تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,639 |
تعداد مقالات | 13,334 |
تعداد مشاهده مقاله | 29,914,650 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 11,968,849 |
تدريس الأدب العربي بالجامعة الفرنسية الإشكاليات والمنهج | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
مقاله 11، دوره 13، شماره 25، دی 2021، صفحه 163-172 اصل مقاله (722.26 K) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2020.123770.1300 | ||
نویسنده | ||
ميلود غرافي* | ||
أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة ليون، فرنسا | ||
چکیده | ||
لقد شاهد تدريس العربية في العالم، وفي أوروبا وفرنسا خاصة، تزايدا ملحوظا منذ العقدين الأخيرين؛ وذلك لأسباب متعددة، تأتي على رأسها الأوضاع الجيوسياسية. فمنذ أن بدأ الإرهاب القاعدي والداعشي يضرب في عقر دار أوروبا وأمريكا، ومنذ أن بدأ التدخل الأمريكي في العراق تحت مبرر محاربة هذا الإرهاب، تزايد إقبال المؤسسات والأفراد على تعلم العربية. وإذا كان هذا الإقبال لصالح اللغة، فإنه من جانب آخر، يسيء إليها؛ لأنه يربطها دائما وسلبيا بالدين، مما ينعكس سلبا على هذا التعليم ويجعله مشروطا برؤية إيديولوجية لا تنظر إلى اللغة العربية، كما ينظر إلى باقي لغات العالم. لكن تعليم العربية في الجامعات الفرنسية، حتى وإن كانت بداياته التاريخية مشروطة بأطماع استعمارية، فإنه استطاع أن يتأسس تدريجيا على أسس أكاديمية. يقترح المقال قراءة وصفية لتاريخ تدريس الأدب العربي في الجامعات الفرنسية، ويتوقف عند مقررات تدريس هذا الأدب وإستراتيجيته ومناهجه والإشكاليات التي يثيرها في علاقته بالتطورات الثقافية والسياسية التي يشهدها الغرب بشكل عام، والمجتمع الفرنسي بشكل خاص. | ||
کلیدواژهها | ||
الأدب؛ الاستشراق؛ الاستعمار؛ التدريس؛ العربية؛ المنهج | ||
اصل مقاله | ||
ارتبط اهتمام النخبة والعلماء والأطر السياسية بالأدب العربي في فرنسا بما سيطلق عليه لاحقا بمفهوم الاستشراق الذي لم توافق الأكاديمية الفرنسية على استعماله إلا سنة 1883 للميلاد. لكن المستعرب الفرنسي، دانيال ريغ[1]، صاحب قاموس السبيل: عربي / فرنسي، يقول بهذا الصدد: «لم يتم انتظار إنشاء مفهوم الاستشراق، لكي تدرس اللغات الشرقية» (2006م، ص 601)؛ فمنذ سنة 1704، ظهرت الطبعة الأولى لترجمة كتاب ألف ليلة وليلة على يد أنطوان غالون[2]، وفي سنة 1783م، نشرت ترجمة القرآن إلى الفرنسية على يد كلود سافاري[3]. غير أن هذا الاهتمام بكتب الأدب والدين سبقه منذ القرن السادس عشر تدريس اللغة العربية. ففي سنة 1530م، قام الملك فرانسوا الأول بإنشاء الكلية الملكية المعروفة حاليا بكوليج دو فرانس، أي كلية فرنسا، وأنشأ بها كرسي اللغة العربية؛ لكن ظل تعليم اللغة العربية واللغات الشرقية عامة إلى حدود القرن الثامن عشر محصورا في ميادين المعارف التطبيقية والنفعية، وحتى بعد أن أنشأ كولبير[4]، أحد وزراء الملك الويس الرابع عشر، مدرسة شباب اللغات بباريس سنة 1669م، والتي انضمت لاحقا إلى مدرسة اللغات الشرقية وتشكل معها ما يطلق عليه اليوم بمعهد اللغات الشرقية، ظل تدريس اللغة العربية مرتبطا بتكوين أطر في الترجمة من أجل أغراض ديبلوماسية وتجارية. وكان تدريس اللغات الشرقية إلى هذه المرحلة حسب المستعرب، دانيال ريغ، «منصبا على اللغات أكثر منه على الحضارات» (المصدر نفسه، ص 602)؛ وكان الغرض هو «التواصل مع شعوب الشرق وممثليها أكثر منه اهتماما بثقافاتها» (المصدر نفسه). لكن منذ بداية القرن الثامن عشر، بدأ تطوير تعليم اللغات الشرقية من خلال ما أصبح يسمى آنذاك بمدرسة اللغات الشرقية أو معهد اللغات الشرقية حاليا. يعتبر المستشرق، سيلفستر دو ساسي[5]، أحد أبرز رؤساء هذه المدرسة نظرا دور لعبه في تطوير تدريس اللغة العربية بها. فبعد أن كان طالبا نابغا في دراسة اللاتينية والإغريقية، تعلم لغات أوروبية أخرى، مثل: الإيطالية، والإسبانية، والإنجليزية والألمانية، ثم عكف بعدها على دراسة السيريانية، والكلدانية والعبرية، ثم العربية التي درسها لاحقا في مدرسة اللغات الشرقية والفارسية. وإليه، يرجع الفضل في التعريف باللغة العربية في أوروبا، حيث كان يقصده للدراسة على يديه طلاب من بلدان أوروبية أخرى، خاصة من ألمانيا. وأصدر سيلفستر دو ساسي كتاب النحو العربي سنة 1810م، الذي ألفه خصيصا لطلاب مدرسة اللغات الشرقية. وفي مقدمة الطبعة الثانية من الكتاب الصادرة سنة 1830م، يكتب المؤلف: «خلال العشرين سنة التي مرت على الطبعة الأولى من هذا الكتاب، تطورت دراسة اللغة العربية في فرنسا وألمانيا وفي كل دول أوروبا الشمالية بشكل لم يكن متوقعا. لقد تم تأليف كتب عديدة صار معها التعرف على الآداب القديمة والجديدة عند العرب أمرا يسيرا» (المصدر نفسه، ص 612). وابتداء من القرن التاسع عشر، تم الاهتمام بتدريس اللغة العربية في ارتباط وطيد بالمطامع الاستعمارية التي كانت لدى فرنسا في شمال إفريقيا خاصة، فتم تكوين نخبة من الطلاب المختصين في دراسة شعوب تلك المستعمرات وأنساقها الثقافية وتكوين أطر عسكرية ومدنية في إطار ما أطلق عليه آنذاك بـ"المكاتب العربية" من أجل أن تكون خبيرة في لهجات شمال إفريقيا وفي اللغة العربية الفصحى. حسب المؤرخ الفرنسي، هنري لورانس[6] المختص في شؤون العالم العربي بكلية كوليج دو فرانس: «مع مرور الوقت أصبح الكثير من هؤلاء الأطر الإدارية الكولونيالية علماء» (2008م، ص 25)، ويذكر من بين هؤلاء المستشرقين والأستاذين الجامعيين، شارل بلا[7]، وجاك بارك[8]. وقد شكلت مباراة التبريز في اللغة العربية التي تم إنشاؤها سنة 1906م، إحدى مظاهر هذه الإستراتيجية الكولونيالية في تدريس اللغة العربية. وبعد المرحلة الاستعمارية، ظهرت أغراض أخرى لاهتمام فرنسا بتدريس اللغة العربية، ومنها حاجة البلد إلى الأيدي العاملة في المصانع والمزارع. ففي سنوات السبعينيات من القرن الماضي، تم ترخيص العمال المهاجرين في فرنسا باستقدام عائلاتهم، فتم توسيع تدريس اللغة العربية في المدارس الإعدادية الثانوية، سواء في إطار التعليم الفرنسي أو في إطار ما يسمى بتدريس اللغات والثقافات الأصلية، من أجل إعداد أبناء المهاجرين للعودة يوما إلى بلدانهم الأصلية وتسهيل انخراطهم بمدارسها. فبالنسبة إلى تعليم اللغة العربية في المدارس الإعدادية والثانوية الذي تشرف عليه وزارة التربية الوطنية في إطار تدريس اللغات الأجنبية في المدارس العمومية، فإن عدد المقبلين عليه يفوق 8000 تلميذا حسب إحصائيات 2011م، يتوزعون على 215 مؤسسة تعليمية من الإعدادي حتى الباكالوريا (كلكتيف، 2011م، ص 121)، وبعض المدارس المهنية ما بعد الباكالوريا. ويحتل تدريس اللغة العربية من حيث عدد المقبلين عليه في الإعدادي والثانوي الرتبة الثالثة في تدريس اللغات الأجنبية بفرنسا بعد اللغتين الإسبانية والإيطالية، وتأتي بعد العربية، اللغات الألمانية، والصينية، واليابانية، والروسية والبرتغالية. وأما تعليم اللغة العربية في إطار ما يصطلح عليه باللغات والثقافات الأصلية، فإنه يشمل بعض مؤسسات التعليم الابتدائي التي يوجد بها الكثير من التلاميذ المنحدرين من بلدان شمال إفريقيا. وهو تعليم يندرج ضمن اتفاقية بين وزارة الخارجية الفرنسية وبعض بلدان شمال إفريقيا، كالمغرب، والجزائر وتونس، يقوم بمهمة التدريس فيها مدرسون تبعثهم هذه البلدان خصيصا من أجل هذا الغرض، وفي حرص منها على أن يكون هذا التعليم ملائما لقواعد التربية والتلقين للفرنسية، فإن وزارة التعليم الفرنسية تقوم عبر مفتشيها بمراقبة هذا التدريس؛ لكن لا تتدخل في برامجه. أما تدريس اللغة العربية في التعليم العالي، وهو ما سنتعرض له في هذه الدراسة، فإنه أقدم تاريخيا ـ كما أسلفنا ـ من التعليم الابتدائي والثانوي، ويشمل العديد من الجامعات والمدارس العليا. وتعتبر الجامعات الباريسية كالسوربون، وباريس الثامنة، ومعهد الدراسات الشرقية، وجامعات ليون، وإيكس ـ مرسيليا، وبوردو، وتولوز، ورين، ولوران ـ نانسي، وليل وستراسبورغ من أكبر المؤسسات التعليمية العليا في فرنسا التي تدرس فيها اللغة العربية، جنبا إلى جنب مع باقي اللغات الأجنبية المعروفة نحو: الإيطالية، والألمانية، والإسبانية، والبرتغالية، واليابانية، والصينية، والفارسية، والعبرية و...، كما توجد هناك أقسام صغرى في جامعات، مثل: مونبولييه، ونانت، وغرونوبل، ونانتار، وكلارمون فيران، وأفينيون، ولوهافر، وباريس الأولى وتور يتم تدريس العربية فيها كلغة فقط ضمن أقسام اللغات التطبيقية الأجنبية. وتجدر الإشارة إلى أن مؤسسات أخرى في التعليم العالي تابعة لوزارات أخرى، مثل الدفاع وغيرها، تتوفر على أقسام اللغة العربية، كما هو الشأن بالنسبة إلى المدرسة العليا سان سير ومدرسة بوليتيكنيك. وإذا كان هذا التقليد في تدريس اللغة العربية فرنسا تقليدا مرتبطا في مراحله التاريخية بأغراض دينية فاستعمارية ثم مهجرية، فإنه بدأ منذ العقود الأخيرة يأخذ منحى أكاديميا صرفا، حيث أصبحت أقسام اللغة العربية تحتل مكانتها جنبا إلى جنب مع باقي اللغات الأجنبية، وإذا كانت دواعي الإقبال عليها تختلف من طالب إلى آخر، فإنها تستجيب عموما لرغبة قوية لدى الغالبية العظمى من الطلاب في التعرف إلى الحضارة العربية والإسلامية واكتشاف الحقول المعرفية التي تشتغل من داخل اللغة العربية قديما وحديثا. يقول مفتش اللغة العربية العام بفرنسا ورئيس المجلس الإداري لمعهد العالم العربي بباريس سابقا، برونو لوفالوا[9]، في هذا الصدد: إن هذه الرغبة موجودة بشكل قوي لدى «التلاميذ والطلاب من مختلف أصولهم الذين يريدون الحصول على معارف في تخصصات مرتبطة بالعالم العربي بدءا من علوم الحفريات، والتاريخ القديم، وأدب العصور الوسطى، والإسلاميات حتى مختلف المهن التي تندرج ضمن صناعات اللغة، كالترجمة التجارية والأدبية خاصة، والنشر، ومهن التنشيط الاجتماعي والثقافي، والصحافة، والصناعة، والتجارة، والتعليم والمجال الديبلوماسي» (كلكتيف، 2011م، ص 120).
يدرس الأدب العربي بالجامعة الفرنسية حاليا في كل الأقسام التي يندرج تصنيفها ضمن ما يسمى بأقسام اللغات والآداب والحضارات الأجنبية. وهي أقسام مستقلة، توجد في كبريات الجامعات الفرنسية، مثل: السوربون، ومعهد الدراسات الشرقية بباريس، وجامعات ليل، ورين، وتولوز، وإيكس مارسيليا، وليون الثانية والثالثة، وبوردو وستراسبورغ، حيث يتم تكوين الطلاب من السنة الأولى إلى السنة الرابعة، أي الماستير، تكوينا عاما يشمل علوم اللغة واللسانيات والأدب والحضارة قبل أن يتخصص الطالب ابتداء من بحثه في السنة الثانية ماستير في واحدة من هذه الفروع تؤهله بدورها لإعداد رسالة الدكتوراة. ينطبق هذا النظام التعليمي على كل أقسام اللغات التي تندرج ضمن هذا التصنيف، حيث يكون معدل حصص التدريس وشروط الامتحانات في فروع الحضارة، وعلوم اللغة والآداب، هو نفسه بالنسبة إلى كل أقسام اللغات؛ في حين يقوم كل قسم بوضع مقرراته الدراسية ومحتوياتها وفق ما تقتضيه الشروط العامة في تقييم المستويات، وهي شروط تخضع لها جميع الأقسام وتتحكم فيها معايير وطنية وأوروبية. يختلف تدريس الأدب العربي في الجامعات الفرنسية عنه في الجامعات العربية أو في الجامعات التي تشكل اللغة العربية في بلدانها لغة أساسية؛ ذلك أن اللغة العربية في فرنسا لا تدرس في كل المؤسسات التعليمية الابتدائية والثانوية، مما يجعل بعض الجامعات الفرنسية تستقبل فوجين من الطلبة: فوج مبتدئ يتعلم العربية لأول مرة؛ وفوج سبق له أن درس العربية، إما في بلدان عربية أو في مؤسسات تعليمية فرنسية خاصة أو عمومية. ويتم في الغالب، تكوين الطلبة المبتدئين مدة سنتين أو ثلاث سنوات للحصول على شهادة تسمح لهم بولوج السلك الأول، أي الليسانس والالتحاق بفوج الطلبة المتمرسين. يؤدي هذا الوضع إلى برمجة مقررات في تدريس الأدب تراعي اختلاف المستوى بين الفوجين. ولتسهيل عملية تدريس الأدب العربي، يتم في أغلب الجامعات الاشتغال على الأدب العربي الحديث والمعاصر في السنة الأولى والثانية من الليسانس بموازاة مع تدريس تاريخ الأدب العربي بالفرنسية في شكل دروس استكشافية لأهم شعراء الجاهلية والإسلام على أن يتم تعميق هذا الدرس في السنة الثالثة من الليسانس من خلال الاشتغال على النصوص العربية القديمة شعرا ونثرا. يختلف تدريس الأدب العربي في الجامعات الفرنسية عنه في البلدان العربية أيضا من حيث الأهداف، بحيث تتوخى أقسام العربية في الجامعات الفرنسية تكوين جيل من المستعربين يتقن العربية والفرنسية معا؛ لذلك يتم استقبال الطلبة العرب وغير العرب ويشترط في نجاحهم وإحرازهم على شهادة الليسانس أو الماستير أن ينموا قدراتهم التعبيرية واللغوية في الفرنسية لضمان اشتغالهم مستقبلا على الثقافة العربية داخل البلدان الفرنكفونية والبحث فيها باللغة الفرنسية، كما يشترط في الأفواج الفرنكفونية للحصول على نفس الشهادات إتقانها للغة العربية؛ لذلك يكون تدريس الأدب العربي باللغتين الفرنسية والعربية، ولذلك أيضا تكون المواد الموازية لدروس الأدب العربي، مثل الترجمة ودروس الحضارة العربية والإسلامية في انسجام تام مع هذا الغرض ويتم تدريسها أيضا باللغتين. أما الخاصية الثالثة لتدريس الأدب العربي في الجامعات الفرنسية، فتتمثل في الطرق والمناهج المعتمدة، بحيث إن الهدف أيضا هو تمكين الطالب من الإحاطة الشاملة بمختلف فروع العربية وعلومها، ولو بشكل عام ومن أجل فهم القضايا الكبرى في تاريخ الأدب العربي؛ إذ لا يمكن تدريس مفهوم الأدب بمعناه القديم، أي كمجال شامل للعلوم والأخلاق والقيم وكمرادف للتعليم والتهذيب بدون الإحاطة بتاريخ العرب قبل ظهور الإسلام وبعده. فلا يمكن مثلا تدريس كتب الجاحظ وابن المقفع دون تدريس التاريخ السياسي للدولتين الأموية والعباسية، واختلاط العرب بشعوب أخرى كالفرس وغيرهم. لذلك يشترط في دارس الأدب العربي في الجامعات الفرنسية أن يكون أيضا أديبا بمعناه القديم وعلى قدر كاف من الدراية بأهم القضايا الكبرى في تاريخ الأدب واللغة والفقه والفلسفة، كما يشترط فيه أيضا إلمامه بالمناهج الغربية الحديثة في دراسة المواد الأدبية من شعر ونثر، دون تغليب منهج على آخر؛ لأن الطرق المعتمدة في دراسة النصوص الأدبية تستفيد من هذه المناهج كلها بطريقة تكاملية تهدف أساسا إلى فهم السياق التاريخي والسياسي والأدبي لكل نص وحياة صاحبه وتكوينه الثقافي وعلاقته بأبناء جيله من الأدباء وتأثره بسابقيه، أي ضرورة إلمام الطالب بكل ما يساعده في فهم ظاهرة أدبية أو نص أدبي قديم أو حديث فهما شاملا ودقيقا. ولعل هذه الطريقة في تدريس الأدب العربي التي تأخذ في الاعتبار كل المكونات الأساسية في نشوء الظواهر الأدبية، والتي لا يغيب أي عنصر من العناصر الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والتاريخية، واللغوية والفنية في تشكلها تعود إلى تقليد فرنسي قديم في الجامعات الفرنسية. فأغلب القائمين على وضع مقررات التدريس الثانوي ومقررات المباريات لولوج سلك التعليم هم أساتذة مبرزون، أي حاصلون على شهادة التبريز التي تشكل إلى جانب شهادة الكفاءة في التدريس محطة ضرورية من أجل ولوج سلك التعليم الإعدادي والثانوي وأحيانا الجامعي. يعود إنشاء مباريات التبريز إلى القرن الثامن عشر وبالضبط إلى سنة 1766م (تبريز العربية بدءا من سنة 1906م)، ومازال مستمرا إلى يومنا هذا كأعلى شهادة للتدريس في السلك الثانوي. ما يميزها عن باقي المباريات هو اشتراطها أن يكون الحاصل عليها ملما بشكل دقيق ومنهجي بأهم القضايا التي تخص مجاله وذا ثقافة واسعة؛ لذلك فإن أسماء كثيرة من تلك التي ميزت تاريخ الثقافة والفلسفة والعلوم بجميع فروعها في فرنسا هي أسماء حاصلة على شهادة التبريز، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: جون بول سارتر، وسيمون دو بوفوار، وميشال فوكو، وجاك ديريدا، وجيل دولوز، وإميل بنفنيست، وجون جوريس، وكلود ليفي ستراوس، وجاستون باشلار، وجاك لونغ، الرئيس الحالي لمعهد العالم العربي بباريس، ومستعربون، كريجيس بلاشير، وجيرار لوكونت، وشارل بيلا، ومحمد أركون، وجمال الدين بن الشيخ، وأندريه ميكال وغيرهم. ومازالت الهيئات الرسمية واللجان الساهرة على تنظيم مباريات التبريز في اللغة العربية وآدابها مكونة في أغلبها من مستعربين جامعيين مبرزين نشؤوا أنفسهم في هذا التقليد الفرنسي وحريصين على نفس طرق ومناهج أسلافهم في تدريس العربية وآدابها وحضارتها.
لا يوجد في الجامعات الفرنسية برنامج موحد لتدريس مواد اللغة العربية وآدابها، ما عدا أن الدرس الأدبي يجمع بين الأدب القديم، أي الجاهلي والإسلامي بكل مراحله، والأدب الحديث والمعاصر. لكن المتتبع لمحتويات الدرس الأدبي بمختلف الجامعات يلاحظ أنها تركز على إشكاليات بعينها تصب كلها تقريبا في إبراز الخصائص الجوهرية التي يتميز بها الأدب العربي القديم والمعاصر، منها: إشكالية مفهوم الأدب قديما، والمؤثرات الأجنبية كالفارسية والهندية التي ساهمت في نشوء النثر الأدبي عند العرب، مما يؤدي في هذا التدريس إلى وقفة ضرورية عند أجناس النثر العربي كالرسالة والحكاية والمقامة، ودراسة نصوص ابن المقفع والجاحظ والهمذاني والحريري وألف ليلة وليلة. ثم هناك إشكالية الأغراض الشعرية التي تطرح مسألة علاقة الأدب بالسلطة وبالتحولات التي طرأت منذ القرن الأول للهجرة على المجتمع العربي والإسلامي، وهو ما يقود حتما إلى الوقوف على المحطات التأسيسية لأغراض جديدة مستقلة، كالغزل العذري في القرن الثامن، وشعر الخمريات في العصر العباسي، والشعر الصوفي كمستودع سرّي ليأس المثقف من الوضع السياسي في الأقطار العربية والإسلامية التي بدأت في الهبوط، نحو هاويتها التاريخية بفعل الاستبداد والانقسامات والخصومات السياسية سواء في المشرق أو في بلاد الأندلس. وفي الأدب الحديث والمعاصر، يركز الدرس الأدبي على أهم محطاته التاريخية بدءا من أواخر القرن التاسع عشر، فيتم تدريس الشعر والنثر الخاصين بهذه المرحلة في إطار ما يسمى بإشكالية عصر النهضة، حيث ينصب اهتمام الدروس على علاقة الأدب بالتحولات السياسية الجديدة التي طرأت على العالم العربي والإسلامي بعد حملة نابليون على مصر وقبيل سقوط الخلافة العثمانية وصولا إلى بداية المد الاستعماري الأوروبي في العالم العربي. إن غياب برنامج محدد ومشترك بين كل أقسام العربية لا يعني أن الإشكاليات المطروحة في تدريس الأدب العربي تختلف اختلافا مطلقا بين هذه الأقسام، بل إن المتتبع لمقرر دروس الإعداد لاجتياز مباراة التبريز في اللغة العربية يلاحظ أن ثمة إشكاليات بعينها تفرض نفسها على الدرس الأدبي في الكثير من الجامعات خاصة الجامعات الكبرى الثلاث السوربون، وإيكس مَرسيليا، وليون، والتي تتولى أقسامها الإعداد لمباراة التبريز كل سنة. وهذه بعض الإشكاليات المطروحة في مباراة التبريز في السنوات الأخيرة في الأدب العربي القديم والحديث ما يلي:
* برنامج 2018م/ 2019م ـ أدب قديم: تقاطع مفهوم الأدب بمعناه القديم مع الخطابين الأدبي والأخلاقي من جهة، والمقدس والدنيوي من جهة ثانية: كتاب الفرج بعد الشدة للتنوخي نموذجا. ـ أدب حديث ومعاصر: إعادة قراءة النموذج الأسطوري الكلاسيكي وتجديد التعبير الأدبي في القرن العشرين: صورة مجنون ليلى في الأدب العربي الحديث. * برنامج 2016م/ 2017م ـ أدب قديم: أدب ومصير بشار بن برد: شخصية محبوبة وملعونة في الوقت ذاته، كما يصورها كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني. ـ أدب حديث ومعاصر: المواطن الحضرية والأدب: الصورة الأسطورية لمدينة طنجة في روايات محمد شكري. * برنامج 2014/2015 ـ أدب قديم: الكتابة والسياق والمقصدية في رسالة الجاحظ: في فخر السودان على البيضان. ـ أدب حديث ومعاصر: أصداء معاصرة وتصورات متمردة على التاريخ الديني في الرواية التاريخية عند يوسف زيدان: رواية عزازيل نموذجا. * برنامج 2013 ـ أدب قديم: الكتابة الأخلاقية والدينية عند أبي العلاء المعري: رسالة الغفران نموذجا. ـ أدب حديث ومعاصر: الغنائية والالتزام والنزعة الإنسانية في أشعار محمود درويش المتأخرة: حالة حصار وكزهر اللوز أو أبعد نموذجا. يستنتج من هذه المقررات أن إشكاليات الدرس الأدبي في الجامعة الفرنسية ينصب أساسا على إعادة النظر في الصور النمطية التي عهدناها في التراث النقدي العربي الحديث. ففي الأدب القديم، نلاحظ اهتماما متواصلا بالعلاقة بين الأدب والأخلاق، وهو ما يسمح بربط الأدب بباقي العلوم الفلسفية منها والدينية خاصة وربط الدرس الأدبي بالدرس الفلسفي لقراءة أحدهما في ضوء الآخر، كما نلحظ اهتماما أيضا بصورة الكاتب أو الأديب في المخيال العربي القديم انطلاقا من كتب الأخبار والسير، مثل كتاب الأغاني، وهو ما يجر الطالب إلى الاهتمام بدروس التاريخ والحضارة العربية الإسلامية لفهم اشتغال المخيال العربي إزاء نماذج أدبية والتمييز فيها بين الواقعي والأسطوري. أما في الأدب الحديث والمعاصر، فإننا نلحظ اهتمام الدرس الأدبي في الجامعة الفرنسية بالبحث عن التأثيرات الأدبية القديمة على الكتابة الأدبية المعاصرة وأشكالها السردية والشعرية، مثلما طرحه مقرر التبريز سنتي 2018م و2019م، من خلال صورة مجنون ليلى في الأدب العربي الحديث أو مقرر سنتي 2014/2015 من خلال دراسة تأثيرات كتب التاريخ على الرواية العربية المعاصرة. ونلحظ أخيرا أن بعض الإشكاليات المقترحة تتحكم فيها أحيانا سياقات سياسية بفرنسا حول قضايا تشغل النخبة السياسية وقسطا من المجتمع المدني الفرنسي كقضية الهجرة والميز العنصري مثلا، وهذا ما يؤكده مقرر سنتي 2014م و2015م، وهو يطرح للقراءة والدرس رسالة الجاحظ في فخر السودان على البيضان، مما يجعل من الدرس الأدبي نافذة مهمة على التاريخ والسياقات السياسية والاجتماعية قديما وحديثا.
قد يمكن الحديث عن مناهج متعددة وليس منهجا واحدا في دراسة الأدب العربي بفرنسا؛ إذ هنا أيضا لا تفرض المؤسسة التربوية الجامعية منهجا أو مناهج لمقاربة تاريخ الأدب العربي ونصوصه، إنما يقرر الأستاذ وحده طريقة التدريس والبحث في الأدب. فهو قد يفضل المنهج البنيوي في دراسة النصوص الأدبية من أجل استنباط الآليات السردية والشعرية والبلاغية في اشتغال النص الأدبي، وقد يستهويه المنهج السيميائي من أجل الوقوف عند آليات اشتغال الدلالة في النص الشعري أو النثري، وقد يفضل عنهما مقاربة النصوص من زاوية اجتماعية ـ أدبية تبحث خاصة عن علاقة الأدب بمحيطه وشروط إنتاجه. لكن المتتبع عن قرب لتدريس الأدب بفرنسا يدرك أن المنهج السائد يظل هو نفسه الذي يميز الدرس الأدبي في الإعداد لشهادتي التبريز والكفاءة، أي ذلك المنهج المتوارث عن الدراسات الاستشراقية وعن الطريقة الفرنسية التقليدية عامة في دراسة الأدب: أي المنهج الشمولي الذي يدرس الأدب أولا في علاقته بمحيطه الاجتماعي والسياسي والأدبي؛ وثانيا في موضوعاته ومحتواه الفكري؛ وثالثا في خصائصه الفنية من بلاغة وتركيب وتناصات مع النصوص السابقة عنها. ومن ميزات هذا المنهج تركيبته الشمولية ومرونته، فهو لا يسقط النظريات الأدبية على النصوص ولا يتقيد بآليات نقدية لمدرسة بعينها، وإنما يستنطق النص في علاقته بمؤلفه وبمحيطه الاجتماعي والتاريخ والسلطة والأخلاق والفلسفة والدين. همه الأساسي في ذلك هو فهم النص على ضوء شروط إنتاجه، ثم فهم آليات اشتغاله السردي أو البلاغي أو الشعري مستعينا في ذلك بكل المناهج الحديثة التي تساعد في تفكيك النص الأدبي ودراسة مقوماته الموضوعاتية والجمالية. ولعل إلقاء نظرة سريعة على برامج التبريز التي أتينا عليها أعلاه يؤكد من جهة أن منهج الدرس الأدبي تتحكم فيه الإشكالية التي يريد المدرس طرقها؛ ومن جهة ثانية أن هم الدرس الأدبي في فرنسا ليس هو الأدب في حد ذاته فحسب، وإنما أيضا وبشكل أساسي الأدب كنافذة أيضا لفهم ما حوله. هذا ما نلمحه مثلا في برنامج التبريز لسنتي 2018م و2019م، حيث إن إشكالية تقاطع مفهوم الأدب بمعناه القديم مع الخطابين الأدبي والأخلاقي من جهة، والمقدس والدنيوي من جهة ثانية من خلال كتاب الفرج بعد الشدة للتنوخي لا يمكن أن يستوفيه منهج واحد، بل يتطلب من الدارس أن يستعين بطرق وعلوم متعددة للكشف عن التقاطع بين كل هذه الخطابات. ولعل مفهوم الخطاب هنا كفيل بأن يشترط من الدارس لهذه الإشكالية الإلمام بخصائص كل خطاب قبل البحث في التقاطعات بين هذه الخطابات جميعها وبين الخطاب الأدبي. ومما يدل أيضا على أن هذا النوع من المقاربات الشمولية والمتعددة المناهج للنص الأدبي هو السائد في الدرس الأدبي بالجامعة الفرنسية هو أن أبحاث الدكتوراة في الأدب تسير في أغلبها على هذه الطريقة. فخلافا لما هو سائد في الجامعات العربية، حيث يقوم الطالب بتخصيص فصل نظري للبحث يطبقه في الفصول اللاحقة على المتن الذي يشتغل عليه، يفضل الباحث على منوال الطريقة الفرنسية الدخول مباشرة في تحليل المتن، وكل استحضار لنظريات بعينها أو بجزء منها يجب أن يستدعيه المتن وليس العكس.
الخاتمة يعتقد الكثير من الطلاب القادمين إلى فرنسا من البلدان العربية أنهم سيدرسون الأدب العربي بنفس الطرق التي يدرس بها في البلدان العربية، وهو اعتقاد خاطئ؛ إذ يختلف الأمر كثيرا سواء من حيث مناهج التدريس أو من حيث الأهداف المتوخاة من تدريس اللغة العربية وآدابها وحضارتها. فمن جهة أولى، يتم تدريس الأدب ـ كما أسلفنا ـ في انفتاح على مختلف العلوم المساعدة على فهم الظواهر الأدبية من تاريخ وفلسفة وعلم اجتماع؛ ومن جهة ثانية، يهدف تدريس الآداب الأجنبية بالجامعة الفرنسية إلى تكوين طلاب وباحثين مزدوجي اللغة الفرنسية واللغة التي الأجنبية التي يدرسونها. فبالنسبة إلى أقسام اللغة العربية وآدابها، يتم تكوين ما يسمى بالمستعربين للاشتغال مستقبلا في الترجمة أو السلك الديبلوماسي أو في سلك التعليم الثانوي والجامعي أو في مؤسسات البحث العلمي، مثل كوليج دو فرانس والمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية بباريس. ولأن الجامعة هي التي يتخرج منها الطلبة الراغبون في اجتياز مباراة ولوج سلك التعليم الإعدادي (مباراة الكفاءة)، والثانوي (مباراة التبريز)، فإن دورها بالغ الأهمية في تكوين طاقات وأطر ذات كفاءات عالية. إن مهمتها في تدريس اللغة العربية وغيرها من اللغات بحسب مفتش اللغة العربية العام برونو لوفالوا هي «ضمان مستوى عال من التكوين العام وتنشيط القدرات الذهنية وتمكين الطالب من التعبير بشكل مفهوم لإيصال معارف معقدة، أي للتعليم» (كلكتيف، 2008م، ص 175). وبقدر ما يشكل هذا التدريس عامة وتدريس اللغة العربية خاصة رافدا علميا وأكاديميا، مهما في تكوين نُخب للاشتغال بالتعليم والسلك الدبلوماسي والبحث العلمي، فإنه يعاني من عراقيل متعددة، أهمها صورة العربي واللغة العربية في مخيال الأوروبيين المعاصر الذي يربط اللغة العربية بشكل تلقائي بالدين الإسلامي، مما يؤدي في أذهان القائمين على الشأن التربوي وفي المخيال الجمعي الفرنسي عموما إلى النظر بحيطة وحذر إلى كل ما له علاقة باللغة العربية. فمنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2011م، صار من الصعب في المجتمع الأوروبي الفصل بين اللغة العربية والإسلام والإرهاب، وهي صورة تم تسويقها من طرف حكومات ومثقفين يشتغلون لأجندة اليمين المتطرف في فرنسا وأوروبا هدفها خلق البلبلة داخل أوروبا بين مواطنين مسلمين وغير مسلمين، مما جعل حتى الحكومات غير المتطرفة تخشى، منذ العقدين الأخيرين، العمل على تشجيع تعليم اللغة العربية في المدارس والجامعات. فرغم الإقبال المتزايد على تعلم اللغة العربية بالجامعات الفرنسية، هناك توجس سياسي من هذ التعليم وتقليص في عدد المناصب الجامعية في أقسام اللغة العربية وفي أحسن الأحوال تجميدها. [1]. Daniel Reig [2]. Antoine Galland [3]. Claude Savary [4]. Colbert [5]. Silvestre de Sacy [6]. Henry Laurens [7]. Charles Pellat [8]. Jacques Berque [9]. Bruno Levallois | ||
مراجع | ||
المصادر والمراجع أ ـ العربية غرافي، ميلود. (2012م). تدريس اللغة العربية في فرنسا بين الاختيار المؤسساتي والإحالة إلى الهوية ضمن الكتاب الجماعي اللغات في الهجرة. الرباط: مجلس الجالية.
ب ـ الفرنسية كلكتيف Collectif. (2011). Langues en immigration. Paris: Séguier & Casablanca: La croisée de chemins. _______ . (2008). Le centenaire de l’agrégation d’arabe. Versailles: Crdp. لورانس Laurens, Henry. (2008). l’Orientalisme en France, mise en perspective, in Le centenaire de l’agrégation d’arabe. Les Actes de la Dgsco: Crd Versailles. ريغ Reig, Daniel. (2006). L’orientalisme savant: de l’humanisme au politique» in Histoire de l’islam et des musulmans en France du Moyen Âge à nos jours. Paris: Albin Michel.
| ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 2,879 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 361 |