تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,639 |
تعداد مقالات | 13,327 |
تعداد مشاهده مقاله | 29,885,609 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 11,949,779 |
سیمیاء الحیوان في القرآن الکریم قصّة بني إسرائيل نموذجاً | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
دوره 15، شماره 29، دی 2023، صفحه 193-204 اصل مقاله (893.67 K) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2024.139637.1484 | ||
نویسنده | ||
محمد کبیری* | ||
أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها بالجامعة العليا للدفاع الوطني، طهران، إيران | ||
چکیده | ||
یمتاز القرآن الکریم بنصّ أدبي تشعّ مفرداته بدلالات سیمائیة، حیث یتلقی منها المتلقي ما یتلاءم ونسبة جهوده ومعرفته في استخراج تلك الدلالات السیمیائیة والإیحائیة ضمن نسق موحَّد من المعاني والمفاهیم التي تُکوِّن الفکرة الأساسیة في کلّ موقف قرآني. فنجد کلّ مفردة فیه تحظی بدلالات إیحائیة متسترة خلف المعاني الظاهرة للمفردة ونلتمس ترابطاً بین تلك الدلالات المتنوعة للمفردة القرآنیة التي تتضح ضمن سیاقها القرآني. هذا، وتعتبر الدراسة السیمیائیة مضماراً فاعلاً في الکشف عن الدلالات المتسترة في النص القرآني الذي یحفل بمعان جزئیة تتکامل في سیاق متناسق یتلقيها القارئ منها معنی ومفهوماً کامل الملامح یعبر عن فکرة مرکزیة یتمحور علیها النص القرآني. بناء علی ذلك، يسعی هذا البحث إلی دراسة ما دلّ علی الحیوان في قصة بني إسرائیل من المفردات والألفاظ القرآنیة، لنبین ما حفلت به من دلالات سیمیائیة؛ وذلك علی أساس المنهج الوصفي ـ التحلیلي، وبالاعتماد علی مراجعة آراء المفسرین للقرآن الکریم. وقد کشفت الدراسة عن هذه الدلالات السیمیائیة لألفاظ الحیوان في قصة بني إسرائیل، وکانت دلالات تُوثِّقها علاقة تظهر بین ما لتلك الألفاظ من معان لغویة أولیة وبین ما للقصة من فکرة محوریة أساسیة؛ فنجد بین المعنی اللغوي والإیحائي انسجاماً وترابطاً یقع ضمن إطار من سیاق النص القرآني في کلّ موقف وحدث من القصة. وعلی هذا الأساس، وجدنا أنّ ألفاظ الحیوان في قصة بني إسرائیل تدلّ علی دلالات سیمیائیة تمثلت في التبیین والکشف عن الحقائق، والاستعجال والتسرع، والإحیاء والنشور، والتفجیر والتفجر لشق الطریق، والمخادعة والمحایلة، والغفلة والنسیان، وهي دلالات ذات صلة بکلّ موقف من مواقف القصة، کما هي دلالات لا یتبینها المتلقي مباشرة، بل بعد تمعن في نظام مترابط بین المعاني اللغویة وما یرتبط بفکرة النص والموقف القرآني. | ||
کلیدواژهها | ||
القرآن الکریم؛ السیمیائیة؛ السیاق؛ الحیوان؛ بنو إسرائیل | ||
اصل مقاله | ||
تحظی لغة القرآن الکریم بمفردات ذات دلالات إیحائیة تمیزه عن سائر النصوص البشریة، حیث نجد فیها طبقات من المعاني والمضامین الجزئیة التي تکوِّن الفکرة الأساسیة للنص القرآني؛ علی أنّ کلّاً منها یعبر عن مفهوم مقصود داخل سیاقه؛ ولکنّ الفکرة الرئیسة لا تکتمل إلّا بجمع کلّ هذه المضامین الجزئیة وربطها معاً لتکوِّن المضمون الأساس، فتتضح الصورة المکتملة من المعنی القرآني. وذلك يکشف عن ضرورة دراسة استقصائية تتوخّی الدقة والعناية الفائقة في اکتشاف المعاني الجزئیة وربطها ضمن سیاق لغوي وموقفي والتحرر من التقید بالمعاني المتداولة للمفردات والغور في ما تکنزه لغة القرآن من مضامین أساسیة متکاملة تعبِّر عن فکرة النص ومضمونه الرئیس الذي تکوِّنه مجموعة من المعاني الجزئیة. هذا، وتبدو السیمیائیة أنّها تصلح لأن تکون وسيلة فعّالة لاستقصاء أنماط متنوعة من عمليّات الاتصال والربط بین المفاهیم الجزئیة؛ إذ إنّها أصبحت تمتلك عدّة من المفاهيم المجردة تتيح لها استيعاب ما هو مشترك بين کثير من هذه العمليات. وبناء علی ذلك، وجدنا أنّ لاستخدام مفردات الحیوان في القرآن الکریم دلالات معنائیة سیمیائیة ترتبط بالمضمون الأساسي والفضاء السائد علی النص القرآني، مما یلزم علی المتمعن في معاني المفردات القرآنیة تفهم تلك المعاني والدلالات واستقصائها للکشف عنها ضمن تداخلات سیاقیة في القرآن الکریم. 1ـ1. غایة البحث وتساؤلاته تهدف هذه الدراسة إلی الکشف عن دلالات ألفاظ ومفردات الحیوان، والتي وُظِّفت في القرآن الکریم توظیفاً دلالیاً خفیاً نبینه من خلال دراسة سیمیائیة علی ضوء نظریة السیاق. بناء علی هذا الأساس، تحاول دراستنا الإجابة عن التساؤلین التالیین: ـ ما الدلالات السیمیائیة لألفاظ الحیوان في قصة بني إسرائیل في القرآن الکریم؟ ـ کیف نفسِّر العلاقة بین السیاق والسیمیائیة في الکشف عن الدلالات السیمیائیة لمفردات الحیوان في القرآن الکریم؟ 1ـ2. فرضیة البحث یبدو أنّ مفردات الحیوان التي وردت في قصة بني إسرائیل من القرآن الکریم، تحظی بدلالات سیمیائیة في قصة بني إسرائیل، تتمثل في التبیین والکشف عن الحقائق، والاستعجال والتسرع، والإحیاء والنشور، والتفجیر والتفجر لشق الطریق، والمخادعة والمحایلة، والغفلة والنسیان، وهي دلالات ترتبط بالفضاء السائد علی القصة القرآنیة والموقف الکلامي. کما ترتبط تلك الدلالات الخفیة بالمعاني اللغویة للمفردات التي یتبینها المتلقي من خلال وقوعها داخل السیاق القرآني. وبذلك نتبین أنّ للسیاق علاقة وثیقة لاکتشاف الدلالات السیمیائیة في القرآن الکریم. 1ـ3. خليفة البحث قد تطرقت دراسات متنوعة إلی ما یقترب من موضوع دراستنا، نذکرها حسب ترتیبها الزمني في ما یلي: دراسة معنونة بالتطور الدلالي للألفاظ في النص القرآني: دراسة بلاغیة، لجنان الجبوري (2005م). وقد توصلت الباحثة لعدة نتائج، منها أنّ الکلمة القرآنیة لها تطورات ودلالات تمثلت في الدلالة الصوتیة، والاجتماعیة، والإیحائیة، والهامشیة وکان لکلّ منها أثر کبیر في تأدیة المعنی وتعدده، ثمّ إنّ اللفظة القرآنیة قد توحي بأکثر من مدلول وتنطوي علی جملة من المعاني، فکلّما کانت إیحائیة الکلمة عالیة کانت قیمة تلك الکلمة من الناحیة الفنیة عالیة جداً، فهي تتجاوز حدودها المعجمیة بغیة التأثیر الجمالي الفني والإیحاء بمعان أعمق. دراسة معنونة بأسماء الحیوان في القرآن، لمحمد بن فنخور العبدلي (2006م)، وهو بحث درس الباحث من خلاله ما جاء في القرآن الکریم من الحیوانات وما کان لألفاظها من معان لغویة. وقد رکّز الباحث علی الجانب اللغوي من أسماء الحیوانات وإحصائها عدداً وذکر صفات وخصائص کلّ من هذه الحیوانات التي ورد ذکرها في القرآن الکریم مع إشارات إلی بعض الدلالات المعنویة والإیحائیة لها. دراسة معنونة باللزوم الدلالي لأسماء الحیوان في القرآن الکریم، لمحمد سامي عبد السلام حسانین (2014م). وقد وضع الباحث في دراسته مصطلح اللزوم الدلالي، لیکون دالاً علی ملازمة اللفظ لدلالة لیست من معناه المعجمي، حیث یجاوز معنی اللفظ دلالة أخری في جمیع المواضع متغایرة المضمون في القرآن الکریم. فدرس الباحث أسماء الحیوان الواردة في القرآن الکریم بأکثر من مرة في سیاقات متعددة وحدّد اللزوم الدلالي لکلّ اسم وخلص إلی أنّ اللزوم الدلالي في هذه الأسماء جاء مع جمیع هذه الأسماء. دراسة معنونة بسیمیائیة شخصیة السیدة مریم في القرآن الکریم، لعلی باقر طاهرىنیا، وزهره حیدرى (2014م). وقد خلص الباحثان إلی أنّ شخصیة السیدة مریم (J) دالّ سیمیائي ورمز دیني یکشف عن العواطف والأحاسیس والنضارة والمرونة، ویدلّ اسمها علی انتمائها إلی الطبقة المتوسطة من المجتمع، أي لو کانت تنتمي إلی الطبقة الأرستقراطیة لکان اسمها یحمل لقباً یدلّ علی ذلك، علی أنّها لم تکن من طبقة الفقراء، حیث کان أبوها عمران شخصیة ذا مکانة بارزة في بني إسرائیل. دراسة معنونة بوأد البنات: دراسة دلالیة سیمیولوجیة، لحمیدرضا میرحاجى، وطالب ربیعی (2014م). وقد توصل الباحثان إلی أنّ الدراسة السیمیولوجیة أظهرت أنّ ظاهرة الوأد في جذوره لم یکن إلّا قربان العرب لآلهتم وأن المؤودة كانت هي الواقية التي تقیهم من حلول المصائب والبلایا، وهي التي کانت تظهرهم متدینین طائعین. دراسة معنونة بسیمیائیة شخصیة یوسف (ع) القرآنیة: قراءة بنیویة سیموطیقیة، لعلی باقر طاهرىنیا ومعصومه شبسترى ومحمد علي العامرى (2017م)، حیث درس الباحثون فیها شخصیة یوسف (j) من منظور سیمیائي علی أساس نظریة فیلیب هامون من ناحیة الدالّ والمدلول وخلصوا إلی أنّه یوجد تناسق وتطابق بین اسم یوسف والألقاب والأوصاف التي یحملها وبین أدواره في القصة القرآنیة. دراسة معنونة بنشانهشناسی ادبی شخصیت فرعون در قرآن کریم (سیمیائیة شخصیة فرعون في القرآن الکریم)، لعلی باقر طاهرىنیا ومعصومه شبسترى ومحمد علي العامري (2017م). وقد درس الباحثون فیها شخصیة فرعون من منظور سیمیائي علی أساس نظریة فیلیب هامون من ناحیة الدالّ والمدلول وخلصوا إلی أنّه یوجد تناسق وتطابق بین اسم فرعون والألقاب والأوصاف التي یحملها وبین أدواره في القصة القرآنیة. دراسة معنونة بسیمیاء البقر في القرآن الکریم في ضوء نظریة السیاق، لمحمد کبیرى (2022م)، حیث اقتصر الباحث علی دراسة ألفاظ البقر في القرآن الکریم فحسب دراسة سیمیائیة وخلص إلی ما کان لألفاظ البقر من دلالات سیمیائیة ساعد السیاق علی استکشافها وعرضها علی المتلقي. وتعتبر دراستنا هذه استکمالاً لما جرت من دراسات وبحوث سبقت بحثنا عمّا للألفاظ الدالة علی الحیوان التي وردت في قصة بني إسرائیل في القرآن الکریم من دلالات سیمیائیة.
تنحدر كلمة سيميولوجيا من (Semiologie) من الأصل اليوناني (Semion) والمتولدة هي الأخرى من كلمة(Sema) وتعني العلامة (الدليلSigne )، وهي بالأساس الصفة المنسوبة على الكلمة الأصل (Sins) أي المعنى؛ أما عن لفظة لوجيا (Logie) فتعني العلم، وبالتالي فإن السيميولوجيا أو السيميوطيقا تعني علم العلامات (بن عومر، 2017م، ص 5). والسیمیائیة اصطلاحاً «هي دراسة ممنهجة لجمیع العناصر التي تساهم في خلق وتفسیر العلامات والدوال أو في عملیة الدلالة، کما تدرس مجالات الارتباط والمعنی في نظام متناسق من الدلالات» (مکاریك، 1385ﻫ.ش، ص 326). وتتحدد السیمیائیة بـ«دراسة العلامات واستعمالاتها، ودراستها تتضمن کیفیة استعمال الکلمات وأصواتها، فضلاً عن الإشارات وأنظمة الاتصال وغیر ذلك، کما تتضمن میادین دراسة الرموز وعلم الدلالة، وعلم ترکیب الجمل، والعملیات التداولیة، فضلاً عن الروابط بین الظواهر السلوکیة، والرموز» (سعد اللّٰه، 2007م، ص 15). ومن الجدیر بالذکر أنّ السیمیائیات الحدیثة لا تقتصر علی المجال اللغوي فحسب، بل «تعدت ذلك لتشمل میادین مختلفة مثل: الموسیقی والاتصالات اللاسلکیة، والطعام والشراب، والملابس، والطقوس الدینیة» (المصدر نفسه)، ثمّ إنّ العملیة التواصلیة عند الإنسان تجري عبر مجموعة من الإشارات اللغویة وغیر اللغویة، علی أنّ اللغة هي أهمّ الطرق والأنظمة للتواصل بین البشر (قدور، 2008م، ص343)، وهي «نظام من الدلائل یعبر عمّا للإنسان من أفکار وهي في هذا شبیهة بالکتابة وبألف بائیة الصمّ والبکم وبالطقوس الرمزیة وصور آداب السلوك وبالإشارات الحربیة وغیرها» (الأحمر، 2010م، ص37).
السياق[1] هو «بناء نصي كامل من فقرات مترابطة، في علاقته بأي جزء من أجزائه أو تلك الأجزاء التي تسبق أو تتلو مباشرة فقرة أو كلمة معينة. ودائماً ما يكون السياق مجموعة من الكلمات وثيق الترابط، بحيث يلقي ضوءاً لا على معاني الكلمات المفردة فحسب، بل على معنى وغاية الفقرة بأكملها» (فتحي، 1986م، ص 202). ويقصد بالسياق من حيث المدلول العام،«ذلك الإطار العام الذي تنتظم فيه عناصر النص، ووحدته اللغوية، ومقياس تتصل بوساطته الجملُ فيما بينها وتترابط، بحيث يؤدّي مجموع ذلك إلی إيصال معنی معيّن، أو فكرة محددة لقارئ النص» (عبد الراضي، 2011م، ص 197). بناء علی ذلك، فإنّ مفهوم السياق لا يقف عند الجمل والعبارات، بل يتعدی ذلك ويشمل النصوص والكتب كاملة، فهو «لا يشمل الكلمات ولا الجمل الحقيقية السابقة واللاحقة فحسب، بل والقطعة كلّها والكتاب كلّه،كما يشمل بوجه من الوجوه كلّ ما يتصل بالكلمة من ظروف وملابسات، والعناصر غير اللغوية المتعلقة بالمقام الذي تنطق فيه الكلمة» (أولمان، د.ت، ص 57). ویمکن تقسیم السیاق إلی سیاق الحال والمقام (أو السياق الاجتماعي)[2] والسياق اللغوي[3]. أمّا السياق اللغوي، فهو حصيلة استعمال الكلمة داخل نظام الجملة، عندما تتساوق مع كلمات أخرى، مما يكسبها معنى خاصاً محدداً (سعودي، 2016م، ص 129)، کما هو «يشمل كلَّ العلاقات، وهي كلُّ العلاقات التي تتخذها الكلمة في داخل الجملة» (حجازي، د.ت، ص 159). و«وضح كثيراً من العلاقات الدلالية، عندما يُستخدم مقياساً لبيان الترادف، أو الاشتراك، أو العموم أو الخصوص أو الفروق ونحو ذلك؛ فالمعنی الذي يقدمه المعجم عادة هو معنی متعدد وعام، ويتصف بالاحتمال، علی حين أنّ المعنی الذي يقدمه السياق اللغوي هو معنى معين له حدود واضحة وسمات محددة غير قابلة للتعدد أو الاشتراك أو التعميم» (قدور، 2008م، ص 355). وأمّا سياق الحال والمقام (السياق الاجتماعي)، فيدلّ علی العلاقات الزمانية والمكانية التي يجري فيها الكلام. وقد أشار اللغويون العرب القدامی إلی هذا السياق،كما عبّر عنه البلاغيّون بمصطلح "المقام"، وقد غدت كلمتهم (لكلّ مقام مقال)[4]. بناء علی ذلك، فإنّ مفهوم السياق الاجتماعي لا يقف عند الجمل والعبارات، بل يتعدی ذلك ويشمل النصوص والكتب كاملة، فهو «لا يشمل الكلمات ولا الجمل الحقيقية السابقة واللاحقة فحسب، بل والقطعة كلّها والكتاب كلّه،كما يشمل بوجه من الوجوه كلّ ما يتصل بالكلمة من ظروف وملابسات، والعناصر غير اللغوية المتعلقة بالمقام الذي تنطق فيه الكلمة» (أولمان، د.ت، ص 57).
إنّه لتلقي أفكار النص الأدبي لا بد من تجاوز الدلالات الظاهرية والتغلغل في ما وراء ظواهر الألفاظ، حيث تكمن الإشارات السيميائية الخفية ولا يتسنى ذلك إلا من خلال استخدام السيميائية التي تهتم بمطالعة أسلوبية الدلالات الموجودة في النص (مکاریك، 1385ﻫ.ش، ص۳۲۶)، کما لا یمکن الاستغناء في ذلك عن السیاق، حیث صرّح فیرث بأنّ «المعنی لا ینکشف إلّا من خلال تسییق الوحدة اللغویة؛ لأنّ السیاق وحده هو الذي یحرّر المفردات من أغلالها المعجمیة، ویضیف إلیها مفاهیم جدیدة تسمح بتحدید دقیق لدلالاتها» (بوزوادة، 2018م، ص 140). وبذلك نجد هناك علاقة وثیقة بین السیاق والسیمیائیة، حیث لا یمکن دراسة هذه الأخیرة دون ربطها بالسیاق. فالسیاق «هو المحیط اللغوي الذي تقع فیه الوحدة اللغویة، سواء أکانت کلمة أو جملة في إطار من العناصر اللغویة أو غیر اللغویة. فهو نصّ آخر مصاحب للنص الظاهر للقرّاء، وهو عنصر مهم في توجیه الدلالات، واکتشاف المعاني التي تتمیز بالحرکة والتفلّت والتغیر المستمر» (الطلحي، 1418ﻫ، ص 135)[5]. 4ـ1. البقرة ودلالة العلم والمعرفة قد تطرق القرآن الکریم إلی ذکر البقرة في أکبر سورة قرآنیة سُمِّت بها. ویبدو أنّ في ذلك غرضاً دلالیاً یرتبط بالمضمون الأساسي في سورة البقرة ارتباطاً سیمیائیاً نتبینه إذا درسناه في سیاقِ توظیفه اللغوي والموقفي، ممّا یکشف عن دلالات تنسیقیة تجعل المتمعن لمعاني السورة أن یکون واقفاً أمام منظومة متناسقة من المعاني المرتبطة بمضمون السورة الأساسي الذي تمثّل في التبیین والکشف عن الواقع للمتلقین. فإذا لاحظنا أجزاء السورة، نجد أنّ کلّ جزء منها یتطرق إلی ما یرتبط بهذا المضمون الأساسي من الهدایة، والإیمان بالغیب، والیقین بالآخرة، وعدم الشعور والکفر الذي یسببه الجهل وانعدام العلم والمعرفة، وعدم الاهتداء بسبب الضلالة، وضرب الأمثال لحصول العلم والتبین، وأنّ اللّٰه أعلم من الملائکة، وهو تعالی علّم آدم الأسماء کلّها، وذکر الظن بمعنی الیقین، وتأنیب الکافرین بسبب عدم علمهم بعلم اللّٰه، وأنّ بعضهم أمّيّون ویقولون علی اللّٰه ما لا یعلمون وغیر ذلك من المضامین الجزئية التي ترتبط بتبیین الحقائق والعلم والمعرفة، مما یُعتبر مضموناً أساسیاً تتمحور علیه المعاني الجزئیة في هذه السورة. اعتماداً علی هذا المبدأ، نجد أنّ اختیار مفردة البقرة کان مرتبطاً بمعناها اللغوي، فهي تدلّ في أصل معناها علی «الشقّ والفتح والتوسعة [ومن ثمّ] التوسُّع في العلم» (ابن منظور، د.ت، ج 3، ص 74). وإذا لاحظنا استخدامها في هذه السورة، نجدها موظفة للحصول علی العلم والمعرفة، حیث کان السبب في لجوء بني إسرائیل إلی موسی (j) توصلاً إلی معرفة القاتل والعثور علیه؛ وکذلك فیها إشارة إلی أنّ اللّٰه عزّ وجلّ قادر علی إحیاء الموتی؛ وهذا أمر لربّما کان یجهله بنو إسرائیل (حسانين، 2014م، ص 36)؛ فحثُّهم علی ذبح البقرة کان وسیلة إلی إحیاء المیت. وتجدر الإشارة هنا إلی أنّ ذکر البقرة جاء لغرض تبییني وللکشف عن حقیقة تتمثل في معرفة القاتل، کما یدلّ علی ذلك أصل الکلمة من التوسع في العلم. فإنّ اللّٰه تعالی لیس بحاجة إلی ذبح حیوان من أجل إحیاء الموتی فـ«إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُª (يس 36: 82)، بل کما یقول سید قطب: إنّه «ما في هذه البضعة [من البقرة] حياة ولا قدرة على الإحياء، وإنما هي مجرد وسيلة ظاهرة تكشف لهم عن قدرة اللّٰه، التي لا يعرف البشر كيف تعمل؛ فهم يشاهدون آثارها ولا يدركون كنهها ولاطريقتها في العمل» (1387ﻫ، ج 1، ص 80)، کما أنّ أسلوب سرد القصة یعتمد شیئاً من الغموض الذي یحثّ القارئ علی اکتشاف مضمون القصة، فهي «قصة قصيرة نبدؤها، فإذا نحن أمام مجهول لا نعرف ما وراءه. نحن لا نعرف في مبدأ عرض القصة لماذا يأمر اللّٰه بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، كما أن بني إسرائيل إذ ذاك لم يعرفوا» (المصدر نفسه، ج 1، ص 79). فنحن أمام طبقات من السیر من مجهول إلی معلوم. وکلّ هذا المجهول یتمحور علی لفظة بقرة، لینزاح عن الوجود وتحصل المعرفة بالواقع. وإذا تتبعنا توظیف لفظ البقر بکلّ مشتقاته في القرآن الکریم، نجده یلازم هذا المعنی، کما في قوله تعالی: «وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونª (یوسف 12: 43)، حیث الموقف یتطلب تفسیراً وتبییناً للرؤیا التي رأها الملك فطلب من الملأ والکهنة أن یعبرون له رؤیاه. فالموقف یعبر عن مجهول تمثل في رؤیا یجهلها الرائي، کما أنّ القارئ والمتتبع للقصة القرآنیة یجد في نفسه ذلك الطلب. ویزداد هذا الجهل عندما الملأ «قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينª (یوسف 12: 44)، حیث سمّوا الرؤیا الواحدة بأضغاث أحلام، كأنه «بعناية دعوى كونها صوراً متفرقة مختلطة مجتمعة من رؤی مختلفة لكل واحد منها تأويل على حدة، فإذا اجتمعت واختلطت عسر للمعبر الوقوف على تأويلها، فكانت أضغاث أحلام وامتنع الوقوف على حقيقتها» (الطباطبائي، 1390ﻫ، ج 11، ص 187)، کما أن مجيء ترکیب "أَضْغاثُ أَحْلامٍ" في سیاق تنکیر المضاف والمضاف إلیه قد زاد علی غموض وإبهام تلك الرؤیا، ومن ثمّ ظهور المزید من الرغبة والطلب لمعرفة تعبیرها. فبناء علی هذا الأساس، نجد تلازملاً وترابطاً بین توظیف مفردة البقر ومشتقاتها وبین ما یدلّ علی جهل یتطلب الکشف عنه ومعرفة الحقیقة والواقع، کما نلاحظ أنّه قد لازمَ هذا التوظیف ما یدلّ علی الکشف عن الحقائق والتبیین في هذا السیاق والذي تمثّل في مفردات کالإفتاء والتعبیر والرؤیة في الآیات الکریمة. 4ـ2. "العِجْل" ودلالة الاستعجال والتسرع وقد وظَّف القرآن الکریم ما هو من جنس البقر، أي "العِجْل"، توظیفاً لا یخلو من دلالات سیمیائیة تتلائم والمضمون الأساسي في قصة بني إسرائیل، حیث نجد فیه من الدلالات السیمیائیة ما یکشف عن توسع في المفاهیم التي یربطها السیاق بذلك المضمون الأساسي، حیث تصبح المفردة أکثر ترابطاً وانسجاماً مع سیاقها الذي وردت فیه من القصة القرآنیة، وذلك ابتداءاً من معناها اللغویة ومروراً بالمفاهیم الجزئیة لتنتهي إلی عرض صورة متکاملة من المضمون الأساسي. بناء علی ذلك، فإنّ مفردة "العِجْل" کمفردة البقرة وُضعت في سیاق لم یُراد بها فیه مجرد ذکر حیوان بعینه دون دلالة قرآنیة أخری، بل نری أنّ القرآن الکریم، وهو المعجز في البلاغة، لم یوظّف کلمة إلّا وهي منظومة في سلك من الدلالات التي انتضدت في سیاق متناسق منتظم یتطلب إمعاناً للکشف عنها. بناء علی هذا الأساس، أنه لا بد من النظر في أصل المفردة وتطورها الدلالي وتحلیل موطن استخدامها في السیاق للکشف عن دلالات قد تسترت خلف معناها الظاهري. ویبدو أنّ توظیف مفردة "العِجْل" یشع بدلالات سیمیائیة ترتبط ارتباطاً وثیقاً بأصل معناها اللغوي، وذلك عندما ندرسها داخل سیاقها اللغوي والموقفي. وإذا راجعنا أصل هذه المفردة، وجدنا الکثیر ممّا اشتق من مفردة "العجل" یدلّ علی العَجَلة والاستعجال والتسرع والإمضاء السریع في العمل وغیره کقول العرب: «قوس عَجلی أي سریعة السَّهم، والعاجل أي نقیض الآجل في کلّ شيء؛ والعَجلان صفة أطلقت علی شعبان لسرعة مضیّه ونفاده، والمعاجیل أي مختصرات الطرق، والعُجیلَی والعُجَیاَة أي السیر السریع، وأمّ عَجلان بمعنی الطائر» (الفیروزآبادي، 2008م، ص 1056). وکلّ ذلك یضمّ بین دفتیه ما یلمح إلی السرعة والإمضاء في الأمر. وإذا ندقق في توظیف مفردة "العِجْل"، نجد أنّ توظیفه کان في مواقف ارتبطت بحدث تأثر بالاستعجال والعَجَلة، کقوله تعالی: «وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَª (البقرة 2 : 51)، حیث لم ینتظر بنو إسرائیل نبیهم موسی (j)، وهو الذي أنقذهم بإذن اللّٰه من آل فرعون، حتی یعود إلیهم بعد ذهابه لمیقات ربّه، فانحدروا إلی عبادة العجل بمجرد غیبته (j) لأیام قلائل، فنسوا ما أراهم من المعاجز الإلهیة وإنجائهم من سوء العذاب. ولا شكّ أنّ للاستعجال دوراً في إعراضهم عن عبادة اللّٰه تعالی، کما يدلّ علی ذلك سیاق الآیة الکریمة بأسلوب الالتفات من خطاب سردي یخبر عمّا وعد اللّٰه تعالی موسی (j) بالأربعین لیلة إلی خطاب بني إسرائیل وتأنیبهم باتّخاذ العَجَلِ والعِجْلِ للعبادة من دون اللّٰه عزّ وجلّ. وهذا الأسلوب من السرد یدلّ علی سرعة إعراضهم عن عبادة اللّٰه جلّ وعلا إلی عبادة العجل، حیث کأنّهم لم ینتظروا انتهاء الوعد الالهي لموسی، حتی أصبحوا عابدین لغیر اللّٰه تعالی. ونجد ما للسیاق اللغوي من قرائن تؤکد هذه الدلالة السیمیائیة في مواقف متنوعة في القرآن الکریم، وذلك کقوله تعالی: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَª (الأعراف 7: 152)؛ إذ نجد تلازماً بین اتخاذ العجل معبوداً یعبدونه وسرعة نیلهم بغضب من ربّهم، وهذا ما یدلّ علیه حرف السین الذي یُوظَّف للاستقبال القریب، ممّا یدلّ علی الاستعجال والسرعة، کما دلّ الشقّ الآخر من الآیة الکریمة علی سرعة عقابهم بالذلّ في الدنیا قبل الآخرة. نلاحظ أنّ کلّ استخدامات "العِجْل" في سیاق قصة بني إسرائیل لازمت دلالة سیمیائیة ارتبطت بمضمون الموقف القرآني الذي تمثّل في الاستعجال والسرعة في القیام بفعل ما، ممّا أحدث انسجاماً بین المعاني الظاهرة للمفردات وبین توظیفها الدلالي في الموقف وما فیه إشارة إلی طبیعة الإنسان التي کشف عنها اللّٰه تبارك وتعالی في قوله: «خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍۚ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِª (الأنبیاء 73: 37). 4ـ3. "الحیة" ودلالة الحیاة والإحیاء عندما نقف في موقف آخر من قصة بني إسرائیل، نجد توظیف حیوان من فصیلة الزواحف، مما تمثّل في "الحیّة" التي ظهرت لتدلّ أوّلاً علی فعل معجز، حیث هي لم تکن حيّة کسائر الحیّات التي خُلقت وربت بشکل طبیعي، بل نجدها في الأصل عصا لموسی یهش بها علی غنمه، کما کان له فیها مآرب أخری؛ فـ«قالَ أَلْقِها يا مُوسى @ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰª (طه 20: 19 ـ 20)، حیث نجدها في الأصل عصا، ثمّ تتحولت بعد ذلك إلی حیّة تسعی. وتقع المعجزة معجزةُ الحیاة؛ إذ هي عصا حيّة تدبّ فیها الحیاة، وإذا أردنا أن نتبین ما للسیمیائیة من أثر في تبیین ذلكـ نلجأ إلی أصل مفردة "حیّة"، حیث هي في الأصل من "ح ـ ي ـ ي". وبناء علی ذلك، نجد أنّ هناك علاقة بین أصل معناها اللغوي وبین الحیاة، ونحن في موقف یکشف لنا عن إحیاء شيء جامد. فهو لمّا تحول إلی کائن حي دلّ لفظه علی ما کان یدلّ أصل حروفه من التمتع بالحیاة، فنری هناك ترابطاً یوثّق الفعل المعجز الذي تمثل في إحیاء الجامد ویؤکِّده. فمفردة "حيّة" توحي بنفسها إلی الحیاة ویجد القارئ والمتلقي نفسه مهیأة لتقبل هذا المعجز والخضوع له. ولإحیاء العصا في هذا الموقف دلالة سیمیائیة أخری تتمثل في علاقة نجدها بین الإحیاء والحجة البینة، أي أن هناك ترابطاً بین عملیة الإحیاء وعرض بینة تمثلت في تحویل العصا إلی حيّة ضمن عملیة إحیاء، لتکون حجة بینة یؤمن بها الناس، کما نری ذلك في قوله تعالی: «وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللّٰه أَمْراً كانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍª (الأنفال 8: 42). فنجد هذه الدلالة السیمیائیة في مفردة "حيّة"، حیث أصبحت تشع بدلالة إیحائیة تشیر إلی أنّها تخضع لعملیة إحیاء، کما دلّ علی ذلك أصل معناه اللغوي وبین ما یبینه سیاق القرآن من أنّ الإحیاء هو من الحجج الإلهیة البینة في سبیل إیمان الإنسان باللّٰه تعالی، ونحن نری أنّ هذا المعنی وتلك الدلالة تمثلت في لفظة واحدة هي "حیّة"، حیث أصبحت توحي إلی مفهوم الإحیاء. وفي الوقت نفسه، کانت حجة بینة لمن یراها، وهي قد تحولت من عصا جامدة لا حیاة فیها إلی حیوان ذات حیاة وحرکة. وکذلك نجد أنّ الإحیاء في السیاق القرآني یلازم الهدایة والسیر في ضوء النور الإلهي، کما جاء في قوله عزوجل: «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْهاª (الأنعام 6: 122). بناء علی ذلك، نری أنّ لفظة "حیة" جاءت في موقف یتناسب والموقف القرآني من هدایة بني إسرائیل وتلاءمت مع ما یریده السیاق القرآني من معنى الهدایة في الإحیاء. 4ـ4. "الثعبان" ودلالة التفجیر والتفجر وقد ذکر القرآن الکریم ـ بناءاً علی ما یتطلبه سیاق الموقف ـ نوعاً آخر من تسمیات الحیة، حیث قال تعالی: «فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌª (الأعراف 7: 107؛ الشعراء 26: 32). والثعبان هو العظیم من الحیّات، فلا یطلق إلّا علی ما کَبُر وعَظُم منها (الثعالبي، 2000م، ص 201). والمفارقة واضحة بین لفظ الحیة والثعبان؛ إذ لا نجد هذا الوصف في الحیّة. ولو تبیّنّا الغایة من هذا التوظیف لوجدناها أنّها تخضع للموقف الکلامي وسیاق الموقف في القرآن الکریم. فالموقف موضع تحدٍ جادّ أمام طاغیة یدعی فرعون، حیث تحدّی موسى بأن قال: «إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينª (الأعراف 7: 106). وذلك في حفل حضره أبرز سحرة فرعون والملأ والناس أجمعین، فکان الموقف یتطلب إظهار القدرة الإلهیة بتحویل العصا إلی حیة عظیمة تلقف کلّ حبال الزور والسحر لیؤمن بنو إسرائیل بربّ موسى ولینجیهم (j) من آل فرعون. فأجواء الموقف أجواء تحدٍ ونضال، بخلاف موقف تواجد موسی في الوادي المقدس طوی؛ فهنالك موقف اختیار موسی للنبوة والرسالة، ممّا یتطلب فضاءاً آمناً یطمئن إلیه الرسول بإیناس ولطف إلهي. علی أنّ لمفردة "ثعبان" دلالة سیمیائیة نهتدي إلیها عبر ما یدلّ علیها أصل معناها اللغوي وربطه بما وقعت فیه من موقف کلامي. فأصل "ثعبان" من «ثعب" و"ثَعَبَ الماءَ والدمَ ونحوهما یَثعَبُه ثَعباً: فَجَّرَه... ومنه اشتقَّ مَثعَبُ المطر وانثعبَ المَطَرُ: سالَ والثَّعبُ مسیل الوادي والجمع ثُعبان والثَّعب مجمع الماء والثَّعبُ الذي یجتمع في مسیل المطر من الغُثاء» (ابن منظور، د.ت، ج 1، ص 481 ـ 482). فنجد أنّ هنالك علاقة بین معنی "ثعبان" اللغوي الذي یدلّ علی التفجیر والشقّ ومسیل الوادي وبین ما جاء في قصة بني إسرائیل من شقّ البحر بعصا موسی نفسها التي تحولت إلی ثعبان، لینجو بذلك بنو إسرائیل مباشرة بعد أن صار الثعبان وسیلة لإیمانهم بربّ موسی، کما هو یوحي إلیهم بالنجاة من آل فرعون بانشقاق البحر واجتیازهم منه. 4ـ5. "الحوت" ودلالة المخادعة والمحایلة هنا نتوجه إلی مشهد سیمیائي آخر من قصة بني إسرائیل، حیث یوظِّف القرآن الکریم صورة حیوان تعکس دلالات سیمیائیة داخل سیاقها اللغوي والموقفي تتمثل في مفردة "الحوت"؛ إذ نجد أنّها توحي بمعان دلالية جزئیة تکوِّن صورة معنائیة متکاملة داخل نسقها القرآني. یقول تعالی: «وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونª (الأعراف 7: 163)، حیث تشیر القصة إلی أنّ اللّٰه تعالی حرّم على بني إسرائیل صید الأسماك يوم السبت، ولأجل أن يعاملهم اللّٰه معاملة المختبر لحالهم، ويظهرهم للملأ على حقيقتهم كان يرسل الحيتان إليهم بكثرة ظاهرة على وجه الماء يوم السبت، ويمنعها عنهم في سائر الأيام، فتوصل جماعة منهم إلى حيلة يحللون بها ما حرم اللّٰه، فحفروا حفراً داخل النهر وأنشأوا قنوات تتصل بالماء تتسلل الحيتان منها إلى الحفر، ولا تستطيع الخروج، فكانوا يأخذونها يوم الأحد ويقولون نحن نصطاد يوم الأحد، لا يوم السبت، فأنكر عليهم جماعة منهم، وزجروهم عن هذا الاحتيال والتلاعب بالدين (مغنیة، 1424ﻫ، ج 3 ، ص 410). ومن هذا المنطلق، إن اتّجهنا إلی توظیف "الحوت" في هذا السیاق، نجده یوحي إلی دلالات ترتبط بهذا الموقف من المخادعة والمحایلة،حیث لفظة الحوت تعني في أصل معناها اللغوي المراوغة والمخادعة کما جاء في لسان العرب «حاوَتَك فلانٌ، إذا راوغَك والمحاوتة المراوغة، وهو یُحاوتني أي یُراوغني» (ابن منظور، د.ت، ج 2، ص 1037). فنقف من خلال ذلك علی دلالة سیمیائیة إیحائیة توحي إلی ترابط وانسجام بین أصل المفردة اللغوي للمقطع الکلامي وبین سیاق الموقف وفکرة النص الرئیسة التي ترمي إلی تبیین ما کان یسعی إلیه بنوإسرائیل من المخادعة للّٰه تعالی ومراوغته جلّ وعلا. وتعتبر هذه الدلالة السیمیائیة دلالة إیحائیة یستنبطها القارئ بحسب ما یقف علی مجموعة من الآلیات التي تتمثل في معرفة الدلالات اللغویة للمفردة العربیة وطرق استعمالها ومناهج توظیفها والمشترکات اللفظیة وما یشتق منها من أبنیة تتنج معاني مختلفة في ظاهرها، کما یجب معرفته بموقف توظیفها في النص القرآني وما یتعلق به من حدث تاریخي وقرآني، کما نجد أنّ قصة الحوت لبني إسرائیل المتصلة بالاختبار الإلهي لهم الذي تمثل في منعهم اصطیاد الحیتان یوم السبت. 4ـ6. "السَّلْوَى" ودلالة النسیان والغفلة نتبین في موقف آخر من قصة بني إسرائیل دلالة سیمیائیة أخری تستحق الالتفاتة والتمعن، وهي ما توحي بها لفظة "السلوی" من دلالة سیمیائیة تتناسب وموقف الحدث الذي یبینه النص القرآني. قال تعالی: «وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَª (البقرة 2: 57)؛ إذ تتّضح لنا تلك الدلالة من خلال دراسة اللفظة، وفقاً للسیاق اللغوي، ومروراً بتدرج معناها طبقاً لما یتطلبه الموقف الکلامي، لنستنبط من خلال ذلك کلّه ما توحي به هذه اللفظة من دلالة سیمیائیة التي تتمثل في الغفلة والنسیان الذي اعتری بني إسرائیل في استذکار ما أنعم اللّٰه تعالی علیهم من خیر وبرکات. فإذا نرجع إلی المعنی اللغوي للفظة "السلوی"، نجدها تدلّ في أصلها اللغوي علی النسیان (ابن منظور، د.ت، ج 7، ص 248)، الذي یسببه التنعم والرخاء، حیث یقال «هو في سلوة من العيش أي في رخاء وغفلة» (المصدر نفسه، ج 7، ص 248). وهذا ما یؤکِّده موقف القصة من أنّ بني إسرائیل کلّما أنعم اللّٰه تعالی علیهم بخیر ونعمة کفروا بها ولم یهتمّوا بقوله جلّ وعلا: «يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَª (البقرة 2: 47)، بل کانوا قوماً یکفرون بما أنعم اللّٰه علیهم وهم في غفلة من ذلك. وفي موقف آخر، یقول تعالی: «يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰª (طه 20: 80)، حیث نلاحظ تلازم لفظة "السلوی" بنوع آخر من النعمة الإلهیة التي تتمثل في نجاتهم ممّن یعادیهم إلّا أنّهم نسوا هذا الفضل الإلهي بعد تخلصهم من المهالك والمصاعب. بناءاً علی ذلك، فتتخذ لفظة "السلوی" هذا الطابع السیمیائي، وهو طابع دلالي لم نتبینه إلّا من خلال دراسة اللفظة في سیاقها اللغوي والموقفي من النص القرآني.
الخاتمة تطرق هذا البحث إلی دراسة توظیف الحیوان في قصة بني إسرائیل، وقد وقع الاختیار منه علی البقرة، والعجل، والحیة، والثعبان، والحوت، وطائر السلوی دراسة سیمیائیة إیحائیة، حیث توصلت إلی: أنّ مفردات القرآن الکریم لم توظف لتؤدِّي معاني مبنیة علی أساس معناها الظاهري اللغوي فحسب، بل تعتبر معانیها اللغویة بحسب طبیعة القرآن الکریم، جزءاً من المعنی الأساسي والفکرة الرئیسة للنص القرآني. ونحن بذلك أمام مسار متکامل من المعاني اللغویة التي ترتقي إلی معاني إیحائیة ذات ظلال دلالیة داخل سیاق النص القرآني. وهذا ما وجدناه في الألفاظ الدالة علی الحیوان في قصة بني إسرائیل، حیث اتخذت طابعاً دلالیاً سیمیائیاً یربط بین معاني الألفاظ اللغویة وما دلّت علیه من دلالات سیمیائیة هي أکثر تلاؤماً مع فکرة النص القرآني الرئیسة. وقد کشفت الدراسة عن هذه الدلالات السیمیائیة لألفاظ الحیوان في قصة بني إسرائیل، وکانت دلالات تُوثِّقها علاقة تظهر بین ما لتلك الألفاظ من معاني لغویة أولیة وبین ما للقصة من فکرة محوریة أساسیة، فنجد بین المعنی اللغوي والإیحائي انسجاماً وترابطاً یقع ضمن إطار من سیاق النص القرآني في کلّ موقف وحدث من القصة. وعلی هذا الأساس، وجدنا أنّ ألفاظ الحیوان في قصة بني إسرائیل تدلّ علی دلالات سیمیائیة تمثلت في التبیین والکشف عن الحقائق، والاستعجال والتسرع، والإحیاء والنشور، والتفجیر والتفجر، والمخادعة والمحایلة، الغفلة والنسیان وهي دلالات ذات صلة بکلّ موقف من مواقف القصة، کما هي دلالات لا یتبینها المتلقي مباشرة، بل بعد تمعن في نظام مترابط بین المعاني اللغویة وما یرتبط بفکرة النص والموقف القرآني. وقد کشفت الدراسة عمّا للسیاق من أثر في کشف الدلالات السیمیائیة لألفاظ الحیوان في قصة بني إسرائیل، حیث ربط بین التوظیف اللغوي للمفردة وبین استخدامها داخل النص والموقف القرآني، ممّا ینتج دلالات إیحائیة وسیمیائیة تتناسب والمضمون القرآني. ونحن بذلك نقف علی دور السیاق اللغوي في استنباط المعاني اللغویة وما للألفاظ والمفردات من دلالات سیمیائیة، کما نقف علی دور السیاق الموقفي في الکشف عن تلك الدلالات السیمیائیة التي تتناسب والموقف الکلامي. وبذلك کلّه، توصلنا عن تلازم السیاقین اللغوي والموقفي في الکشف عن الدلالات السیمیائیة للألفاظ في القرآن الکریم.
[1].context : يتکون مصطلح context من مقطعين con+text. استعمل المصطلح أولاً ليعني الکلمات المصاحبة للمقطوعات الموسيقيّة، ثمّ استعمل بعد ذلك في معنی النص، أي تلك المجموعة من الکلمات المتراصّة مکتوبة أو مقروءة، ثمّ أصبح المصطلح يعني ما يحيط بالکلمة المستعملة في النص من ملابسات لغوية وغير لغوية (حسام الدين، د.ت، ص 85). [2]. Situational Context [3]. Linguistic Context و«قد اقترح K.Ammer تقسيماً للسياق شمل كلَّ ما يتصل باستعمال الكلمة من علاقات لغوية وظروف اجتماعية وخصائص وسمات ثقافية ونفسية وغيرها؛ وعلی هذا يمكن أن يقسم السياق إلی أربعة أقسام:السياق اللغوي، والسياق العاطفي، والسياق الثقافي، وسياق الحال أو الموقف (السياق الاجتماعي» (عمر، 1998م، ص 69). [4]. فقد لاحظ البلاغيون منذ القدم ظاهرة السياق من خلال مقولتهم الدقيقة بأنّ:لکلّ مقام مقالاً، ولکلّ کلمة مع صاحبتها مقاماً، فانطلقوا في مباحثهم حول فکرة السياق وربطها بالصياغة،أو بمعنی أصحّ، ربط الصياغة بالسياق، وأصبح مقياس الکلام في باب الحُسن والقبول بحسَب مناسبة الکلام لما يليق به، أي مقتضی الحال (عبد المطلب، 1994م، ص 305). [5]. «إنّ استعمال صیغة لغویة یحدد مجموعة من المعاني وبإمکان المقام أن یساعد علی تحدید عدد من المعاني، فعندما تستعمل صیغة في سیاقها فإنّها تستبعد کلّ المعاني الممکنة؛ لذلك السیاق والتي لم تشر إلیه تلك الصیغة والسیاق بدوره یستبعد کلّ المعاني لتلك الصیغة التي لایحتمل السیاق» (سعودي، 2016م، ص 129). | ||
مراجع | ||
* القرآن الكريم. أ. العربية ابن منظور، محمد بن مكرم. (د.ت). لسان العرب. بيروت: دار صادر. أولمان، ستيفن. (د. ت). دور الكلمة في اللغة. ترجمة كمال محمد بشير. د.م: مكتبة الشباب. بن عومر، بکدي. (2017م). السیمیائیة بین النظریة والتطبیق. الجزيرة: جامعة الدکتور مولاي الطاهر. بوزوادة، حبیب. (2018م). «إشكالیة المعنی في ضوء النظریة السیاقیة»، مجلة إشكالات. ج 7. ع 1. ص 130 ـ 149. الثعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمد. (2000م). فقه اللغة وأسرار العربیة. ط 2. شرح یاسین الأیوبي. بیروت: المکتبة العصریة. الجبوري، جنان. (2055م). التطور الدلالي للألفاظ في النص القرآني: دراسة بلاغیة. بغداد: جامعة بغداد. حجازي، محمود فهمي. (د.ت). مدخل إلی علم اللغة. القاهرة: دار قباء. حسام الدين، كريم زكي. (د.ت). التحليل الدلالي: إجراءاته ومناهجه. د.م: د.ن. حسانين، محمد سامي.(2014م). اللزوم الدلالي لأسماء الحيوان في القرآن الكريم: الإعجاز والتفسير. القاهرة: بورصة القاهرة. سعد اللّٰه، محمد سالم. (2007م). مملکة النص: التحليل السيميائي للنقد البلاغي؛ الجرجاني نموذجا. عمان: جدارا الکتاب العالمي. سعودي، آسیة. (2016م). دور السیاق في تأویل الخطاب. الصنعاء: جامعة المسیلة. طاهرى نیا، علی باقر؛ ومعصومه شبسترى، ومحمد علي العامري. (2017م). «سیمیائیة شخصیة یوسف (ع) القرآنیة: قراءة بنیویة سیموطیقیة». دراسات في اللغة العربیة وآدابها. ع 24. ص 47 ـ 67. الطباطبائي، محمدحسين. (1390ﻫ). الميزان في تفسير القرآن. ط 2. بیروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات. الطلحي، ردَّة اللّٰه بن ردّة. (1418ﻫ). دلالة السياق. مكة: جامعة أمّ القری. عبد الراضي، أحمد محمد. (2011م). المعايير النصّية في القرآن الكريم. القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية. عبد المطلب، محمد. (1994م). البلاغة والأسلوبية. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون. العبدلي، محمد بن فنخور. (1420ﻫ). أسماء الحیوانات في القرآن. الرياض: دار القاسم. عمر، أحمد مختار. (1998م). علم الدلالة. ط 5. القاهرة: عالم الكتب. فتحي، إبراهيم. (1986م). معجم المصطلحات الأدبية. تونس: المؤسسة العربية للناشرين المتحدين. الفیروزآبادي، مجد الدین. (2008م). القاموس المحیط. تحقیق أنس محمد الشامي وزکریا جابر أحمد. القاهرة: دار الحدیث. قدور، أحمد محمد. (2008م). مبادئ اللسانيات. ط 3. دمشق: دار الفكر. قطب، سید. (1387ﻫ). في ظلال القرآن. ط 35. بیروت: دار الشروق. کبیرى، محمد. (2022م). «سیمیاء البقر في القرآن الکریم في ضوء نظریة السیاق». مجلة اللغة العربیة وآدابها. س 18. ع 3. ص 369 ـ 384. مغنية، محمد جواد. (1424ﻫ). التفسير الكاشف. قم: دار الكتاب الإسلامي. میرحاجى، حمیدرضا؛ وطالب ربیعى. (2013م). «وأد البنات: دراسة دلالیة سیمیولوجیة». إضاءات نقدیة. ع 9. ص 89 ـ 118.
ب. الفارسیة طاهرىنیا، علیباقر؛ و زهره حیدرى. (2014م). «ساختار نشانهای شخصیت حضرت مریم در قرآن کریم». لسان مبین. ع 15. ص 45 ـ 64. ــــــــــــــــــــ؛ و معصومه شبسترى، و محمد علي العامري. (2017م). «نشانهشناسی ادبی شخصیت فرعون در قرآن کریم». پژوهشهای ادبی ـ قرآنی. ع 2. ص143 ـ 165. مکاریك، ایرنا. (1385ﻫ.ش). دانشنامه نظریههای ادبى. ترجمه مهران مهاجر و محمد نبوی. تهران: آگاه. | ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 189 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 75 |