تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,651 |
تعداد مقالات | 13,405 |
تعداد مشاهده مقاله | 30,230,504 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 12,081,531 |
دلالات التصريف القرآني عند ابن الزبير الغرناطي من خلال كتابه ملاك التأويل | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
دوره 15، شماره 28، شهریور 2023، صفحه 35-48 اصل مقاله (1.01 M) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2021.130569.1386 | ||
نویسنده | ||
نضال القطامين* | ||
* أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة صحار، صحار، عمان | ||
چکیده | ||
هذا البحث بعنوان دلالات التصريف القرآني عند ابن الزبير الغرناطي من خلال كتابه ملاك التأويل، أوردت فيه الدلالات المختلفة التي ذكرها ابن الزبير الغرناطي في كتابه، محاولا بذلك نفي التكرار عن الآيات المتشابهة، من خلال بيان ما تحمله من فروق دقيقة في دلالاتها، متبعا المنهج الوصفي التحليلي في عرض وجهة نظر مؤلف الكتاب في معرض دفاعه عن آيات القرآن الكريم المتشابهة. وقد بينا المنهج الذي سار عليه ابن الزبير وقصده من تأليف كتابه، ثم ذكرنا ما اعتمد عليه من دلالات: اختصاص كل موضع بما فيه، واختلاف التعقيبات، واختلاف المقاصد، واختلاف العطف، ودلالة التقديم والتأخير، ودلالة التضعيف، والاختلاف في الجمع، وزيادة حرف وخلوه في آية آخرى، والتعريف والتنكير، والإجمال والتفصيل، والإيجاز والإطالة، ومناسبة الحال، ومناسبة النزول، ومراعاة ما بنيت عليه السورة، لنفي التكرار عن القرآن الكريم ويشير إلى مدلولات التصريف القرآني دون التصريح بذلك؛ ولعل أهمية البحث تتأتى من أن موضوع التصريف في القرآن لم يأخذ حقه من الاهتمام والتعريف في الدراسات اللغوية على مستوى التنظير والتطبيق، كما أن فيه رد على المشككين بكلام اللّٰه مدعين أنه لو من عند اللّٰه لم تتكرر آياته. وقد خرج البحث بنتائج، أهمها أن التصريف لفظة قرآنية ومنهج قرآني كذلك اتخذه وسيلة في بيان معانيه، كما أن التصريف وجه من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، ويكاد ابن الزبير أول من أكمل جهود سابقيه في هذا المضمار، من خلال ما أورده في كتابه من دلالات تدحض آراء المشككين والطاعنين في كتاب اللّٰه. | ||
کلیدواژهها | ||
التصريف القرآني؛ التكرار؛ الغرناطي؛ ملاك التأويل | ||
اصل مقاله | ||
الحمد للّٰه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي تدبّر القرآن حق تدبره وبيّنه أفضل بيان، والصلاة والسلام على آله الطيبين الأطهار وعلى صحبه أجمعين، وبعد .... فإن أسرار كتاب اللّٰه تعالى لا تحصى، وكلما تدبر المؤمن في هذا الكتاب العظيم، ازداد إيمانا على إيمانه، ومعرفة بأساليبه الدقيقة وبيانه، ومقاصده السامية التي تظهر للمتمعن فيه؛ لأنه معجزة خالدة، وبرهان ساطع. وابن الزبير الغرناطي ممن آتاه اللّٰه مقدرة على التدبر في كتابه، والتعمق في كشف أسراره وبيان إعجازه، وذلك من خلال الآيات المتشابهات. والجدير بالذكر في هذا المقام أن متشابه القرآن الذي صنف فيه العلماء نوعان: الأول: المتشابه اللفظي، ويطلق عليه في علوم القرآن "علم الآيات المتشابهات" أو "علم المتشابه"، وهو من علوم التفسير؛ والثاني: علم الكلام والمتشابه، ويقصد به هنا آيات الصفات، والأفعال، وموضوعه "علم الكلام". وجميع الذين صنفوا في المتشابه راعوا هذا التقسيم، وهو الذي سار عليه ـ فيما بعد ـ المصنفون في علم القرآن (الكرماني، 1991م، ص 58). وألف ابن الزبير الغرناطي في النوع الأول، وهو الذي جعله الزركشي في كتابه البرهان، النوع الخامس من أنواع علوم القرآن (1972م، ج 1، ص 112)، وأفرد للمحكم والمتشابه نوعا مستقلا من علوم القرآن، وتبعه في ذلك السيوطي في كتابه الإتقان (د.ت، ج 3، ص 339). والمتشابه اللفظي نوع مستقل بذاته يقصد به الاعجاز اللغوي بالتصرف في الأسلوب بنقله من مكان إلى مكان في القصة الواحدة، أو الموضوع الواحد، لغرض بلاغي لا يدركه إلا أصحاب اللغة، الذين خوطبوا بالقرآن الكريم، وهم أرباب الفصاحة وجهابذة البلاغة، وأساطين البيان مع الاحتفاظ بالمعنى (ابن جماعة، 1990م، ص 45). وكتاب ابن الزبير أفضل ما ألف في هذا الباب وأوسعها وأشملها. قال السيوطي، وهو يذكر المصنفات التي ألفت في هذا العلم: «أفرده بالتصنيف خلق، أولهم ـ فيما أحسب ـ الكسائي، ونظمه السخاوي، وألف في توجيهه الكرماني، كتابه البرهان في متشابه القرآن، وأحسن منه درة التنزيل وغرة التأويل، لأبي عبد اللّٰه الرازي، ولم أقف عليه، وللقاضي بدر الدين بن جماعة في ذلك كتاب لطيف سماه كشف المعاني عن متشابه المثاني» (د.ت، ج 3، ص 339). 1ـ1. إشكالية البحث لقد حاول البحث الإجابة عن التساؤلات الآتية: ـ ما القصد من تأليف ابن الزبير لكتابه ملاك التأويل؟ ـ ما منهجه فيه؟ ـ كيف حاول أن يدافع عن القرآن الكريم؟ ـ ما هي الدلالات التي استعان بها لنفي التكرار عن القرآن الكريم والرد على الطاعنين فيه، وبيان المعجز؟ ـ هل كان موفقا في اختيار المصطلح المناسب؟ ـ ما المصطلح البديل لذلك؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة، اتبعت الدراسة المنهج الوصفي ـ التحليلي مستفيدة مما طرحه ابن الزبير في كتابه ومستندة على آراء بعض القدماء كالرماني في كتابه النكت في إعجاز القرآن، والباقلاني في كتابه إعجاز القرآن، وأبي الأصبع المصري في كتابه بديع القرآن، والكرماني في كتابه البرهان في متشابه القرآن، وابن جماعة في كتابه كشف المعاني.
إن القصد من تأليف ابن الزبير لكتابه ملاك التأويل، هو الدفاع عن القرآن الكريم، والرد على الطاعنين والملحدين الذين طعنوا في القرآن الكريم وبيانه، بما تراءى لم من تكرار والأمر عكس ذلك؛ لأنهم جهلوا بيانه ومقاصده السامية. يستفاد ذلك من عنوان كتابه، الذي كان موفقا في اختياره، وملاءمته لما احتوى عليه، والذي سمّاه مِلاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظي من آي التنزيل. وقد بين قصده من تأليف كتابه هذا فقال: «وإن مما حرّك إلى هذا الغرض وألحقه عند من تحلى ولوعا باعتباره، والتدبر لعجائبه الباهرة وأسراره ـ بمثل حالي على استحكام جدْبي وإمحالي، بالواجب المفترض ـ ... مع عظيم موقعه وجليل منزعه، ومكانته في الدين، وفتّهِ أعضاد ذوي الشك والارتياب من الطاعنين والملحدين» (1985م، ج 1، ص 4). ومن الأسباب التي دعته لتأليفه أيضا، هو إغفال التأليف في هذا النوع من البيان القرآني؛ إذ قال: وإن من مغفلات مصنفي أئمتنا رضي اللّٰه عنهم في خدمة علومه، وتدبر منطوقه الجليل ومفهومه، توجيه ما تكرر من آياته لفظا، أو اختلف بتقديم أو تأخير، وبعض زيادة في التعبير، فَعسُر إلا على الماهر حفظا، وظن الغافل عن التدبر، والمخلد إلى الراحة عن التفكر، أن تخصيص كل آية من تلك الآيات بالوارد فيها، مما خالفتْ فيه نظريتها لسبب يقتضيه، وداع من المعنى يستدعيه، وأن ليس على جميع الوارد من ذلك مرجحات من المعاني عند ذوي الإفهام، ومقتضيات من لوازم جليل التركيب في ذلك المعجز العلي من النظام، فلا يليق بكل من تلك المواضع إلا لوارد فيه، وأن تقدير وقوع آية منها في موضع نظيرتها ينافر مقصود ذلك الموضع وينافيه، فتعسا لمن تنكّب عن واضح آياته، وكأنْ لم يقرع سمعه قوله تعالى: «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِª (ص 28: 38) (المصدر نفسه، ج 1، ص 3). ويصرح ابن الزبير بذكر من سبقه بالتأليف في هذا العلم، بقوله: إلى أن ورد علي كتاب لبعض المعتنين من جلة المشارقة ـ نفعه اللّٰه ـ سماه بكتاب درة التنزيل وغرة التأويل، فَرَع به مغلق هذا الباب، وأتى في هذا المقصد بصفو من التوجيهات لُباب، وعرَّف أنه باب لم يُوجف عليه أحد قبله بَخيْل ولا ركاب، ولا نطق ناطق قبلُ فيه بحرف مما فيه، وصدق ـ رحمه اللّٰه ـ وأحسن فيما سلك وسُنْ، وحُقّ لنا به ـ لإحسانه ـ أن نقتديَ ونستنْ (المصدر نفسه، ج 1، ص 4). ومع اعترافه بفضل السبق للخطيب الإسكافي وتشجيعه له بالتأليف في هذا العلم الجليل، فإنه يصرح بإضرابه عن كتاب الخطيب هذا، وتأليفه لكتابه ملاك التأويل اعتمادا على فكره؛ إذ قال: فحرك من فكريَ الساكن وأضربت عن نسخته إلى الاستدراك بلكن، وأبديت ـ بحول ربي ـ من مكنون خاطري إلى الظهور ما أثبته بعون اللّٰه وقوته في هذا السطور معتمدا عين ما ذكره من الآيات ومستدركا ما تذكرته مما أغفله ـ رحمه اللّٰه ـ من أمثالها من المتشابهات برفع تلك الإشكالات، وإبداء المعاني الخفيات، القاطعة بذوي البطالات، من غير أن أقف في ذلك على كلامه، إلا بعد إبدائي لما يلهمه اللّٰه ـ سبحانه ـ وإتمامه، ولا ناقلا إلا في الشاذ النادر كلام أحد من أرباب المعاني؛ إذ لم يتعرض أحد غيرُ ما تقدم ذكره لما من هذا الضرب أعاني، وإنما يلقيه فكري إلى ذكري، فيلقيه تَرْجُمان فهمي على قلمي (المصدر نفسه). وإذا نقل عن أحد ـ وهو قليل في كتابه هذا ـ فإنه يعزو ذلك إلى أصحابه، وهو ما بيّنه بقوله: «وإن أثرتُ بعض ما عليه لغيري عَثَرْتُ فنقلت، أفصحت بالنسبة وعقلت» (المصدر نفسه، ج 1، ص 5). والمتتبع لملاك التأويل، يلمس أن ابن الزبير قد انفرد بمنهج دقيق وقدرة على التحليل والاستقصاء. وقد سار على منهج الخطيب الإسكافي، وهو منهج المفسرين، الذي يبدأ من أول القرآن الكريم إلى آخره، مستدركا على الخطيب ما أغفله من الآيات المتشابهات، وذلك ما بينه بقوله: «وقد استجرَّت تلك الآيات جملة من المغفلات، من أمثال تلك المشكلات مما يُجاري ويُشبه، ويلتبس على من قصَّر في النظر، ويُشبه مما لم يقع في كتاب درة التنزيل ولا تعرض له بذكر ـ لنص التنزيل ـ ولا تأويل فنبهنا على ذلك ليِنماز من المجتمع على ذكره، ويُفصل بعلامة "غ" تدل على أنه من المغفل» (المصدر نفسه، ج 1، ص 6). والمنهج الذي اتبعه هو استقراء الآيات، وقد تتبع كل ما أراد توجيهه من الآيات المتشابهات في القرآن الكريم، مراعيا ترتيب التلاوة سورة سورة، وآية آية، فيذكر السورة، ويأتي بأول آية متشابهة في أول سورة، ويجمع معها ما يشابهها من الآيات في السور الأخرى، ويقدم لها بما تحتمله من أسئلة، ويجيب عنها، مبينا الفرق بينها؛ ليصل من ذلك إلى أنها ليست مكررة، وإنما اختلفت في بيانها حتى إذا انتهى من السورة انتقل إلى السورة التي تليها، وهكذا إلى آخر القرآن؛ غير أنه يؤخذ عليه عدم التدقيق في اختيار المصطلح المناسب؛ إذ ينفي التكرار عن الآيات بنفس المصطلح، ويخلص إلى عدم وجود تكرار في الآيات لما بينهما من فروق دقيقة. وسلك في ذلك منهجا دقيقا واضحا في توجيه الآيات المتشابهات؛ إذ نجده يقدم الآيات المتشابهة بسؤال عن تكرارها، ثم ينفي وجود التكرار في القرآن الكريم، ويشير إلى مدلولات التصريف القرآني، دون أن يصرح به، كما في توجيهه لقوله تعالى: «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَª (البقرة 2: 133). فقال: «وللسائل أن يسأل عن وجه تكرار هذه الآية بنصها فيما بعد» (1985م، ج 1، ص 6)، وعلل ذلك أنهم لما تعلقوا بأسلافهم ممن كان على سنن إبراهيم وإسرائيل، ومن كان فيهم من الأنبياء عليهم السلام وظنوا أن تعلقهم بهم نافع لهم ...، فكل مطلوب بنفسه وما اْجِتَرَحه (المصدر نفسه، ج 1، ص 92)؛ وخلص إلى أن تكريرها لتنوع ما نُصَّ عليهم من مرتكباتهم الدائرة على جامع واحد من تعلق التخيل بهم مع مخالفتهم فيما كانوا عليه (المصدر نفسه، ج 1، ص 93). فقد استعمل مصطلح التنوع لنفي التكرار، وهو المصطلح اللائق بتوجيه هذه الآيات، وهو أحد مدلولات التصريف القرآني، وأما التكرار فلا وجود له في القرآن الكريم، على ما سنذكر في هذا البحث. ويؤكد أن شأن ما يرد في الكتاب العزيز مما ظاهره التكرار زيادة فائدة، أو تتميم معنى، أو لبناء غيره من الكلام عليه، حتى لا يكون تكرارا عند من وُفقِّ لاعتباره (المصدر نفسه ج 1، ص 313). ويرى أن القول بالتكرار يرجع إلى عدم التدبر والتمعن في الآيات المتشابهة، وذلك على ما بينه بقوله: «فَعَسُر إلا على الماهر حفظاً، وظن الغافل عن التدبر، والمخلد إلى الراحة عن الفكر، أن تخصيص كل آية من تلك الآيات بالوارد فيها، مما خالفت فيه نظيرتها لسبب يقتضيه، وداع من المعنى يستدعيه» (المصدر نفسه، ج 1، ص213)، ويتساءل عن وجه التكرار الوارد في سورة الأنعام، وأجاب عنه بقوله: «إنما أعيد لفظ التنبيه لتنويع معتبرات كل منها كاف في الدلالة لمن وُفِّق» (المصدر نفسه، ج 1، ص 324). ويعلل توجيهاته للآيات القرآنية بقواعد اللغة، وهو ما يدل على تمكنه من هذا العلم، ورسوخه فيه، وللتمثل على ذلك نسوق قوله: «وأما الاختلاف في جمع خطيئة في السورتين، فإنها تجمع من حيث ثبوت تاء التأنيث في الواحد منها بالألف والتاء، وتجمع أيضا مكسورة على "فعائل"، كضغينة وضغائن، وسفينة وسفائن، وصحيفة وصحائف، فالأصل خطائي، ثم ترجع بمقتضى التصريف إلى خطايا، كمطية ومطايا، فورد جميعاً في البقرة متكسراً؛ ليناسب ما بنيت عليه آيات البقرة من تعداد النعم والآلاء» (المصدر نفسه، ج 1، ص 62). وأما الجمع بالألف والتاء، فبابه القلة في الغالب أيضا ما لم يقترن به ما يتبين أن المراد به الكثرة، فناسب ما ورد في الأعراف من حيث لم تُبْنَ أيها ـ من قصد تعداد النعم ـ على ما بنيت عليه آيات البقرة، فجاء كل على ما يناسب (المصدر نفسه، ج 1، ص 63). وقوله: «والجواب عن السؤال الثاني أن جمع التكسير يشمل أولي العلم وغيرهم، وجمع السلامة يختص في أصل الوضع بأولي العلم، إن وجد في غيرهم فبحكم الإلحاق والتشبيه» (المصدر نفسه، ج 1، ص 73). ومما يدل على تبحره في علوم البلاغة، استخدامه الدلالات البلاغية لنفي التكرار عن الآيات المتشابهة، كما في قوله: «فالجواب: أن إيجاز الكلام يقتضي حذف ما يفهم من السياق اختصارا» (المصدر نفسه)؛ وقوله: «ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز، لعلم المخاطب بالمعنی» (المصدر نفسه، ج 1، ص 37)؛ وقوله: «هذه السورة مبينة على الإجمال والإيجاز فيما تضمنته من قصص الرسل، وغير ذلك، ولم يقصد فيما بسط كما في غيرها مما يبنى على الاستيفاء، وكلا التركبين مقصود معتمد عند العرب» (المصدر نفسه، ج 1، ص 56). وقد استشهد في أكثر من موضع بدلالات أصول الفقه، مما يدل على تمكنه من هذا العلم أيضا، كما في قوله: «إن لفظ الذين ظلموا لفظ عام يحتمل التخصيص، والتخصيص يكون بديل عقلي، ودليل سمعي» (المصدر نفسه، ج 1، ص 61). ومن المعلوم أن الأمة من الناس والطائفة الكبيرة، إذا خوطبوا بأمر أو نهي، لم يكونوا في تلقيه على حد سواء وهذا معلوم، وبيّن هذا في هؤلاء المقصودين بهذا الإخبار قوله تعالى: «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَª (آل عمران 3: 110)، وقوله تعالى: «مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَª (الآية نفسها). وغير ذلك، «وإذا تأملت هذه الآية فهمت منها نفسها أنها ليست على عمومها، فزادت آية الأعراف تخصيصا سمعيا بما يعطيه حرف التبعيض في قوله: "ومنهم"، فآية الأعراف مخصصة للعموم البادي من آية البقرة» (الغرناطي، 1985م، ج 1، ص 63). ونجد له اطلاعا ودراية بعلم الكلام، كما في قوله: «فأعلم فيما يعلمه المحيط بالأشياء وقدرته، والعلم والقدرة هما القاطعان لمنكري العودة ...، وإن كان أئمتنا من أهل الفن الكلامي، قد شفوا في ذلك رضي اللّٰه عنهم» (المصدر نفسه، ج 1، ص 52). ويحمد لهذا العالم اطلاعه الواسع، وتضيفه في هذا النوع من البيان القرآني، ودفاعه عن القرآن الكريم، وما بذل من جهد صادق في بيان أسرار المتشابهات، يظهر للمتتبع لهذا الكتاب.
التصريف في معناه الاصطلاحي، ورد بمعان كثيرة، أهمها الترديد والتكرار، وهو ما أراد ابن الزبير الغرناطي نفيه عن القرآن الكريم بآياته المتشابهة. فقد ذكر الطبري هذا المعنى في تفسيره لقوله تعالى: «انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهونª (الأنعام 6: 65). «يقول تعالى ذكره: انظر يا محمد بعين قلبك إلى ترديدنا حججنا على هؤلاء الكافرين الجاحدين بربهم وتصريفنا فيهم» (الطبري، د.ت، ج 9، ص 310). وهذا المعنى ذكره أبو السعود في تفسيره للآية السابقة: «انظر كيف نكررها ونقررها مصروفة من أسلوب إلى أسلوب تارة بترتيب المقدمات العقلية، وتارة بالترغيب والترهيب وتارة بالتنبيه والتذكير» (د.ت، ج 3، ص 134). وممن أشار إلى معنى الترديد، أبو حيان الأندلسي؛ فبين أن المراد بقوله تعالى: «انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِª، أي أن مثل هذا التصريف والترديد نرددها وهي الحجج الدالة على الوحدانية والقدرة الباهرة التامة (1413ﻫ، ج 4، ص 324)؛ وذكر هذا المعنى أيضا البقاعي: «أي نكررها موجهة وفي جميع الوجوه البديعة النافعة البليغة» (1413ﻫ، ج 7، ص 144). وجاء التصريف بمعنى ارتضاه ابن الزبير، وهو التنوع والتفنن، وهو المصطلح اللائق بتوجيه هذه الآيات، وهو أحد مدلولات التصريف القرآني، وممن ذكر هذا المعنى أيضا السعدي؛ ففي قوله تعالى: «انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِª، يقول: «أي ننوعها ونأتي بها في كل فن، ولتنير الحق ونستبين السبيل» (1408ﻫ، ج 3، ص 354)، كما ذكر هذا المعنى الطاهر بن عاشور أيضا، يقول: «تصريف الآيات اختلاف أنواعها بأن تأتي مرة بحجج مشاهدة في السموات والأرض، وأخرى بحجج من دلائل في نفوس الناس، ومرة بحجج من أحوال الأمم الأخرى ...» (د.ت، ج 7، ص 235).
التصريف لفظة قرآنية تكررت في مواضع متعددة من القرآن الكريم، كما أنه منهج قرآني اتخذه وسيلة في بيان المعاني، وبسط القول فيها، وتنوع في عرضها، وابن الزبير الغرناطي اتخذه وسيلة كذلك لنفي التكرار عن الآيات المتشابهة في مواضع كثيرة من كتابه هذا، منها اختصاص كل موضع بما فيه، واختلاف التعقيبات، واختلاف المقاصد، واختلاف العطف، ودلالة التقديم والتأخير، ودلالة التضعيف، والاختلاف في الجمع، وزيادة حرف وخلوه في آية آخرى، والتعريف والتنكير، والإجمال والتفصيل، والإيجاز والإطالة، ومناسبة الحال، ومناسبة النزول، ومراعاة ما بنيت عليه السورة، ووجه اختلاف القراءات، واختلاف الأوصاف وغيرها من الدلالات التي تدل على التصريف القرآني وينفي التكرار عن الآيات الكريمة. وغني عن البيان أن هذه الدلالات لا تجتمع في كل آية، بل يوجد بعضها أو أكثرها في بعض الآيات ويوجد بعضها الآخر في آيات أخرى. 4ـ1. دلالة اختصاص كل موضع بما ورد فيه استدل ابن الزبير الغرناطي على نفي التكرار عن الآيات المتشابهة بدلالة اختصاص كل موضع بما ورد فيه، كما في قول اللّٰه تعالى: «فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناًª (البقرة 2: 59)، وفي سورة الأعراف: «فَانبَجَسَتْª (الأعراف 7: 160)، وعلل ذلك أن الفعلين، إن اجتمعا في المعنى، فليس على حد سواء، بل الانبجاس بداية الانفجار، والانفجار بعده غاية له (1985م، ج 1، ص 159)، وخلص إلى أن كل لفظ جاء ليناسب موضعه الوارد فيه، ولم يكن ليناسب العكس (المصدر نفسه، ج 1، ص 160). وهاتان الآيتان أغفلهما الخطيب الإسكافي، ولم يتعرض لبيانهما، بيد أنه يتفق معه في هذه الدلالة في غير هذا الموضع؛ إذ قال: «إن مكان كل واحد يقتضي ما وقع فيه، وبين اللفظين فرق في المعنى، يوجب اختصاص اللفظ الذي جاء له» (1979م، ص 129). وأرجع الكرماني ذلك على أن ما في سورة البقرة، وذكر معه: "اشربوا" بلفظ بليغ، وفي الأعراف: "كلوا"، وليس فيه "واشربوا"، فلم يبالغ فيه (1991م، ص 129). ويعلل ابن جماعة أن الانبجاس دون الانفجار، وأن الانفجار أبلغ في كثرة الماء فعلى هذا: إن سياق ذكر نعمته اقتضاه ذكر الانفجار وناسبه، وقيل: هما بمعنى واحد، فيكون من تنويع الألفاظ والفصاحة (1990م، ص 98). وهذه الفروق في المعنى الذي أوجب اختصاص كل موضع بما ورد فيه، هو التصريف الذي يحسن أن توجه الآيات به؛ لأنه مصطلح قرآني ارتضاه اللّٰه لوصف كتابه المعجز.
4ـ2. دلالة اختلاف التعقيبات نذكر في هذا المقام توجيهه لبعض الآيات أنموذجا لما بينه من فروق دقيقة تنفي التكرار عن الآيات المتشابهة، استنادا إلى دلالة اختلاف التعقيبات، كما في قوله تعالى: «وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ! صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَª (البقرة 2: 16 ـ 17)، ورد فيما بعد قوله تعالى: «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَª (البقرة 2: 170). وأجاب ابن الزبير عن ذلك بقوله: «إنه لما مثّل حال المنافقين بحال مستوقد النار لطلب الإضاءة وأنه لما أضاءت ما حوله، أذهبها اللّٰه وطفئت، فلم يكن له ما يستضئ به ويرجع إليه، فنفى عنهم وجود ما يرجعون إليه من ضياء يرفع حيرتهم وهذا بَيّن» (1985م، ج 1، ص 35). وأما الآية الثانية، فإنه مثّل حال الكافرين فيها بحال الغنم في كونها يُصاح بها، وتنادى فلا تفهم عن راعيها، ولا تسمع إلا صوتا لا تعقل معناه، ولا تفهم ما يراد به، كذلك الكفار في خطاب الرسل إياهم، فلا يجيبونهم ولا يعقلون ما يراد بهم، وهذا مناسب، وكل على ما يجب (المصدر نفسه، ج 1، ص 36)؛ ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: «وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَª (البقرة 2: 44)، وقال بعد: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَª (البقرة 2: 152). فقال: يسأل عما أعقب به في كل من الموضعين، وما وجه تخصيصه؟ وهل يجوز وقوع كل منهما في موضع الآخر؟ والجواب أن قوله تعالى: «وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌª، وقوله في الثانية: «إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَª كلا الإخبارين مناسب لقوله: «اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِª. فلا سؤال في هذا، إنما يسأل عن تخصيص كل من الموضعين بما خصص به اتباعا. والجواب عن ذلك أن قوله تعالى: «وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخاشِعينَª، يشير إلى التثاقل والتكاسل الجاريين في الغالب والأكثر مع ضعف اليقين، وقلة الإخلاص، وذلك مناسب لحال بني اسرائيل، ممن ذكر في الآيات من قبل وبعد. ألا ترى قوله تعالى في المنافقين الذين أكثرهم عن اليهود: «وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىª (التوبة 9: 54)، وقوله «وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىª (النساء 4: 141). «فلما كان قوله تعالى في الآية الأولى: «وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِª، مكتنفاً بأمر بني اسرائيل ونهيهم ناسب هذا قوله تعالى: «وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الخَاشِعِينَª، ولما كانت الآية الثانية معقبا بها أمر المؤمنين في قوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِª، وحال من وُسِم بالإيمان حال رضى واستقامة؛ فناسب وصفهم بالصبر على الطاعات حصول الدرجات، فجاء كل على ما يناسب ولم يكن ليلائم واحداً من الموضعين غير ما أعقب به؛ و اللّٰه أعلم بما أراد» (الغرناطي، 1985م، ج 1، ص 49 ـ 51). ومن أمثلة اختصاص التعقيبات بمواضعها ما ذكره ابن الزبير في موضع آخر، إذ يقول: «والجواب أنه لا يناسب كل آية منهما إلا ما به أُعقبت» (المصدر نفسه، ج 1، ص 79)، استنادا إلى سوابق الآيات التي استشهد بها في هذا المقام. 4ـ3. اختلاف المقاصد استدل ابن الزبير على نفي التكرار باختلاف المقاصد، كما في قوله تعالى: «وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالإِنْجيلَ وَرَسولاً إِلَى بَني إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْª (آل عمران 3: 48)، إلى قوله تعالى: «وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْª (آل عمران 3: 49)، وقال في سورة المائدة: «وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِيª (المائدة 5: 112). فقال: «فافتتح بتنزيه ربه، ثم نفى عن نفسه ما نسبوا إليه، وأتبع بالتبرؤ والتسليم لربه تعالى: «إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُª (المائدة 5: 118)، فآية آل عمران بشارة وإخبار لمريم، وآية المائدة واردة فيما يقوله سبحانه لعيسى عليه السلام توبيخا للنصارى، فلما اختلف القصدان اختلفت العبارتان» (1985م، ج 1، ص 160). ومن أمثلة ذلك أيضاً ما ذكره من اختلاف المقاصد في قوله تعالى: «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِª (المائدة 5: 1)، وفي سورة الحج: «وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُª (الحج 22: 28). وأرجع سر ذلك إلى أن المقصود في الآيتين مختلف، فورد الإخبار بما يحرز ذلك، وبيانه أن اسم الأنعام إنما يقع على ما ذكر في آية سورة الأنعام من الأزواج الثمانية، حين تفسرت مفصلة ... (1985م، ج 1، ص 117)، وأن سورة الحج مناطة بما أمر به الحاج، والأمر بتعظيم تلك الشعائر الإيمانية، ولم يكن ليلائم هذا الموضع ما ورد في آية المائدة (المصدر نفسه، ج 1، ص 230). ومن الأمثلة كذلك ما ذكره في قوله تعالى: «وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَª (مريم 19: 48). وأرجع سر ذلك إلى أن آية المائدة ورد الكلام فيما تقدمها في بني إسرائيل، ولما كان أكثر هذه السورة، إنما نزلت فيهم، تعريفا بمرتكباتهم، وتحريفهم، ونقضهم الميثاق، وحكمهم بغير ما أنزل اللّٰه، وفي أثناء ذلك تسلية نبينا (-). ولم يقع في هذه الآية ذكر لغير بني إسرائيل، ومن كان فيهم من الأنبياء من بعد موسى (A) ولا توقّف في تعقيب الرسل والأنبياء بعيسى (A)؛ فلهذا لم يقع هنا ذكر واسطة. وأما آية الحديد فمقصدها غير هذا؛ إذ هي وما اتصل بها قبلها وبعدها خطاب للمؤمنين، وعظات، وترغيب، وتمثيل، وتحذير أن يكونوا كمن عرّفوا به ممن طال عليهم الأمر وقسا قلبه (الغرناطي، 1985م، ج 1، ص 271). وهذا مقصد مباين ما قصد بآية المائدة، فاختلف ما ورد في الموضعين لاختلاف المقصد فيهما، ولم يكن عكس الوارد ليناسب؛ وأعلم اللّٰه بما أراد (المصدر نفسه، ج 1، ص 271). 4ـ4. اختلاف العطف إن مما نفى به ابن الزبير التكرار عن الآيات المتشابهة هو اختلاف العطف، كما في قوله تعالى: «وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَª (البقرة 2: 34)، وفي سورة الأعراف: «وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةª (الأعراف 7: 18). ذكر ابن الزبير أن مورد الآيتين مختلف في الموضعين؛ لأن الوارد في البقرة قصد به مجرد الإخبار والإعلام لرسول اللّٰه (-) بما جرى في قصة آدم (A) وابتداء خلقه، وأمر الملائكة بالسجود له، وما جرى من إباء ابليس عن السجود، ثم ما أمر به آدم من سكنى الجنة والأكل منها، ولم يقصد غير التعريف بذلك، من غير ترتيب زماني، وتحديد غاية، فناسبه الواو وليس الفاء (1985م، ج 1، ص 41). وأما آية الأعراف فمقصدها تعداد نعم اللّٰه على آدم وذريته، وما أتبع به هذا من ذكر الخلق والتصوير، وأمر الملائكة بالسجود لآدم ...، فناسب هذا المقصد العطف بالفاء المقتضية للترتيب، والواو لا تقتضي ذلك، وإنما بابها الجمع حيث لا يرد ترتيب، وليس موضع شرط وجزاء، فيكون ذلك مسوغاً لدخول الفاء، وإنما ورودها هنا، لقصد تجريد التفصيل المحصِّل لتعداد النعم، ولما اختلف القصدان اختلفت العبارة عنهما، فورد كل على ما يناسب، واللّٰه أعلم (المصدر نفسه، ج 1، ص 43). ومن الأمثلة على ذلك أيضا قوله تعالى: «أُوْلَـئِكَ جَزَاؤُهُم مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَª (آل عمران3: 136)، وفي سورة العنكبوت: «لَنُبَوِّئَنَّهُم مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَª (العنكبوت 29: 58). وسر العطف في الأولى:"وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ"، وقوله في الثانية: "نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ"، غير معطوف على ما قبله، أن الآية الأولى لما وقع فيها ذكر الجزاء معطوفا ناسبه أن عطفت الجملة الممدوح بها الجزاء، فقيل: "وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ"، ولما لم يفصل الجزاء في سورة العنكبوت، ولم يقع فيه عطف جاءت جملة المعطوف غير معطوفة، ليناسب النظم، واللّٰه أعلم (الغرناطي، 1985م، ج 1، ص 177). وعلل الكرماني العطف في الأولى وتركه في الثانية بالاتصال في سورة آل عمران بما قبلها أكثر من غيرها، وتقديره: "وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّاتِ وَالْخُلُودِ" (1991م، ص 151). وعلل ابن جماعه أنه لما تقدم عطف الأوصاف المتقدمة في سورة آل عمران، وهي قوله: "لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ"، و"الكاظمين"، و"العافين"، و"والذين إذا فعلوا"، و"ولم يصروا"، و"جزاؤهم مغفرة"، "وجنات"، و"وخلود" ناسب ذلك العطف بالواو المؤذنة بالتعدد والتفخيم. ولم يتقدم مثله في العنكبوت فجاءت بغير واو، كأنه تمام الجملة (ابن جماعة، 1990م، ص 134). ويرى الخطيب الإسكافي أن الآية في سورة آل عمران مبنية على تداخل الأخبار، فنسقت الأخبار بعضها على بعض، للتبنية على النعم التي هديت لرجاء الراجين، وأكملت بها منية المتمنين، والخبر إذا جاء بعد خبر، فحقه أن يعطف على ما قبله بالواو؛ وأما آية سورة العنكبوت فإن ما قبلها مبني على أن يدرج الكلام فيه على جملة واحدة، وإذا كان الأمر كذلك لم يلق بكل واحدة منهما إلا ما جاءت به (1979م، ص 73). 4ـ5. دلالة التقديم والتأخير من الواضح أن ابن الزبير ينفي التكرار عن القرآن الكريم اعتمادا على دلالة التقديم والتأخير في الآيات المتشابهة، كما في قوله تعالى: «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌª (الأنعام 6: 33)، وقوله تعالى: «وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْª (الأنعام 6: 70)، وفي سورة الأعراف: «الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَاª (الأعراف 7: 51)، وفي سورة العنكبوت: «وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌª (العنكبوت 29: 64)، وفي سورة محمد: «إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌª (محمد 47: 37)، وفي سورة الحديد: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌª (الحديد 57: 20). ففي آيتي الأنعام، وسورة محمد، وسورة الحديد، تقديم اللعب، وعطف اللهو عليه، وثبت في الأعراف والعنكبوت العكس، فقدَّم فيهما اللهو على اللعب، والواو وإن كانت لا ترتب، فإنه لا يتقدم اللفظ في الكتاب العزيز ذكرا، أو يتأخر إلا الموجب (الغرناطي، 1985م، ج 1، ص 313). فوجه تقديم اللعب في الأنعام أنه المتقدم في الوجود الدنيوي على اللهو؛ لأن أول ابتداء تعقل الإنسان وتمييزه حال اللعب، وهو المطابق لسنِّ الابتداء، فإذا استمر ألهى عن التدبر والاعتبار وشغل تماديه عن التفكير فيما به النجاة والفوز (المصدر نفسه، ج 1، ص 314). وقد ينضاف إلى اللعب شاغل أو غيره، أو يعقبه فيحصل بالمجموع الغفلة عن النظر في الآيات، فيعقب الهلاك، قال تعالى: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِª (الأعراف 7: 179)، فلما لم يبرح هؤلاء عن الجري على طريق الصم والبكم الذين لا يعقلون، جرى الإخبار عنهم في الآية الثانية من الأنفال بمقتضى أحوالهم في أعمالهم، التي لا تخرج عن أحوال البهائم، فأول أعمارهم لعب، وعقب ذلك لهو، فورد الإخبار على حسب جري الأعمال أنهم اعتمدوا البقاء مع مقتضى الطبع الإنساني؛ إذ لم يصغ المكلَّف إلى داع، ولا تكلف الخروج عن مقتضى هواه، ولا جنح إلى مفارقة الموجب الطبيعي، قال تعالى: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُª (الفرقان 25: 43)، فأمر نبيه (-)بالأعراض عنهم، فقال: «وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواًª على مقتضى الهوى (الغرناطي، 1985م، ج 1، ص 315). وهذه الحال هي التي نبّه سبحانه عبادة المؤمنين إليها، على أنها حال الحياة الدنيا، وصفتها التي تمتاز بها، فأعلم بذلك ليجتنبوها، فقال تعالى في الآية الأولى من هذه السورة: «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌª، وقال في سورة محمد: «إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌª؛ لأن الخطاب قبل هذه الآية خطاب للمؤمنين بالأمر بالطاعة للّٰه ورسوله، ووصية لهم، وإعلام بحال عدوهم من الكفار، وفي سورة الحديد عرف عباده المؤمنين فيما بالصفة التي هي فصلها، وبها امتيازها عن الترتيب الذي وجودها عليه، من تقديم اللعب وتبعية اللهو، حسب جري الأعمار ابتداء وانتهاء (الغرناطي، 1985م، ج 1، ص 315). فهذا وجه تقديم اللعب في هذه الآيات الأربع. أما آية سورة الأعراف، فإنها من قول المؤمنين أهل الجنة إخبارا عن حال الكافرين الموجبة لتعذيبهم، فقدموا في الذكر اللهو الشاغل عن الاستجابة الجاري مع سن التكليف والمساوق له الثاني عن اللعب؛ إذ وجود اللعب أولا في السن التي معظمها غير سن التكليف، وجري الأقلام بالتزام الطاعة، واجتناب المخالفة، فقصدوا أن يخصوا موجب التعذيب من الأعمال، فذكروا مساوِقَه ومظنته وهو معاقب اللعب، والذي اتخذه الكافر بالقصد والاختيار من شاق التكليف، ولم يذكر اللعب أولا؛ لأنه جاز في البدأة وحين لا تكليف، فكان الكلام في قوة أن لو قيل: أن اللّٰه حرم نعيم الجنة على من تأبط الكفر واعتمده، وأتبع اللعب باللهو من كفره، فلم يبرح عن ملازمة الطبع والهوى (المصدر نفسه، ج 1، ص 315). وأما آية العنكبوت، فإنه تقدم ما قبلها ما يدل على أنه جاوز سن اللعب، وبلغ السن التي بها يتعلق التكليف بالمخاطب، ويصح خطابه وحسابه على تفريطه، فناسب ذلك من ذكر الحياة الدنيا، تقديم ما يساوق تلك السن، فقدم ذكر اللهو التالي للعب، ليناسب وليحصل ذكر مانعهم من الاستجابة وتكميل النظر المخلص لهم، وأخر ذكر اللعب الذي لا يساوق، مع أن متبوع اللهو لزوما، لمن لم يسبق له سابقة سعادة، فهذا وجه التقديم والتأخير فيما ذكر، ولو ورد العكس لما كان يناسب، واللّٰه أعلم (المصدر نفسه، ج 1، ص 317). 4ـ6. دلالة التضعيف استعمل ابن الزبير دلالة التضعيف لنفي التكرار عن الآيات المتشابهة، كما في قوله تعالى: «وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْª (البقرة 2: 45)، وفي سورة الأعراف: «وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْª (الأعراف 7: 141)؛ إذ جاء في سورة البقرة "نَجَّيْنَاكُم" مضعفا، وفي الأعراف "أنَجيْنَاكُم" غير مضعف (1985م، ج 1، ص 53). وخلاصة ما استدل به ابن الزبير في هذا المقام، أن الوارد في سورة البقرة مقصود به تعداد وجوه الإنعام على بني إسرائيل، وتوالى الامتنان، ليبين شنيع مرتكبهم في مقابلة ذلك الأنعام بالكفر (المصدر نفسه، ج 1، ص 54). فلما كان موضع تعداد نعم وآلاء ذُكّروا بها، ليزدجروا عن المخالفة والعناد، ناسبه التضعيف لإتيانها بالكثرة (السامرائي، 1422ﻫ، ج 1، ص 167). ولو قيل هنا: "وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم"، لما أنبأ بذلك ولا ناسب المقصود مما ذكر. وأيضا فإن التضعيف في "نَجَّيْنَاكُم" يناسب التضعيف بعده في قوله: "يُذَبِّحُونَ"، ولم يكن لفظ "أنجيناكم" غير مضاعف ليناسب يذبّحون فروعي مناسبة اللفظ لما بعده، ومناسبة المعنى، ولم يكن غير هذا ليناسب (الغرناطي، 1985م، ج 1، ص 53). وفي قوله تعالى: «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَª (آل عمران 3: 2)، ذكر ابن الزبير أن لفظ "نَزَّلَ" يقتضي التكرار لأجل التضعيف، تقول: ضَرَبَ مخففا لمن وقع منه ذلك مرة واحدة (الغرناطي، 1985م، ج 1، ص 54). ويحتمل الزيادة، والتقليل أنسب وأقوى، أما إذا قلنا: "ضرّب" بتشديد الراء، فلا يقال إلا لمن كثر ذلك منه، فقوله تعالى: «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَª، مشير إلى تفصيل المنزل، وتنجيمه بحسب الدواعي، وأنه لم ينزل دفعة واحدة. أما لفظ أنزل، فلا يعطي ذلك إعطاء نزّل (المصدر نفسه، ج 1، ص 54). إن لفظ التضعيف أقوى في إعطاء معنى التنجيم والتفصيل، وهذا مطرد على كثرة ما ورد منه، ولم يرد إنزال التوراة بالتضعيف إلا في قوله تعالى: «مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُª (آل عمران 3: 92)، وله وجه، وهو أن المراد ثبوت أحكامها وتنفيذها (الغرناطي، 1985م، ج 1، ص 141). 4ـ7. مناسبة النزول إن مما ينفي التكرار عن الآيات المتشابهة هو مناسبة النزول وذلك ما بينه ابن الزبير حين ذكر الفرق بين قولة تعالى: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَª (البقرة 2: 192)، وقولة تعالى في سورة الأنفال: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌª (الأنفال 8: 39)؛ إذ قال: والجواب عنهما معا أن آية البقرة نزلت في مخصوصين، وهم الذين كانوا بمكة ممن نصب لعداوة رسول اللّٰه (-) وتعرض بالظلم والتنكيل لمن آمن به، فأذن اللّٰه لرسوله في قتالهم لظلمهم إياهم، وهي أول آية نزلت في القتال. فالآية هنا واردة في مخصوصين، والكلام مقيد، فلم يكن ليناسبه الإطلاق والتعميم الحاصل من التأكيد بكل المحرزة للعموم والمقتضية للإحاطة والاستغراق (1985م، ج 1، ص 116). وأما آية الأنفال فقد كان قبلها: «قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم ما قَدْ سَلَفَª، وهذا بمقتضى اللفظ في كل كافر. ومثل هذا، وإن ورد على سبب خاص، فإن وروده على ذلك السبب غير مانع من دعوى العموم فيه (المصدر نفسه، ج 1، ص 118). 4ـ8. ورود بعض الألفاظ في آية وسقوطها في آية أخرى استعمل ابن الزبير هذه الدلالة لنفي التكرار، مبينا الفرق بين ورود قولة تعالى: "رَغَداً" في سورة البقرة، الآية 57، وسقوط ذلك في سورة الأعراف، الآية 160 (المصدر نفسه، ج 1، ص 59). وأرجع سبب ذلك إلى أن "رغدا" في آية البقرة تحته معنى مقصودا لا يحصل من شيء، مما ورد في الآية وانطوت عليه من الكلام، بخلاف آية الأعراف، فإن مفهوم السكنى وهو الملازمة والإقامة مع الأمر بالأكل، حيث شاءوا مع انضمام معنى الامتنان والإنعام المقصود في الآية، كل ذلك مشعر ومعرف بتمادي الأكل، وقوة السياق مانعة من التحجير (الفيومي، 1996م، ص 67)، والاقتصار، فحصل معنى الرغد، فوقع الاكتفاء بهذا المفهوم الحاصل قطعا من سياق آية الأعراف (الغرناطي، 1985م، ج 1، ص60). 4ـ9. دلالة الجمع والإفراد استخدم ابن الزبير دلالة الجمع والإفراد في نفي التكرار، كما في قوله تعالى من سورة البقرة: «وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً معْدُودَةًª (البقرة 2: 79)، وفي سورة آل عمران: «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيّاماً معْدُودَاتٍª (آل عمران 3: 24). فأفرد في البقرة الوصف، وجُمع في آل عمران، فقيل "معدودات"، والجاري عليه الوصف في السورتين قوله: "أياما" بلفظ واحد. وسر ذلك على ما ذكره ابن الزبير، يرجع إلى ما وقع في آية البقرة من الإيجاز وما في الأخرى من الإطالة، فناسب الإفراد الإيجاز، وناسب الجمع الإسهاب، ولو جمع في سورة البقرة، وأفرد في سورة آل عمران، أو أفرد فيهما، أو جمع، لما ناسب، فورد كل على ما يناسب ويجب، واللّٰه أعلم (الغرناطي، 1985م، ج 1، ص 81 ـ 83). 4ـ10. دلالة التعريف والتنكير نجد أن ابن الزبير ينفي التكرار عن الآيات أيضا بدلالة التعريف والتنكير، كما في سورة البقرة؛ إذ ورد قوله: "الْحَقِّ" (البقرة 2: 57)، معرفا، وورد منكرا في سورة آل عمران في موضعين: "حَقِّ" (آل عمران 3: 21 و 112)؛ وسر ذلك ـ واللّٰه أعلم ـ أن كلمة "الحق" المعرفة في آية البقرة تدل على أنهم كانوا يقتلون الأنبياء بغير الحق الذي يدعو إلى القتل، والحق الذي يدعو إلى القتل معروف ومعلوم. وأما النكرة، فمعناها أنهم كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق أصلا لا حق يدعو إلى القتل ولا غيره، أي ليس هناك وجه من وجوه الحق الذي يدعو إلى إيذاء الأنبياء، فضلا عن قتلهم (السامرائي، 1422ﻫ، ج 1، ص 187). فكلمة "حق" هنا نكرة عامة، وكلمة "الحق" معرفة معلومة. والقصد من التنكير الزيادة في ذمهم، وتشنيع فعلهم أكثر مما في التعريف؛ وذلك لأن التنكير معناه أنهم قتلوا الأنبياء بغير سبب أصلا، لا سبب يدعو إلى القتل ولا غيره، فمقام التشنيع والذم هنا أكبر منه، فجاء بالتنكير في مقام الزيادة في ذمهم (المصدر نفسه، ج 1، ص 188). 4ـ11. الإيجاز والإطالة وينفي التكرار أحيانا بدلالة الإيجاز والإطالة؛ إذ نجده يذكر الفرق بين الآيات المتشابهة بما وقع في آية البقرة (البقرة 2: 79)، من الإيجاز وما في الأخرى (آل عمران 3: 24)، من الإطالة؛ لأنه مقام بسط لحالهم الحامل على سوء مرتكبهم، ولم يقع في سورة البقرة تعرض لشيء من ذلك، بل أوجز القول ولم يذكر السبب (الغرناطي، 1985م، ج 1، ص 83). 4ـ12. دلالة مناسبة الحال تستعمل دلالة مناسبة الحال للفرق بين الآيات، لنفي التكرار، كما في قوله: «فكانت حاله حال إيمان، ولم يكن في لإسلامه أولا ممن عرف بنفاق، ولا أنه أبطن خلاف ما ظهر منه إسلامه، فكانت حاله حال إيمان وتصديق، ولم يُظهر خلافه، وذلك هو الإيمان، فناسب حاله وصفه بالإيمان، وهو التصديق بالقلب (السامرائي، 1422ﻫ، ج 1، ص 198). أما التوبة فنزلت في الجلاس (الطبري، د.ت، ج 3، ص 340)، وكان منافقا معروفا بالنفاق، يتظاهر بالإسلام ويبطن خلافه (الواحدي، د.ت، ص 83). واختصاص كل آية منها بالوصف الوارد فيها بين لاختلاف الحالين (الغرناطي، 1985م، ج 1، ص 167). 4ـ13. دلالة اختلاف السياق: إن ما استدل به ابن الزبير على نفي التكرار، دلالة اختلاف السياق في الآيتين، مع اتحاد معناهما؛ إذ يقول: «إن المعنی وإن كان في السورتين واحدا وفي قضية واحدة، فإن مقاطع آية سورة مريم وفواصلها استدعت ما يجري على حكمها وما يناسبها ...، فاقتضت هنا مناسبة هذه السورة ورود قصة زكريا (A) ... ولم يكن غير ذلك ليناسب؛ أما آية آل عمران، فلم يتقيد ما قبلها من الآيات وما بعدها بمقطع واحد مخصوص، فجرّت هي إلى مثل ذلك (المصدر نفسه، ج 1، ص 153 ـ 154). 4ـ14. دلالة التذكير والتأنيث تستخدم دلالة التذكير والتأنيث لبيان الفرق بين الآيات المتشابهة، لنفي التكرار عنها، كما في قوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَª (الأنعام 6: 91)، وفي سورة التكوير: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَª (التكوير 81: 26). وسر ذلك أن آية التكوير لما تقدمها القسم على القرآن بقوله تعالى: «فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِª (التكوير 81: 15) إلى ما وقع القسم به، ثم ورد ضمير المقسم عليه في قوله: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍª (التكوير 81: 20)، أي أن القرآن لقول رسول كريم، والمراد به جبريل، ثم أتبع بوصفه إلى قوله: «مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍª (التكوير 81: 21)، ثم قيل: «وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍª (التكوير 81: 22)، والإشارة إلى البني محمد (-)، فتنزه اللّٰه تعالى عن قول أعداه ونسبتهم أياه إلى الجنون، ثم وصفه بأنه على الغيب الموحى به إليه، والمأمون على تبليغه، غير متهم ولا بخيل، فقال: «وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍª ...، فجرت هذه الضمائر على التذكير على ما يجب ...، ولا يمكن وروده على خلاف هذا لمنافرة التناسب ومباعدة التلاؤم (الغرناطي، 1985م، ج 1، ص 329). وأما آية سورة الأنعام، فتقدمها قوله تعالى: «أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَª (الأنعام 6: 90)، وبين ما تقدم، فكأن التقدير: "إن هو"، أي الأمر والمراد المقصود، أو ما ذكر من الكتاب والحكم والنبوءة إلا ذكرى. فمناسبة ذكرى هنا لما تقدم بينة، ولم يتقدم هنا ما يستدعي لفظ التذكير ويناسبه، فجاء كل على ما يجب، واللّٰه أعلم (المصدر نفسه، ج 1، ص 330).
الخاتمة نكتفي بهذا القدر من إيراد الدلالات المختلفة التي أوردها ابن الزبير، والتي يتضح منها، أنه بين الفروق الدقيقة بين الآيات المتشابهة لينفي التكرار عنها، اعتمادا على هذه الدلالات وغيرها، مما لا يتسع المقام لذكرها. وثمة نتائج قد أمكن الاهتداء إليها من هذه الدراسة من أبرزها: ـ التصريف لفظة قرآنية وردت بهذا المعنى في مواضع متعددة من القرآن الكريم، وفي سياقات مختلفة، كما ورد هذا المصطلح في كتب بعض العلماء المتقدمين والمتأخرين، كما أنه منهج قرآني اتخذه وسيلة في بيان معانيه، فذكرها وبسط القول فيها وتنوع في عرضها. ـ إن لابن الزبير الغرناطي جهودا واضحة في موضوع تصريف آيات القرآن الكريم، وقد تحدث عن هذا الموضوع من جميع جوانبه، وأتى على معظم عناصره، ويكاد في وجهة نظري أول من أكمل وبقدر كبير جهود سابقيه في هذا المضمار. ـ إن للتصريف علاقة بإعجاز القرآن الكريم، لا بل هو وجه من وجوه الإعجاز، وقد أشار البحث إلى عدة أمور تؤكد على أن تصريف آيات القرآن على قدر كبير من البلاغة والجزالة في القول. ـ المتمعن في هذه الدلالات التي ذكرها ابن الزبير عند توجيهه الآيات المتشابهة، يجد أنه ينفي التكرار عن القرآن الكريم، ويشير إلى مدلولات التصريف القرآني، دون التصريح بذلك. وقد استخدم هذه الدلالات استخداما دقيقا في التعمق في فهم معاني الآيات، والكشف عن أسرارها ولطائفها الدقيقة. | ||
مراجع | ||
المصادر والمراجع * القرآن الكريم. أبو حيان، محمد بن يوسف الأندلسي. (1413ﻫ). البحر المحيط. دراسة وتحقيق عادل عبد الموجود. بيروت: دار الكتب العلمية. أبو السعود، محمد بن محي الدين. (د.ت). إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم. بيروت: دار إحياء التراث العربي. الإسكافي، أبو عبد اللّٰه محمد بن عبد اللّٰه. (1979م). درة التنزيل وغرة التأويل. ط 3. بيروت: دار الآفاق. البقاعي، برهان الدين. (1413ﻫ). نظم الدرر في تناسب الآيات والسور. ط 2. القاهرة: دار الكتب الإسلامية. ابن جماعة، بدر الدين بن عبد اللّٰه. (1990م). كشف المعاني في المتشابه من المثاني. تحقيق عبد الجواد خلف. كراتشي: د.ن. ابن عاشور، الطاهر. (د.ت). التحرير والتنوير. ط 2. القاهرة: دار المعرفة. الزركشي، الإمام بدر الدين. (1972م). البرهان في العلوم القرآن. تحقيق محمد أبو فضل إبراهيم. ط 2. بيروت: دار المعرفة. السامرائي، فاضل صالح. (1422ﻫ). التعبير القرآني. ط 2. عمان: دار عمار. السعدي، عبد الرحمن ناصر. (1408ﻫ). تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. جدة: دار المدني. السيوطي، جلال الدين. (د.ت). الأتقان في علوم القرآن. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. القاهرة: دار التراث. الطبري، محمد بن جرير. (د.ت). جامع البيان. ط 2. القاهرة: مطبعة الحلبي. الغرناطي، أبو جعفر أحمد بن الزبير. (1985م). ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظي من آي التنزيل. تحقيق محمود كامل أحمد. بيروت: دار النهضة العربية. الفيومي، أحمد بن محمد. (1996 م). المصباح المنير. بيروت: المكتبة العصرية. الكرماني، محمود بن حمزة. (1991م). البرهان في متشابه القرآن. ط 2. المنصورة: دار الوفاء. الواحدي، أبو الحسن علي بن محمد. (د.ت). أسباب النزول. بيروت: عالم الكتب. | ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 789 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 338 |