الجدير بالذكر، فهو أنّ هذه الآية الشريفة ذكرت ثلاث خصائص للفظة "الفائزون": إطاعة اللّٰه والنبيّ (|)، والخشية، والتقوى. قال بعض المفسّرين: إنّ للطاعة معنى عاماً، وإنّ جزءاً داخليّا يترتب عليه في الطاعة، و"التقوى" يعدّ بمثابة جزئها الخارجي (الراغب الأصفهاني، ١٩٩٢م، ص ١١٥). ومن هذا المنطلق، أوّلاً يتمّ الحديث عن الطاعة بصورة عامة، ومن ثَمّ إلى الفرع الداخلي والبعد الخارجي لمفردة "الطاعة"، وبالتالي يصف المعنى المباشر للآية الشريفة المؤمنين بالصفات التي يتحلّون بها، وكذلك الفلاح في الآخرة، وهو ضمن الأفعال الإخبارية. وأمّا المصداق البارز لذلك في هذه الآية، فهو يتمثّل في عبارة "فاولئك هم الفائزون"؛ ولكن على ضوء السياق الخارجي للخطاب، إنّ المتكلم يهدف ضمنياً إلى أن يبشّر المخاطب بالفلاح شريطة إطاعة اللّٰه ورسوله (|)، واتّباع طريق التقوى والخشية من اللّٰه. من هذا المنطلق، يريد أن يبشّر المخاطب، وهو ضمن الأفعال الإخبارية، بالإضافة إلى اعتماده تقنية ضمير الفصل "هم" وخبر "الفائزون" (معرفة) لإضفاء تأثير أكبر على كلامه، والدلالة على الحتمية، والتأكيد على وقوع الفعل، وهو منطبق تماماً مع غرض المتكلم؛ أي البشارة بفلاح المخاطب في المستقبل (الجنة) وحتمية وقوع ذلك. أمّا المعنى المباشر وغير المباشر في هذه الآية الشريفة، فهما متغايران. ـ «وَأَقِیمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَª (النور 24: 56). في الآيات السابقة (53، 54،55)، بشّر اللّٰه عباده الصالحين بالخلافة على الأرض، وهيأت هاتان الآيتان الأرضية لتأسيس هذه الحكومة. وبالطبع أنّه يضمن نفي الموانع والعقبات الكبيرة أيضاً. في الواقع أنّ إحدى الآيتين تبيّن المقتضى، والآية الثانية هي نفي للموانع والعقبات التي تؤدي إلى عدم وقوع ذلك، "واءتـوا الزكـوة" تُعدّ تلك التي تصوّر علاقة الخلق بالخالق، وهي الأداة المؤثرة للحدّ من الفجوة الطبقية في المجتمع، وهي من عوامل تحكيم الأواصر العاطفية. وبصورة عامة "أطيعوا الرسول" في كل شيء. والقصد من ذلك: الإطاعة التي تجعلكم في عداد الصالحين الذين یستحقون الخلافة على الأرض. لعلّ ذلك يؤدي إلى اشتمالهم لرحمة اللّٰه «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَª، وتصبح لكم الجدارة لأخذ علم الحكومة الناطقة باسم الحق والعدالة. فمن هذا المنطلق، إنّ المعنى المباشر لهذه الآية الشريفة هي أمر المؤمنين بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإطاعة النبي (|)، حتّى تشملهم الرحمة (الخلافة على الأرض)، وذلك ضمن الأفعال التوجيهية. ومن مصاديقها البارزة في هذه الآية هي أفعال «وَأَقِیمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَª. وأمّا على أساس السياق الخارجي للخطاب، فإنّ المتكلم يوصي المؤمنين إلى العمل بهذه الموازين، حتّى تشملهم الرحمة الإلهية. وكذلك يُمكن القول: علاوة على الغاية الضمنية المذكورة، يريد المتكلم أن يعد المؤمنين بالخلافة على الأرض؛ وذلك شرط أن يقيموا الصلاة ويؤتو الزكاة ويطيعوا الرسول (|). وفي هذه الحالة، سيتحقق الوعد الإلهي لامحالة. لذا يجتهد المتكلم أن يعد المخاطب، ويبين شروط ذلك أيضاً، وهذا يعدّ ضمن الأفعال الالتزامية. يعتمد المتكلّم على أفعال الترجّي لإلقاء الأمل في تحقق الفعل في المستقبل، ويؤثّر على المخاطب بصورة أكبر. وإنّ هذا الوعد يظهر متّسقاً ومتلائماً تماماً مع غرضه المتمثل في وعد الخلافة للمؤمنين على وجه الأرض في المستقبل، وذلك من خلال العمل بالشروط المذكورة. أمّا المعنى المباشر وغير المباشر في هذه الآية، فهما متغايران. ـ «لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُª (النور 24: 57). لاحظنا في الآية السابقة أن اللّٰه قد وعد المؤمنين الصالحين بالخلافة على الأرض. وأمّا هاتان الآيتان، فهماتهتمّان بإعداد الأرضية لتأسيس دعائم هذه الحكومة. وبعد ذلك، يقول في الآية الشريفة أعلاه، بأنّ الأعداء الأقوياء ليسوا قادرين على أن يمنعوا تحقق الوعد الإلهي، (أي خلافة المؤمنين على الأرض)، وذلك لا يتيسّر أبداً؛ لأنّ قدرتهم لا تعدّ شيئاً مقارنة مع قدرة اللّٰه؛ لذا لا تظنّ أنّ الكفّار سينجون من عقوبة اللّٰه: «لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِª. في الواقع أنّ اللّٰه ينهى المخاطب من الوقوع في مثل هذه الأفكار. فقد ظهر لنا ذلك من خلال فعل النهي في "لا تحسبن". من هذا المنطلق، أنّ النهي هو المعنى المباشر للآية، وهو ضمن الأفعال التوجيهية. أمّا غاية المتكلم الرئيسة، فهي التوصية إلى المؤمنين في ترك مثل هذه الأفكار التي تحط من إيمان الإنسان. وكذلك يُمكن القول بأنّ المتكلم أراد، علاوة على الغاية المذكورة، أن يبيّن ويصف مكانة الكفّار ويضيف قائلاً: إنّهم لن يسلموا من عقاب اللّٰه في الدنيا؛ ليس هذا فحسب، بل أعدّ اللّٰه لهم الجحيم في الآخرة، وهو بئس العاقبة: «وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُª. من هذا المنطلق، أنّ المعنى المباشر للآية وصف وتبيين لمكانة الكفّار، وهو ضمن الأفعال الإخبارية. لكن على أساس السياق الخارجي للنص، فإنّ الغاية الرئيسة للمتكلم هي أن يقول للمؤمنين بأنهم لن يقدروا الفرار من هذه العاقبة (نار جهنّم)، وإنّهم سيصابون بذلك في المستقبل القريب؛ لذا يريد المتكلم أن يقول للمؤمنين: إنّ الكفّار سيذهبون إلى جهنم في المستقبل القريب، ولن يكون لهم مصير آخر غير ذلك. والشرط في الأفعال الإعلانية أن تقع في المستقبل من ناحية المتكلم؛ لذا وظّف المتكلم الجملة الاسمية لإضفاء أكثر قدر من التأثير على كلامه، ولكي يتضمّن معنى المستقبل؛ ولذلك دلالة على الحتمية في وقوع الفعل. وله مطابقة تامة مع غرضه، أي عاقبة الكفّار وذهابهم إلى جهنم. وأما المعنى المباشر وغير المباشر في هذه الآية، فهما متغايران. ـ «أَلَا إِنَّ للّٰه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللّٰه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌª (النور 24: 64). يقول اللّٰه تعالى: اعلموا بأنّ للّٰه ما في السموات وما في الأرض، ذلك اللّٰه الّذي يحيط بعلمه كلّ شيء في العالم، ويعلم كلّ ما أنتم عليه من عقيدة ونية، ولا يخفى عليه شيء. وعندما يعود النّاس إليه، سينبّئهم بالنسبة إلى الأعمال الّتي قاموا بها وسيجزون بما عملوا، خيراً كان أو شرّاً: «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواª. وإنّ اللّٰه قد أحاط بكلّ شيء علماً: «وَاللّٰه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌª. فإنّ اللّٰه يخاطب في الآية الشريفة المذكورة متلقّيه بأنّ اللّٰه عالم بالنسبة إلى أعمال الإنسان وحالاته في الدنيا، وإنّه له جميع ما في السموات وما في الأرض، وبالتالي إنّ المعنى المباشر لهذه الآية الشريفة هو إبلاغ الخبر إلى المخاطب، وهو ضمن الأفعال الإخبارية، وإنّ مصداقه البارز هو ما نجده في الآية التالية: «قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِª. ولكن على أساس السياق الخارجي للخطاب، يهدف المتكلّم إلى التذكّر الضمني للإنسان، حتّى يكون منتبهاً بالنسبة إلى أعماله في الدنيا. فعلى أساسها، سيعاقب في يوم القيامة. من هذا المنطلق، أنّ المتكلم يريد تذكير المخاطب وتنبيهه، وذلك يدخل ضمن الأفعال التوجيهية. إنّ المتكلّم يعتمد تقنية "التكرار" في سبيل إضفاء قدر أكبر من التأثير؛ لأنّ التكرار يدلّ على التأكيد، ويؤدّي إلى تثبيت المفاهيم في نفسية المخاطب، وهو موضوع متّسق مع غرض المتكلّم، أي التأكيد على علم اللّٰه وإحاطته التامة بالنسبة إلى أعمال الإنسان في الدنيا. أمّا المعنى المباشر وغير المباشر في هذه الآية، فهما متغايران. فإنّا لاحظنا، وفقاً لتحليل الآيات المباركة لسورة النور، أنّ المتكلّم قد صوّب نفسية المتلقّي، وذلك بالتقنيات التي قد وظّفها في كلامه، وهي تكون ملائمة لغرضه، وتؤدي إلى تأثير الكلام في نفسية متلقّيه، وإلى إقباله على ما أراده المتكلّم ضمنيّاً، (أي يتأثّر المتلقّي بالمتكلّم، ويحدث الفعلُ المطلوب منه في العالم الخارجي)، كما تؤكّد نظرية الفعل الكلامي على ذلك في أركانه الثلاثة التي تختصر في وقوع الكلام في العالم الخارجي، والكشف عمّا أراده المتكلّم ضمنيّاً من خلاله، أي (العالم الخارجي)، والركن الثالث هو التأثير في المتلقّي، وهو واضح في نفسية المتلقين لتلك السورة المباركة كما سبق ذكره.
الخاتمة بعد الدراسة والبحث في الموضوع على ضوء نظرية الفعل الكلامي في آيات من سورة النور المباركة، توصّلنا إلى النتائج التالية: ـ إنّ المتكلّم اعتمد على أفعال كلامية مختلفة لنقل الرسالة إلى المخاطب، من ذلك الأسلوب الإخباري والتوجيهي، بحيث تطرّق إلى تبيين وشرح مكانة المفترين، والسنة الطبيعة في العالم، وخلق الليل والنهار، وحالة الأفراد المتظاهرين بالإيمان، وتبيين سمات المؤمنين، وإبلاغ الأخبار إلى الناس من أجل الوعي بشأن أعمالهم في الدنيا، وكذلك أمره بالنسبة إلى إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول، والنهي عن الأفكار التي من شأنها أن تحطّ من الإيمان بقدرة اللّٰه. فهذه الأفعال المذكورة، تعدّ المعنى المباشر لهذه الآيات القرآنية. ـ إنّ الأفعال الكلامية الضمنية التي تبيّنت لنا من خلال السياق الخارجي للنص، عبارة عن الأفعال الالتزامية، التوجيهية، التعبيرية والإعلانية، بحيث تشتمل على الإنذار بالنسبة إلى العقاب الأليم، والبشارة بالمغفرة والفلاح والخلافة على الأرض، وهي تعدّ ضمن الأفعال الالتزامية، وكذلك فيما يتعلّق بالموضوعات الأخرى، مثل: عدم الزواج من الخبيثين، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول، نوصي بعدم الالتفات إلى الأفكار التي تحطّ من الإيمان بقدرة اللّٰه تعالى. ـ إنّ اللّٰه ينبّه الإنسان بأعماله في الدنيا، ويدعو إلى التدبر والتفكر في خلق الليل والنهار، وهي جميعاً ضمن الأفعال التوجيهية، وكذلك يتطرق إلى ملامة المفترين بالرجال الطاهرين والنساء الطاهرات وتوبيخهم، والّذين ينظرون إلى العالم بنظرة سطحية والكفّار، وهي جميعاً تدخل ضمن نطاق الأفعال التعبيرية، ويصرّح أيضاً في قول آخر بأنّ الكافرين لا يقدرون على الفرار من عقوبة اللّٰه، وهو موضوع يدخل ضمن الأفعال الإعلانية. ـ وقد تبيّن لنا كذلك من خلال الدراسة أنّ الأفعال الكلامية التوجيهية والإخبارية والالتزامية لها تردد أكبر في هذه الآيات الشريفة، ويأتي الفعل الكلامي التعبيري والإعلامي في المراتب التالية. ـ إنّ التقنيات اللغوية التي اعتمدها المتكلم في حديثه إلى المخاطب ملائمة تماماً لغرضه، وإنّ الكلام يتمتّع بتأثير كبير، وذلك يصوّر لنا براعة المتكلم في رعاية مقتضى الحال والبلاغة الكلامية. ـ تبيّن لنا خلال الدراسة أن المعنى المباشر (الظاهري) وغير المباشر (الضمني) لآيات سورة نور المباركة، يختلفان عن السياق الخارجي للخطاب، وذلك له دور فعّال في الكشف عن هذه المعاني الضمنية.
[1]. Austin [2]. Searle [3]. Searle | ||
مراجع | ||
* القرآن الكريم. إرشادي، محمد. (۲۰۱۹م). الكلام الخبري في سورة النور دراسة بلاغية. رسالة الماجستیر. جامعة سونن أمبيل الإسلامية الحكومية بسورابايا. كلية الآداب والعلوم الإنسانية. بوعطیة، وردة. (2016 ـ 2017م). الجملة في سورة النور: دراسة نحوية بلاغية. رسالة الماجستیر. جامعة محمد بوضياف بمسيلة في الجزائر. كلية الآداب واللغات. الجرجانى، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن. (١٤٢٢ه). دلائل الإعجاز في علم المعاني. تحقيق عبد الحميد هنداوي. بيروت: دار الكتب العلمية. جميل، عبد المجيد. (1988م). البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصية. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب. خنیفة، سیتي. (2016م). «صيغة الأمر والنهي في سورة النور: دراسة تحليلية في علم المعاني». شعبة اللغة العربية وآدابها لكلية العلوم الثقافية جامعة سونن كاليجاكا الإسلامية الحكومية بجوكجاكرتا. ص 1ـ 52. رادیة، مرجان. (۲۰۱۲م). «سورة النور: دراسة بلاغية أسلوبية». الممارسات اللغوية. ع ١٢. ص 81 ـ 114. الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسین بن محمد. (١٩٩٢م). المفردات في غریب القرآن. تحقيق صفوان عدنان. بيروت: دار الشامية. الزمخشري، أبو القاسم جار اللّٰه محمود بن عمر. (2004م). المفصل في علم العربية. تحقيق صالح قدارة. عمان: دار العمار للنشر والتوزيع. الشهري، عبد الهادي بن ظافر. (2004م). إستراتيجيات الخطاب: مقاربة لغوية تداولية. بيروت: دار الكتاب الجديد. صحراوي، مسعود. (٢٠٠٥م). التداولية عند العلماء العرب: دراسة تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في التراث اللساني العربي. بيروت: دار الطليعة. عائشة، ستي. (2015م). استخدام اسم الإشارة في سورة النور: دراسة تحليلية تداولية. رسالة الماجستیر. جامعة مولانا مالك ابراهيم الإسلامية الحكومية بمالانج. كلية العلوم الإنسانية. عکاوي، میادة رشدي عبد الكريم. (۲۰۱۹م). «الأبعاد الدلالية في سورة النور دراسة تطبيقية». جامعة الشارقة للعلوم الشرعية والدراسات الإسلامية. ج ١٦. ع ٢. ص 205 ـ 233. كاطع، حسن فلاح. (٢٠٢٢م). «مفهوم البلاغة قراءة في الموروث». داوة. س 8. ج 8. ع ٣٣. ص 11 ـ 41. النوري، علي محمد. (1985م). سورة النور: دراسة تحليلية نحوية. رسالة الماجستیر. جامعة أم القرى في المملكة العربية السعودیة. كلية اللغة العربية.
ب. الفارسية ايشانى، طاهره؛ و معصومه نعمتى قزوينى. (١٣٩٣ه.ش). «تحلیل خطبه حضرت زینب در کوفه: بر اساس نظریه کنش گفتاری سرل». مطالعات قرآن و حدیث سفینه. س 12. ش 45. ص 25 ـ 51. خرمشاهى، بهاء الدين. (١٣٩٣ه.ش). دانشنامه قرآن و قرآن پژوهى. چ 4. تهران: دوستان ناهيد. دشتى، محمد. (1385ه.ش). ترجمه و شرح نهج البلاغه. تهران: فهرست. شيمن، شيوان. (1384ه.ش). از فلسفه به زبانشناسى. ترجمه حسين صافی. تهران: كام نو. صفوى، كوروش. (١٣٩١ه.ش). نوشتههاى پراکنده (دفتر اول) معنی شناسی. تهران: علمى. كوک، كای. (١٣٨٩ه.ش). زبانشناسی كاربردى. ترجمه على روحانى و محمودرضا مراديان. تهران: راهنما. نجفی ایوکی، علی؛ و ديگران. (١٣٩٦ه.ش). «تحلیل متنشناسی خطبه شقشقیه: بر اساس نظریه کنش گفتاری سرل». پژوهشنامه نهج البلاغة. س 5. ش 19. ص 1 ـ 17.
ج. الإنجليزية ليكن Lycan, William G. (2008). Philosophy of language: a contemporary Introdaction. New York & london: Routledg. سرل Searle, j. R. (1981). Expression and meaning, studies in the theory of speech acts. Cambridge: Cambridge university press. _________. (1969). Speech Acts. Cambridge: Cambridge university press. | ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 107 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 88 |