تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,651 |
تعداد مقالات | 13,405 |
تعداد مشاهده مقاله | 30,241,314 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 12,084,403 |
الرؤية العالمية للقرآن الكريم ضمن الأساليب المتشكلة تركيزا على نظام الحقل الدلالي للمعرفة | ||||||||||
بحوث في اللغة العربية | ||||||||||
مقاله 12، دوره 13، شماره 25، دی 2021، صفحه 173-190 اصل مقاله (1.58 M) | ||||||||||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||||||||||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2020.123670.1297 | ||||||||||
نویسندگان | ||||||||||
رجاء أبوعلي* 1؛ احياء کماسي2 | ||||||||||
1أستاذة مساعدة في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة العلامة الطباطبائي، طهران، إيران | ||||||||||
2طالبة الدكتوراه في قسم اللغة العربية بجامعة العلامة الطباطبائي، طهران، إيران | ||||||||||
چکیده | ||||||||||
اللغة نظام كلي يتشكل من الأساليب التي تؤثر على فهم كيفية وجهة نظر صاحبها. من هذا المنطلق، من مجموعة الأساليب المتشكلة في النظام اللغوي، يتكون الهيكل الرئيس الذي تنبثق منه الرؤية العالمية. القرآن الكريم كنظام لغوي يحتوي على مجموعة من الأساليب المختلفة والمتشابهة، فكل أسلوب متشابه يؤدي إلى تشكيل حقل دلالي متحد في المعنى. هذه فكرة اتخذت من مبادئ النظرية النسبية اللغوية التي تتميز بنسختين: النسخة القوية شكل متطرف أن اللغة تحدد الرؤية العالمية وتشكّل الثقافة؛ أما النسخة الضعيفة فتجعل للغة دورا منفعلا، أنها تعبر عن وجهة نظر الكاتب وقد تؤثر على تشكيل الأفكار والثقافة. نظرا لأهمية كيفية تكوّن الهيكل الرئيس من الأساليب والرؤية العالمية المنبثقة منها، يعالج هذا المقال نظام الحقل المعرفي المتشكل من الكلمات "شكّ، وزعم، وظنّ، وحسب، وعقل، وفكر، وتدبّر، وعرف، وبصر، وشعر، وفقه وعلم"، في القرآن فيتمسك بنسخة ضعيفة من هذه النظرية كالفرضية الأساسية للبحث. تطرق هذا المقال، معتمدا على المنهج الوصفي ـ التحليلي ووفقا للأسلوبية الإحصائية، إلى توظيف هذه النظرية في نظام الحقل المعرفي للقرآن الكريم. والهدف من هذا هو إلقاء الضوء على هذه النظرية واستخراج الرؤية العالمية ضمن الهيكل الرئيس من الأساليب المتشكلة. ومن أهم النتائج التي يمكن أن يشار إليها أن الهيكل الرئيس للحقل المعرفي يعتمد على تشكل الحلقات الأربعة: حلقة التصور، وحلقة التعقل، وحلقة الإدراك وحلقة العلم. الرؤية العالمية للقرآن الكريم تدل على العلاقة الوثيقة والمتشابكة، وهي كون حلقة العقل كمصدر نهر يصب منه الإدراك وتنتهي هذه العملية إلى بحر المعرفة الحقيقة والتامة التي تمثلها حلقة العلم. | ||||||||||
کلیدواژهها | ||||||||||
الرؤية العالمية؛ الأسلوب؛ الحقل المعرفي؛ القرآن | ||||||||||
اصل مقاله | ||||||||||
تلعب اللغة دورا هاما في تشكيل وجهة نظر صاحبها وفي تحديد ملامح الهوية الثقافية لدى أي مجتمع من المجتمعات. إن الأمة تفصح عن روحهها بالكلمات التي تستخدمها؛ من ثم إن الاختلافات القائمة بين اللغات ليست مجرد اختلافات صوتية، بل إنها على اختلافات في تفسير العالم وفهمه من قبل المتكلمين بكل لغة. و«الذين يتحدثون لغات مختلفة يعيشون إلى حد ما في عوالم مختلفة وتتكون لديهم أنساق مختلفة من التفكير» (محسب، 1997م، ص 11). هذه نظرية لغوية يطلق عليها عنوان "النسبية اللغوية" التي تتميز بنسختين: النسخة القوية تؤكد على أن اللغة لا تؤثر على وجهة نظر صاحبها فحسب، بل تحددها؛ فإن بعض أصحاب هذه النظرية تجاوزوا عن الحد، فأثاروا انتقادات كثيرة، فذهب بعض المنتقدين إلى إبطالها؛ والنسخة الضعيفة أن اللغة قد تؤثر على الفكر والثقافة، ومن الممكن أن نحصل على الرؤية العالمية للكاتب بدراسة العناصر المتوجدة في النص. مهما يكن من أمر، فإن أكثر علماء اللغة متفقون على تأثير اللغة بعناصرها في تشكيل الرؤية العالمية والحصول على وجهة نظر الكاتب بدراسة آثاره. أما الأسلوب من بين عناصر اللغة كالصوت والمعنى الحرفي للكلمات و...، فله دور بارز في عملية تشكل الرؤية العالمية، كما يعتبر «جوهر اللغة الذي يجعل صياغة الواقع ممكنة في أنماط لغوية شكلية متنوعة داخل النظام العام لها» (الخربي، 2007م، ص 160)، أمر يستوجب الانتباه، فهو من مجموع الأساليب المتشابكة والمتماسكة في المفاهيم يتكون الهيكل الرئيس، ثم تنبثق منه الرؤية العالمية. من أهم المعايير التي يلتزم بها أصحاب نظرية الرؤية العالمية في معالجة النص هو الاهتمام بالنص كنظام كلي والتركيز على الحقول الدلالية للكلمات. إن القرآن الكريم نظام من الأساليب ومتشكل من الحقول الدلالية. فانطلاقا من هذا، أردنا أن نطبق هذه النظرية في القرآن الكريم ونكتشف الرؤية العالمية له ضمن الأساليب المتشكلة، معتمدين على المنهج الوصفي ـ التحليلي وعلى الأسلوبية الإحصائية. والهدف من اختيار الحقل المعرفي ليس أمرا عشوائيا، بل يعود إلى وسعة إطارها وكثرة حضورها في نظام لغة القرآن، فتعتبر من المصطلحات المفتاحية. فنعتمد على نسخة ضعيفة من هذه النظرية كالفرضية الأساسية للبحث، وهي أن عنصر الأسلوب للغة يبين الرؤية العالمية للنص. 1ـ1. أسئلة البحث أما المقالة هذه فتحاول الإجابة عن الأسئلة التالية: ـ ما الرؤية العالمية السائدة في القرآن الكريم، ضمن أساليب الحقل المعرفي المتشكل من كلمات "شك، وزعم، وظن، وحسب، وعقل، وفكر، وتدبّر، وعرف، وبصر، وشعر، وفقه وعلم"؟ ـ كيف يتكون الهيكل الرئيس للحقل المعرفي من مجموعة الأساليب المتشكلة؟ ـ ما كيفية العلاقة المعنوية بين الكلمات ضمن الأساليب المتشكلة؟ 1ـ2. خلفية البحث تناول الباحثون دراسة الأسلوب ودوره في خلق المعاني؛ وهناك بحوث هائلة تكترث بتوظيف نظريات لغوية في القرآن الكريم لكشف معانيه. رغم هذه الدراسات الكثيرة، فالقرآن مازال يفتقر إلى دراسات لكشف رؤيته العالمية. وأما الدافع الأساسي لكتابة هذا المقال، فإننا ما عثرنا على دراسات تختص بتطبيق نظرية الرؤية العالمية في القرآن الكريم والتركيز على الحقل المعرفي ضمن الأساليب المتشكلة والاختلافات الهيكلية. في مسير البحث عن الخلفيات، وجدنا بحوثا تساعدنا على كتابة المقال وتلازم أهدافنا؛ فمنها ما يلي: كتابا اللّٰه والإنسان في القرآن، ومفاهيم اخلاقى ـ دينى در قرآن كريم (= المفهومات الأخلاقية ـ الدينية في القرآن)، لتوشيهيكو إيزوتسو؛ فهو جسّد فكرة الرؤية العالمية في القرآن وتأكد على مدى دور اللغة في تشكيل أفكار الإنسان؛ ومن اللافت أنه لم يكترث بعنصر الأسلوب، كما اهتم بالجوانب الأخرى من عناصر اللغة. وكتاب اللغة والفكر والعالم، لمحيي الدين محسب الذي طبع في عام 1997م؛ والكاتب يقوم بشرح النظرية وروّادها ويكتفي بالقسم النظري ولا يدخل في التطبيق. وكتاب نظرية اللسانيات النسبية: دواعي النشأة، لمحمد الأوراغي؛ فهو ثار على النظرية الكلية عند تشومسكي، والتي تدرس اللغة للحصول على القواعد الكلية عند جميع اللغات، وقام بتعديل النواقص الموجودة في النظرية النسبية. ومقالة النسبية اللغوية في حقل الأنثروبولوجيا الثقافية، لعباس ياس خضر العباسي (2019م)؛ يدرس هذا البحث العلاقة بين اللغة والثقافة ويغوص في تفاصيل آراء العلماء. وأخيرا، مقالة بازتفسير كلمات فقر و غنا در قرآن كريم با تكيه بر زمينههاى انسانشناختى ساخت مفهوم (= إعادة قراءة کلمات الفقر والغنی فی القرآن الکریم، تركيزا علی جوانب الأنثروبولوجیا لبناء المفاهیم)، لاحمد پاكتچی ومحمد حسن شيرزاد ومحمد حسين شيرزاد (1398ﻫ.ش)؛ يقوم البحث بتقديم الرؤية القرآنية تبعا لاستخدام كلمة "الفقر والغناء" في القرآن ويعالجهما حسب كثرة ترددهما في أسلوب الاستئلاف وتجالس الكلمات في سياق واحد.
يعتبر كل نص نظاما لغويا يعكس وجهة نظر صاحبه؛ ومن مجموع الأفكار المتشكلة في النظام اللغوي، تتكون رؤية عالمية تتميز من نص إلى آخر؛ من ثم تؤثر اللغة بميزاتها وعناصرها على تكوين الرؤية العالمية. إن نظرية الرؤية العالمية اتخذت من نظرية مدرسة بون[1] الدلالية التي كانت تسود في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. إن اللغة لدى أصحاب هذه النظرية تتميز بميزات تختص بها، حيث إن المتكلمين باللغات المختلفة لديهم إدراكات وتصورات مختلفة عن العالم. إن نتعمق في كلام أصحاب هذه النظرية، نلاحظ أن النقطة الرئيسة والمشتركة بينهم هي أن المجتمع يستطيع رؤية العالم من خلال لغته والفرق بين اللغات وتنوعها ليس في الأصوات والعلامات فحسب، بل في اختلاف وتنوع رؤى العالم ووجهات النظر (سوبيندو، 1917م، ص 216؛ ميلز، 2000م، ص 2). عندما نقوم بمقارنة كلمة "عقل" في اللغة العربية مع كلمة "logos" في اللغة الإغريقية، نجد أن اللغة أثرت على كيفية تفكير الإنسان ورؤيته إلى العالم. "عقال" في اللغة العربية لها معنيان: الحبل الذي يعقل به البعير و...؛ وجزء من اللباس العربي التقليدي الذي يرتديه الرجال بشكل يومي فوق الغترة أو غطاء الرأس. فكلمة "عقل" اتخذت معناها من "العقال"، فتدل على قوة تمكن الإنسان في وقاية النفس من الخطأ والذنب؛ أما كلمة "logos" في اللغة الإغريقية فتدل على النظم وقوة تنظم العلم والفكر (معمورى، 1386ﻫ.ش، ص 167). من ثم العقل في عقلية العرب مؤشر أخلاقي، وفي عقلية الغرب مؤشر علمي، والإنسان العاقل في الرؤية العالمية عند أصحاب المتكلمين باللغة العربية يعتبر شخصا يقدر على حفاظ نفسه من التورط في مأزق النفس والشهوات، حينما الإنسان العاقل في الرؤية العالمية عند أصحاب اللغة الإغريقية يعد شخصا قادرا على تنظيم أموره. بقراءة نصوص التراث العربي، نعثر على أقوال قد تنسجم مع مفهوم الرؤية العالمية؛ على سبيل المثال، يمكن أن نشير إلى كلام عبد القاهر الجرجاني: «فلولا الكلام لم تكن لتتعدى فوائد العلم عالمه ولا صح من العاقل أن يفتق عن أزاهير العقل كمائمه ولتعطلت قوى الخواطر والأفكار من معانيها» (د.ت، ص 3)؛ أو كلام ابن جني: «اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم» (د.ت، ج 1، ص33). أما بالنسبة لخلفية نظرية الرؤية العالمية في الغرب، فتعود بشكل عام إلى آراء فون هومبولت[2]، منظر آلماني، حيث إنه يحمل لواء هذه الفكرة يعتقد أن «لغة الناس هي روحهم وروحهم هي لغتهم» (روبنز، 1997م، ص 254). ولئو وايسغربر[3] شخصية رئيسة في تأسيس وتدشين هذا التفكير، فكان يعتقد أن دراسة اللغة لها علاقة وثيقة بدراسة التجارب المعيشية والحياتية للأمم (المصدر نفسه، ص 255). دو سوسير[4] رائد علم اللغة الحديث له كلام مأثور يحكي عن تعريف اللغة ويدل على أنه يؤيد نظرية الرؤية العالمية، يقول: «اللغة نظام من الإشارات التي تعبر عن الأفكار» (1985م، ص 34). وصل مفهوم الرؤية العالمية عند إدوارد سابير[5] وبنيامين وورف[6]، منظرين أمريكين، إلى قمتها؛ أن اللغة عندهما ظاهرة اجتماعية وثقافية وأنها تنبغي أن تدرس على هذا الأساس وأن الرموز الصوتية لا معنى لها بحد ذاتها؛ إذ ركزا على الجانب الإنساني للغة وعلى بعدها الثقافي وعلى أسبقية الفكر على الإرادة والإحساس (خرما، 1978م، ص 87). تمتد فكرة الرؤية العالمية عند أصحاب مدارس لغوية أخرى وتتطور في مسارها التاريخي؛ على سبيل المثال، من أهم مباني فكرة مدرسة الهرمنوطيقا[7] الفلسفية ومعاييرها أن الفهم ليس متوحدا، بل نسبي ويختلف حسب ظروف قارئ النص ورؤيته إلى العالم وأن النص ظاهرة تاريخية واجتماعية (مصطفى، 2007م، ص 75 ـ 76). نرى أن الهرمنوطيقيين يلقون الضوء على مسألة الفهم. وفي بيان مفهوم نسبية الفهم، يعتمدون على مباني نظرية الرؤية العالمية. أصحاب المدرسة الوظيفية[8] يعتقدون أن اللغة ظاهرة اجتماعية، فيدرسون علاقتها بالمجتمع. السياق عندهم سابق على النص؛ لأن من أهم وظائف اللغة الخدمة في إطار سياق ما، ووظيفة اللغة هي تسليط الضوء على الوقائع والتعبير عن أفكار الإنسان (عماش وحاتم، 2016م، ص 133). فنرى مدى تأثير نظرية الرؤية العالمية عندهم؛ فذهبوا إلى أن اللغة لا تعكس أفكار الناس فحسب، بل تبنيها وتحددها. في مسير البحث عن تطور النظرية هذه، حصلنا على فكرة منضوجة ومتكاملة عند علماء علم اللغة المعرفي[9] يجعلون البنية التحتية لدراساتهم معتمدة على معالجة العلاقة بين اللغة ومعرفة الإنسان، ويركزون على المباني المتشكلة من الاستعارة في النص ويعتبرون لها دورا بارزا في البحوث المعرفية وتعيين كيفية التفكير (إيفان وغرين، 2006م، ص 41 ـ 44). أما في العالم العربي المعاصر، فنشاهد تجديد نظرية الرؤية العالمية عند محمد الأوراغي الكاتب المغربي الذي يدرس النموذج النحوي في اللغة العربية للحصول على أفكار تنبثق من الأساليب المتشكلة (الأوراغي، 2017م).
يتشكل الأسلوب في الكلام من تشابك الكلمات ومجالستها بعضها مع بعض. فكل أسلوب في اللغة يقوم بدوره في إيصال المعنى والفكر للمخاطب. يعد الأسلوب عنصرا أساسيا في تشكيل الهياكل اللغوية؛ والهيكل يتشكل من أساليب منسجمة في نظام اللغة؛ بعبارة أخرى، كل أسلوب له علاقة وثيقة بأسلوب آخر، ومن مجموع العلاقات بين الأساليب يتشكل الهيكل. أنماط أسلوبية في النص واختلافها من لغة إلى الأخرى تكون لها علاقة مع كيفية تفكير صاحب الكلام وتمثل العالم الإدراكي المختص باللغة (لسي، 1997م، ص 292). إذن لا تتوالى الكلمات في الجملة على نحو عشوائي، بل لها أنساق تركيبية وعلاقات متشابكة؛ فإن التغيير في البنية النحوية وعلاقات الكلمات من شأنه أن يبدل في المعنى (أبو عودة، 1985م، ص 75). علماؤنا في اللغة العربية قد اهتموا بهذا العنصر وتعمقوا في دراساته؛ ذهب عبد القاهر الجرجاني إلى أننا نجد الألفاظ تترتب لنا بحكم أنها خدم للمعاني وتابعة لها ولاحقة بها؛ بعبارة أخرى أن اللفظ تبع للمعنى في النظم، وأن الكلم تترتب في النطق بسبب ترتب معانيها في النفس (الجرجاني، د.ت، ص 54 و56)؛ كما نرى أن الجرجاني يعبر عن الأسلوب بترتيب الألفاظ في اللغة ويجعلها خدمة للمعنى. يذهب هومبولت[10] ووايسغربر[11]، رائدا فكرة الرؤية العالمية، إلى أن اللغة ليست نتاجا للفكر، بل اللغة هي نسيج الفكر ذاته، أي تنتج الأفكار بنفسها نوعا من الحوار الداخلي، وأن البنية الداخلية للغة هي انعكاس لروح الأمّة وتؤثر على وعي الشعب (العباسي، 2019م، ص 1976). إن نلق نظرة على كلامهما فنعرف أن القصد من البنية الداخلية هو الهيكل الأسلوبي. فورف[12] عندما قام بدراسة أفعال اللغة الهوبية، ادعى أن الزمن فيها غير محدد، فالإنسان الهوبي يرى العالم من خلال عدسة مختلفة عن المتحدثين باللغات الأخرى كالإنجليزية (جرين، 1992م، ص 118)، وكان يعتقد أن البنية اللغوية أو التركيب اللغوي هو الذي يحدد الفكر ويسيطر عليه (خرما، 1978م، ص 177). فنلاحظ أن العلماء أكثرهم يؤكدون من بين العناصر اللغوية على دور الأساليب المتشكلة بأشكال مختلفة في عملية تكوين الرؤية العالمية، ونرى أصحاب مدرسة بون الدلالية يهتمون بالجانب الأسلوبي أكثر من جوانب أخرى للغة ويستعينون بهذا المنهج لمعالجة النص.
قبل أن نتطرق إلى كيفية تشكل الحقل المعرفي في نظام القرآن، فمن الضروري أن نتناول مفهوم الحقول الدلالية والنظام اللغوي وتأثيرهما في كيفية استخراج الأفكار. الحقل الدلالي مجموعة من الكلمات ترتبط دلالتها وتوضع عادة تحت لفظ عام يجمعها؛ مثال ذلك كلمات الألوان في اللغة العربية؛ فهي تقع تحت المصطلح العام "لون" وتضم ألفاظا، مثل: أحمر، وأزرق، وأصفر، وأبيض و... (عمر، 1998م، ص 79). أما بالنسبة إلى لنظام اللغوي، فمن الضروري أن نشير إلى أهمية دراسة الحقول الدلالية ضمن نظام اللغة للحصول على الرؤية العالمية؛ لأن «الكلمات ليست أسماء منفردة ومستقلة، بل كلها في بنية ومجموعة واحدة تدل في نفس الوقت على معرفة، فأجزاء النص كعناصر ولكل عنصر له وظيفة في البنية» (گيررتس، 1393ﻫ.ش، ص 135). دراسة الأساليب ضمن الحقول الدلالية تسهل عملية كشف الرؤية العالمية، من ثم سنطبق هذا المنهج في دراستنا هذه. القرآن الكريم كنظام لغوي تتشكل فيه حقول دلالية هائلة، فكل حقل يملك كلمات متماثلة في المفاهيم. الحقل الذي يختص بمفهوم المعرفة في نظام لغة القرآن يحتوي على كلمات، منها: "علم، وعرف، وتدبّر، وفكر، وعقل، وحسب، وظنّ، وأدرك، وفهم، وزعم، وشعر، ورأى، وبصر، وفقه واطلع و...". بنظرة ثاقبة في هذه الكلمات، نكشف أن هذا الحقل الدلالي من حيث دلالته لغوية يعتبر كالمجموعة المتمكنة من أربع حلقات: 1ـ حلقة تدل على مفهوم التصور؛ 2ـ حلقة تدل على مفهوم العقل؛ 3ـ حلقة تدل على مفهوم العلم؛ 4ـ حلقة تدل على مفهوم الإدراك. كل حلقة تحتوي على كلمات متشابهة في المعنى، ولها علاقة مع الحلقات الأخرى في الدلالة على المعرفة؛ بعبارة أخرى، بين الحلقات علاقة متشابكة في إيصال الفكر الوحيد الذي يسمى في علم اللغة الرؤية العالمية. والشكل التالي يبين الأمر بالوضوح: نلاحظ أن هناك حلقات متشابكة تتشكل من حيث الدلالة اللغوية على مفهوم المعرفة. أما الشيء الذي يثير انتباه المخاطب ويجعله في موقف التساؤل عنه، فهو هل بدراسة أساليب مستخدمة في كل حلقة يمكن أن نحصل على هذه المجموعة بنفسها متألفة من أربعة الحلقات أم لا؟ بعبارة أخرى، هل تتناسب الأساليب للتعبير عن المفاهيم مع الدلالة اللغوية أو تختلف عنها؟ الإجابة عن هذا السؤال قد تفيدنا في بيان كيفية تكون الهيكل الأساسي في القرآن الكريم لكشف رؤيته العالمية. فمن الضروري أن نلتزم بمناهج دراسة لتسهيل عملية كشف المباني الفكرية، وهي: 1ـ دراسة أساليب متميزة تملكها كل حلقة وتختلف عن أساليب حلقات أخرى؛ 2ـ دراسة العلاقة بين الحلقات للوصول إلى الهيكل الأساسي؛ 3ـ في النهاية كشف الرؤية العالمية.
4ـ1. الأساليب المتشكلة ضمن حلقة التصور تجتمع كلمات تدل على مفهوم المعرفة بين التردد واليقين في حلقة التصور. في النظام اللغوي القرآني نواجه كلمات، مثل: "ظن، وزعم، وحسب، وشك"، تحكي عن هذا المفهوم وتتفق في الدلالة عليه وقد تفترق في الدلالات الخاصة بها. تخلق أساليب في القرآن لانتقال أفكار تختص بالكلمة وتميزها من الكلمة الأخرى؛ على سبيل المثال، الأسلوب الذي يتشكل لحمل دلالة "ظن"، يختلف عن الأسلوب الذي يحمل دلالة "زعم". دراسة كيفية خلق الأساليب والتركيز عليها من جانب كثرة ترددها تساعدنا على عملية كشف الهيكل الذي يتشكل من مجموع دلالة الأساليب ثم استخراج الأفكار. إن نلق نظرة على كيفية حضور "الشك" في نظام لغة القرآن، فيثير انتباهنا حضوره بنمط واحد وفي إطار واحد. يتردد ذكره 15 مرة، وفي كل مرات، يحضر في أسلوب الجملة الاسمية والظرف ومع تكرار التأكيدات. نقدم هذه الآية كالنموذج من حضوره: «وَإنَّهُمْ لَفي شَكٍّ مِنْهُ مُريبª (هود 11: 110)، فتمس الحاجة هنا لمعرفة دلالة أسلوب الجملة الاسمية عند عبد القاهر الجرجاني: «إن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدده شيئا بعد شيء ... ويقتضي الاسم ثبوت صفة والتحدث عن هيئة ثابتة وعن شيء قد استقر طوله ولم يكن ثَمّ تزايد وتجدد» (د.ت، ص 174). فملخص كلام الجرجاني أن الاسم يجعل المعنى ثابتا ومستقرا ودون حركة وحيوية وتجدد. بالتعمق في الآيات التي استخدم "الشك" فيها، نلاحظ أنه يختص بالكافرين ويتعلق بهم؛ إذن نستطيع القول إنه تصور ارتياب مطلق عندهم ولا يوجد أي أمل لانصرافهم عنه، فيؤدي حضوره في الأسلوب الذي يدل على الاستقرار إلى دلالة تصور يحكي عن قمة التردد في أمر ما، حيث لا تحول ولا تغير فيه. ضمن دراستنا هذه، وجدنا دلالة أسلوب الظرف «كالوعاء وحرف "في" يحمل هذا المعنى» (السامرائي، 2000م، ج3، ص57)؛ فهي قريبة من دلالة الجملة الاسمية، حيث الشك في نظام القرآن يعتبر ظرفا من وقع فيه لا مفر منه. يذهب إيزوتسو، أول من قام بتطبيق نظرية الرؤية العالمية في القرآن، إلى «أن تماسك الكلمات وترابطها في النظام اللغوي ليس أمرا عشوائيا، بل يدل على بنية مفهومية؛ فلا بد من كشفها وأن كل ترابط ضمن الحقل أساسي، من حيث إنه يمثل وجها جوهريا من الرؤية للعالم» (2007م، ص 221 ـ 222). يظهر نفس الظاهرة في الأسلوب المتشكل لحمل دلالة "زعم" في القرآن الكريم، يتردد ذكرها 15 مرة؛ أما الذي يجذب انتباه المخاطب تجالسها 7 مرات مع كلمة "شركاء" و3 مرات مع كلمة، نحو: "نادوا"، و"ادعوا"، وتكسب دلالتها من كونها متعالقة مع هذه الكلمات، نحو: «قُلِ ادْعُوا الَّذينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دونِ اللّٰه ª(سبأ 34: 22)، و«وَيَوْمُ يَقولُ نَادَوا شُرَكائي الَّذينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجيبوا لَهُمª (كهف 18: 52). كما قلنا، إن تعانق الكلمات في النظام اللغوي ليس أمرا عشوائيا، بل يسبب تشكل المباني المفهومية؛ من ثم من الضروري أن نبحث عن سبب تجالس "زعم" مع "الشركاء" و"الدعوة". إن دعوة "الشركاء" ونداءهم تذكرنا لمكان كالمحكمة لإثبات ما يدعي الشخص، فيعتبر الشركاء كوثيقة للاستشهاد بها، وإن لم يكن الشاهد الموثوق به، فيعتبر الادعاء "الزعم". نستنتج مما قيل أن الزعم تصور ليس له اعتبار ويستخدم في المجالات غير الحقيقية، والتصور الذي لا يعتمد على أساس منطقي وعقلي يدفع صاحبه إلى التردد المطلق في الأمور. وبإمكاننا أن نسميه على حسب ما قيل في القرآن "الشك"؛ بعبارة أخرى، المعرفة الناتجة من الزعم تسبب وقوع الإنسان في الشك. فخير دليل على ذلك هو كثرة تردد "الزعم" في سياق الفعل الماضي وعدم استخدامها في أسلوب النهي الذي نلاحظه في أساليب مستخدمة لكلمات أخرى كـ"حسب". أسلفنا أن استخدام أسلوب الجملة الاسمية للشك قدم لها دلالة ثابتة والوقوف في مكان دون الحركة؛ فأسلوب الفعل الماضي للزعم يحمل دلالة قريبة من دلالة الجملة الاسمية. من جانب آخر، بإمكاننا أن نعتبر أسلوب النهي ضمن الأساليب التي تتميز بالدلالة على إثارة انتباه وفكر المخاطب أو تشجيعه وترغيبه أو منعه من أمر ما، وحينما نرى أن الزعم في نظام لغة القرآن يفتقر إلى أسلوب التشجيع. كثير من كتب اللغة والمعاجم اللغوية تذكر دلالة الادعاء غير موثق للزعم؛ على سبيل المثال، نرى في كتاب التحقيق في كلمات القرآن الكريم، لحسن المصطفوي: «هو اعتقاد لا يبتني على أساس موثق، وليس بمأخوذ من مقدمات وأصول يقينية» (د.ت، ج 4، ص343). في مسير البحث عن دلالة "الزعم" في الكتب اللغوية، وصلنا إلى معنى السيادة والرياسة «أن زعيم القوم رئيسهم وسيدهم والزعامة هي السيادة والرياسة» (ابن منظور، د.ت، ص 1835). فيمكن أن نجعله كحجة لما تدل عليه المباني المفهومية ضمن الفعل الماضي. نظرا إلى هذا المؤشر الدلالي، يمكن أن نعتبره في نظام لغة القرآن تصورا يسيطر على صاحبه ويمنعه من الحركة إلى اتجاه اليقين والإيمان. مهما يكن من أمر، فـ"الزعم" في نظام لغة القرآن تعد من التصورات التي تدل على النسبة القوية من التردد والشك وقد تساوي في المفهوم مع اعتقاد الباطل. وتستخدم في المجالات التي يحمل صاحبها رأيا دون أساس منطقي وعقلي ودون اعتماد على وثائق للاستشهاد به، فنستطيع تقديم هذا المثال: "زعم الرجل كذا كذا"، يعني تصور دون أن يعتمد على العقل، حيث إنه جاهل. لتعزيز ما قيل، نستشهد بهذه الآية:« قُلْ يا أَيَّها الَّذينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَª (الجمعة 62: 6)؛ فنرى أنهم عجزوا عن تمني الموت، فأصبح زعمهم باطلا فلم يستطيعوا تقديم برهان ودليل قاطع لإثبات ما زعموا. تتشكل بنية مفهومية في نظام لغة القرآن لتحديد معرفة تدل على أمرين متضادين: 1ـ الارتياب والترديد القاطع في الحكم؛ 2ـ الارتياب والترديد المتشكل بين الشيئين. فنرى كلمة "ظن" تحمل دلالة هذا النوع من المعرفة. ومن المستحسن القول إن الظن معرفة تعكس ثنائية في المفهوم، فإما ارتياب يؤدي إلى الحكم ويوصل صاحبه إلى مرحلة الرأي والاعتقاد، وإما ارتياب يجعل صاحبه في الرجحان بين الأمرين، وفي النهاية اختيار بين الطريقين. يتواتر ذكر "الظن" في القرآن 69 مرة. وإن نمعن النظر في أساليب متشكلة لإيصال الفكر الأساسي، فنرى ثلاثة الأساليب أكثر ترددا فيه، فنتمسك بهذه الآيات كنموذج من بين عدد هائل من النماذج لوضوح الأمر: «الًّذينَ يَظنُّون أَنّهُمْ مُلاقوا رَبَّهُمْ وَأنَّهُمْ إلَيْهِ راجِعونª (البقرة 2: 46)، و«ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلّا اتَّباع الظَنِّ وَما قَتَلوهُ يَقيناًª (النساء 4: 157)، و«الظّانّينَ بِاللّٰه ظنَّ السُّوءِª (الفتح 48: 6). كما أشرنا، تحمل الأساليب المتشكلة للشك وللزعم مفاهيم تتناسب مع نسخة قوية من الجهل. أسلوب الجملة الاسمية والظرف لبيان الشك مما ساعدنا على استخراج الفكر الأساسي، فهو الوقوع في ورطة الجهل، حيث لا مفر منه؛ حينما أسلوب الفعل الماضي للزعم يقترب من مفهوم الشك. يساوي النوع الأول من دلالة الظن مع الحكم وإيصال صاحبه إلى الاعتقاد. فهذا الاعتقاد إما سينتهي إلى الباطل، وإما سينتهي إلى الحق. الاعتقاد بالباطل يتناسب مع نسخة ضعيفة من الجهل والاعتقاد بالحق مع نسخة ضعيفة من العلم؛ من ثم نستطيع القول إن الظن بالحق بني على العلم، والظن بالباطل بني على الجهل. إن كانت دلالة هذا النوع من دلالات الظن اعتقادا بالحق أو بالباطل، فأي من الأساليب تحمل هذه الدلالة؟ والجواب واضح؛ فإن الأسلوب الأول يتناسب مع هذا المفهوم. تتألف بنيته من إتيان الفعل معتمدا على المفعول، كأنه سئل ما رأيهم في هذه المسألة؛ وفي الجواب قيل مثلا: "يعتقدون أنهم يلقون ربهم في النهاية". الاعتقاد بالباطل ينتهي إلى الحكم على اللّٰه حكما باطلا، والاعتقاد بالحق يؤدي إلى الحكم للّٰه حكما حقا. النحاة يعبرون عن هذا الاعتقاد باليقين «وقد يقوي الراجح في نظر المتكلم، فيذهب بها مذهب اليقين، فتجري مجری علمت، فتقتضي مفعولين أيضا» (السامرائي، 2000م، ج 2، ص20)، و«هذا الظن يتردد بين القوة والضعف فقد يكون ضعيفا قريبا من الوهم وقد يقوي حتى يقرب من اليقين، بل يكون يقينا كما يقول النحاة» (المصدر نفسه، ج 2، ص 22). يبدو أن الظن بهذا الأسلوب ليست فيها دلالة الرجحان، بل يدل على الاعتقاد ولا يصل إلى مرحلة اليقين ودرجة اليقين فيها قليلة. أما النوع الثاني من دلالة الظن، فهو نوع من قوة التصور يملكه الإنسان ويجعله في موقف الرجحان والاختيار بين الأمرين، وهذه القوة فيها ميزة إيجابية أو ميزة سلبية. فيبدو أن الأسلوب الثاني والأسلوب الثالث أكثر تناسبا مع هذا النوع من الدلالة. يعبر القرآن الكريم عن الميزة السلبية بظن السوء وعلى حسب رؤيته أن الكافرين يختارون هذه الميزة؛ كأنهم في الطريق بين اختيار ظن السوء وظن الخير، فيفضلون السوء على الخير. الأسلوب الثاني يعتمد على تبيين أمر اختيار الظن عند الإنسان، فيحدد أن الكافرين لا يختارون إلا ظن السوء. هذا الأسلوب يعتبر عند العلماء أسلوب القصر الذي يجعل الأمر محصورا على أمر آخر. ومن الأفضل القول إن الكافرين في اختيار الميزتين من الظن لا يتبعون إلا ظن السوء. يعتمد الأسلوب الثالث على تبيين نوع الظن، فيعزز ويقوي فرضيتنا أن النوع الثاني من دلالة الظن هي قوة التصور في موقف الرجحان. هذا الأسلوب يسمى عند النحاة بأسلوب المفعول المطلق؛ فمن الممكن أن نقول إن نوع الظنّ عند الكافرين هو السوء وبني على الجهل ونوع الظن عند المؤمنين هو الخير وبني على العلم. تتألف مبان مفهومية لإيصال الفكرة الأساسية من حضور "حَسب" في نظام لغة القرآن. يتفق "الحَسب" في الدلالة على المعرفة بين الترديد واليقين مع الكلمات الأخرى في حلقة التصور؛ ولكنه يختلف عن الكلمات الأخرى في دلالات تختص به وتنتج من أساليبه مستخدمة. يتواتر حضوره في القرآن بمشتقاته الفعلية 50 مرة. فنلاحظ تشكل أساليب تتميز بها وتزيح الستار عن دلالته الرئيسة. نقدم هذا الجدول لوضوح الأكثر للمسألة ولتبيين كيفية حضوره:
وجدير بالذكر أن الفعل المضارع فيه أمر التجدد والتغير والحيوية والاستمرار، وأما «الفعل فموضوعه على أنه يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئا بعد شيء» (الجرجاني، د.ت، ص 174). أما الاسم ـ كما أوضحنا ـ فيملك دلالة الاستقرار والثبوت والسكون. الفعل الماضي تغلب فيه دلالة الاسم؛ وبعبارة واضحة، ملون بلون الاسم أكثر من الفعل المضارع. الجانب الثاني من دلالة "الحسب"، أي كثرة تواتره في أسلوب الاستفهام وأسلوب النهي، يتميز بدلالة الترغيب والتشجيع والتحول والتغيير ويجري مجرى الجانب الأول ويتكاتف معه في إيصال فكر واحد. تمثل الآيات التالية هذا النوع من الدلالة كنموذج من بين عدد كثير من النماذج: «أَيَحْسَبُ الإنْسانُ أَلَنْ نَجْمَعَ عِظامَهª (القيامة 75: 3)، و«وَلاتَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلوا في سَبيلِ اللّٰهِ أَمْواتاª (آل عمران 3: 169). انطلاقا مما راح ذكره، إن "الحسب" في نظام لغة القرآن تصور يسبب حضوره عند الإنسان تحوله وتغيير آرائه ويحركه إلى اختيار أمر الصواب والصحيح، ويوصله إلى أمر اليقين. والقول الصحيح إن الحسب معرفة يعتبر قوة مشجعة ومرغبة وفعالة للحصول على ما يستحق. يكفي كلام علماء اللغة شاهدا ودليلا لما شرحنا أن الحسب في الأصل متخذ معناه من العد والإحصاء الذي يعتبر مقدمة ووسيلة للاختبار والتعرف والدقة والنظر (المصطفوي، د.ت، ج 2، ص 247). هذه الآية «أَمْ حَسِبْتَ أنَّ أَصْحابَ الكَهْفِ وَالرَّقيمِ كانوا مِنْ آياتِنا عَجَباª (الكهف 18: 9)، شاهد على أن "الحسب" تصور يوصل صاحبه إلى الحق؛ لأن تصور النبي كاليقين. كما أسلفنا سابقا، ينشأ الهيكل الأساسي لنظام اللغة من مجموع الأساليب المتشكلة؛ من ثم نستطيع القول إن الهيكل الأساسي لحقل التصور في القرآن الكريم يحكي عن رؤيته العالمية أن معرفة التصور أمر ترتيبي؛ ومن الممكن أن يقاس بدرجات على حسب اعتماده على الجهل أو العلم. الشكل التالي يوضح بشكل كامل عما فسرنا:
الشك الزعم الظن المتشكل بين الحق والباطل الظن القاطع في الحكم الحسب اليقين كما نرى في الشكل أن الشك يقع في أعلى الدرجات في الحقل التصوري من حيث اعتماده على الجهل؛ وأما اليقين فيقع في أعلى الدرجات على حسب اعتماده على العلم. و"الحسب" ضمن أساليبه المستخدمة، أي الفعل المضارع والإنشاء، يدل على اشتداد الحقيقة والحركة وتخفف لون السكون والترديد والرجحان، وهو تصور يقرب الإنسان من اليقين ويفارقه من الشك ويحتل مكانة عالية من اليقين؛ حينما "الزعم" بحضوره في أساليبه الخاص، أي الفعل الماضي، تلونت دلالته بلون الشك ويمكن أن يبدل مكانه بعض الأحيان؛ من ثم نستطيع أن نقول إن "الزعم والحسب" من حيث دلالتهما الأسلوبية ليسا في المجموعة اللغوية الواحدة، بل يعتبران متضادين في المفهوم، كما نرى نفس الظاهرة في الشك واليقين. و"الظن" بأساليبه المتشكلة، أي التساوي التقريبي في استخدام الفعل الماضي والمضارع، يغلب عليه لون الرجحان ويستخدم في الكفتين، فإما بمعنى النسخة الضعيفة من الشك، وإما بمعنى النسخة الضعيفة من اليقين. عندما يقال: "زعم الرجل"، أي اعتمد في تصوره على أمر غير عقلي، و"ظن الرجل" أي وقف موقف الرجحان والاختيار بين الأمرين في تصوره، و"حسب الرجل" أي هو على وشك الحصول على أمر الصواب، وبمجرد التساؤل والتفكر، سيتحقق له ما يجدر. إذن تتشكل الأساليب لبيان دلالة التصور ضمن درجة اعتماده على العلم أو الجهل.
4ـ2. الأساليب المتشكلة ضمن حلقة التعقل يعتبر العقل قوة تمنع الإنسان من التورط في الخطأ (ابن منظور، د.ت، ص 3046). وقد تختلف هذه القوة والمعرفة المنتجة منها حسب اتكاء الإنسان عليها من شخص إلى آخر. ينبغي أن نذكر أن هذا النوع من المعرفة قد ينعكس على عناصر اللغة وبدراستها نحصل على كيفية تجليه فيها؛ والقرآن الكريم كنظام لغوي يصب معرفته العقلية في أطر أساليب تتشكل ضمن كلمات، مثل: "عقل، وفكر، وتدبر و...". وهذا هو السبب في إلقاء الضوء على نظام القرآن، فوجدنا أساليب تختص بهذه الحلقة وتتردد فيها أكثر؛ فنستعين بهذا الجدول لكي نبين كيفية ترددها فنكشف من خلالها الرؤية العالمية.
إن نركز على الجدول نلاحظ أن حلقة التعقل تتجلى في النوعين من الأساليب: 1ـ نوع يعتمد لإيصال المعنى على شيء جانبي؛ 2ـ نوع يعتمد على ذاته. النوع الأول ينشأ من اتكاء كلمة في البنية اللغوية على كلمة أخرى، ويحدث التماسك والتعانق بينهما؛ كأنها لا تستألف في حضورها إلا معها؛ أما النوع الثاني فيتشكل من الاعتماد على نفسه؛ بعبارة أخرى، يوصل المعنى من خلال الإمكانية التي يملكها. في الحلقة هذه، نواجه نماذج كثيرة يقدمها القرآن من الأساليب التي تتشكل من تعانق الكلمات أو من إمكانية نفس الكلمة. يتواتر ذكر "عقل" في اجتماعه مع كلمة "آية". فكثرة تكرار الأسلوب تؤدي إلى خلق فكرة حديثة، وهي أن كل الآيات في هذا العالم يمثل طريقا يؤدي إلى معرفة اللّٰه والعقل كدليل يساعد الإنسان على الوصول إليه؛ بعبارة أخرى، معرفة اللّٰه لم تتحقق إلا بالتعقل في الآيات. فبإمكاننا القول إن هذا الأسلوب والفكرة الناتجة عنه يسيطران على سائر الأساليب ويحتلان المكانة الأولى. العقل بكثرة تردده يلعب دورا محوريا في حلقة التعقل؛ وأما الفكر بكثرة حضوره في هذا الأسلوب فيشابه العقل؛ ومن الممكن أن يبدل مكان جلوس العقل في هذه البنية المفهومية المتشكلة، كما نرى في هذه النماذج: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّٰه لَكُمْ آياتِه لَعَلَّكُمْ تَعْقِلونª (البقرة 2: 224)، و«كَذلكَ يُبيِّنُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرونª (البقرة 2: 219). دراسة المباني المتشكّلة لدلالة التدبير والتدبر أوصلتنا إلى أن التدبير لا يجلس في البنية إلا مع أمر يختص باللّٰه، فإنه معرفة أو منطق لا يملكه إلا اللّٰه، كما نلاحظ في هذه الآية: «وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقولونَ اللّٰهª (يونس 10: 31). أما التدبر فيجتمع دوما مع ما يختص بالقرآن: «أفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرْآنَ ... ª(محمد 47: 24). فالنوع الأول من أساليب الحلقة يساعدنا على كشف الاختلافات المتواجدة في المفاهيم، فوجدنا أن التدبير يحمل معرفة اللّٰه، وهي تقع في قمة المعارف، ويعكس تدبير اللّٰه على القرآن؛ ومن يتفكر فيه يدركه، فعملية التفكر في تدابير اللّٰه تؤدي إلى التدبر. إذن لا يختص مفهوم التدبير إلا باللّٰه ولا يختص مفهوم التدبر إلا بالإنسان. ومن جانب آخر، نرى أن العقل معرفة تختص بالإنسان والتفكر، كأنه قوة ناتجة عن العقل ويسبب استمرار مراحل عملية العقل. يعتمد النوع الثاني من أساليب حلقة التعقل على إمكانياتها الذاتية، كما نرى أسلوب الاستفهام والنهي و... يستخدم في هذا الاتجاه. بدراسة هذه الأساليب، وجدنا أنها تمشي في مسير جعل هذه الكلمات في مجموعة واحدة من حيث الاتفاق في المفهوم، رغم أن الأسلوب الأول يمشي في مسير تحديد الاختلافات بينها. إن ننظر إلى الجدول نرى أن أسلوب الفعل المضارع ضمن النفي والاستفهام أكثر استعمالا من الأساليب الأخرى ويتكرر عند كل كلمة. لقد أسلفنا عن دلالة الفعل المضارع والاستفهام، فلا نريد إطالة الكلام، بل نكتفي بتطبيق دلالتها في هذه الحلقة. بالتركيز والتأمل على السياقات التي استخدمت فيها كلمة "عقل" و"فكر" و"تدبّر"، نلاحظ أنها تنحصر في الثلاثة: 1ـ الخطاب لإنسان مؤمن؛ 2ـ الخطاب لإنسان كافر؛ 3ـ الخطاب للإنسان مجردا عن كونه مؤمنا أو كافرا. فمن الواضح أن الخطاب ليس لإنسان زمان نزول القرآن، بل للبشرية في كل حقبة زمنية. والأسلوب الذي يتمكن في حمل هذه الدلالة فهو أسلوب النفي. يذكر عبد الواحد الوافي أن كثرة استخدام الكلمة في العبارات المنفية تنزع عنها معناها الخاص وتكسبها معنى العموم والإطلاق (1983م، ص 22)؛ من ثم نستطيع القول إن كثرة تردد الفعل في سياق النفي تجعل الكلام مفتوحا للخطاب العام ومقصدا لكل صاحب العقل. إن إتيان "عقل" و"تفكر" و"تدبّر" فعلا مضارعا يدل على اكتسابية المنطق ونموه وازدياده عند كل صاحب المنطق. ولو كان محل الفعل اسما لضاع المعنى المراد وكان يعتبر المنطق أمرا ذاتيا عند الإنسان ولا يحتاج إلى أي محاولة وحركة في الحصول عليه، فيفيد مطلق الهيئة الثابتة للإنسان، فلا قيمة للإنسان تثبت فكرته من دون تجديد. نفرض الحياة شبيهة بالشجرة وثمرها يمثل نتائج حياتنا؛ فما هو المسؤول لإنتاج الثمر الجيد؟ إن لم يعجبنا طعم الثمر فلا بد بتغيير جذور الشجرة وبذورها. الجذور والبذور تنتج الثمر؛ من ثم تغيير الظاهر والمرئي يحتاج إلى تغيير المختفي وغير المرئي، فتغيير التصرفات والظواهر عند الإنسان يحتاج إلى تغيير كيفية التعقل الذي كجذور الشجرة عنده. تساؤل الإنسان عن نفسه لكيفية تعقله وتفكره يعتبر مفتاحا رئيسا لتغيير جذوره؛ فهذا المفتاح يضاعف دافعية الإنسان ورغباته لكشف الحقيقة. والأسلوب الإنشائي القائم على الاستفهام والترجي في القرآن الكريم يعبر عن هذه الدلالة وهذا القالب الفكري، نحو: «أُفٍّ لَكُمْ ولِما تَعْبُدونَ مِنْ دونِ اللّٰهِ أَفَلا تَعْقِلونª (الأنبياء 21: 67)، و«أَوَلَمْ يَتَفَكَّروا في أَنْفُسِهِمª (الروم 30: 8)، و«أَفَلا يَتَدبَّرونَ القُرآنَ أمْ عَلى قُلوبٍ أَقْفالُهاª (محمد 47: 24). في هذه المرحلة، نقدم الهيكل الكلي والأساسي من أساليب حلقة التعقل، ونعالج الرؤية العالمية والكلية المستخرجة منها. يبدو أن هناك علاقة متواصلة بين اللّٰه والإنسان في تشكل المباني المفهومية في هذه الحلقة. فإن اللّٰه يقع في رأس هذه العلاقة، والإنسان باستعانة قوته العقلية في آيات اللّٰه يصل إلى معرفة الله. جدير بالذكر أن هذه العلاقة المتواصلة بينهما مستمرة وفعالة، ومادام الإنسان يتمسك بهذه القوة لا تنقطع عقدة وربطة هذه العلاقة. 4ـ3. الأساليب المتشكلة ضمن حلقة الإدراك الإدراك هو الحصول على معرفة الأمور ومحاولة فهمها (المصطفوي، د.ت، ج 3، ص 222). يوجد هذا المفهوم في القرآن، فتشكلت مبان مفهومية ذات أغصان ملونة وميزات مميزة، بحيث وصلت إلى قمة ازدهارها. فكلمات، مثل: "فهم، وبصر، وشعر، وفقه، وعرف، وأدرك، ورأى، واطلع و..." تتكاتف معا لإيصال الرؤية القرآنية في استخدام مفاهيم الإدراك. بدراسة هذه الحلقة، اكتشفنا أن عرف وفقه وبصر وشعر تلعب دورا رئيسا في خلق شبكات وأساليب، إما تختلف في المفاهيم مع بعض التي تؤدي إلى تقطيع الحلقة وتوسيع الإطار، وإما تتفق مع بعض في المفاهيم المشتركة التي تنسقها في الحلقة المتوحدة والإطار المتحدد، فتشكل العلاقة المتشابكة والمتماسكة بينها للحصول على الهيكل الرئيس. إن الأهمية الفائقة لكيفية تشكل الأساليب التي تسبب الاختلاف في المفاهيم، تدفعنا إلى أن نركز في البداية على دراستها، ثم نواصل بحثنا بالاهتمام بالأساليب التي تنسق المفاهيم في الإطار المحدد، فتقدم الهيكل مستخرجا من نظام اللغة. ينشأ الإدراك من الحواس ويعتمد عليها. وأما الذي يثير انتباه المخاطب فهو أن الحواس في الرؤية القرآنية لها منشآن: 1ـ حاسة تنشأ من الأمر المادي والظاهري، كحاسة السمع والبصر واللمس و...؛ 2ـ حاسة تنشأ من الأمر المعنوي والذهني، كالقلب والعقل. أسلوب مجالسة كلمة مع كلمة أخرى ومدى توترها في نظام القرآن يساعدنا على اكتشاف مفاهيم الإدراك وكيفية حضورها. يتردد "عرف" في نظام القرآن بمشتقاته الفعلية 27 مرة، وفي كل المرات تجالس مع كلمات وعبارات تدل على الآثار والعلائم؛ على سبيل المثال، في هذه الآيات: «تَعْرِفُ في وُجوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعيمª (المطففين 83: 24)، و«وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرفْتَهُمْ بِسيماهُمª (محمد 47: 30)، و«الَّذينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفونَه كَما يَعْرِفونَ أبْناءَهُمª (البقرة 2: 146). نلاحظ أن "وجوه، و"سيماء، وأبناء" أمور تدل على العلامة، كأن الوجه والسيماء و... أكثر العلائم بارزة عند الإنسان لفهم ما عنده من الميزات الباطنية، ومن جانب آخر معرفة الإنسان أبناءه أمر بارز لا يقدر أحد إنكاره، ومعرفة الكتاب أمر بارز وواضح عندهم كمعرفة أبنائهم؛ إذن نستطيع القول إن الآثار والعلائم لا تعرف إلا باستخدام الحواس الظاهري عند الإنسان وتحقق الإدراك عند الإنسان بالحواس الظاهري تطلق عليه "عرف" في نظام لغة القرآن. أما "بصر" فهو إدراك يحصل بتحديق النظر في أمر واستخدام العين للتركيز والإشراف عليه (ابن فارس، 1979م، ج 1، ص 254)؛ لذلك نرى أن إدراك البصيرة يحدث بالاعتماد على حاسة النظر. القرآن يقدم مباني مفهومية مميزة بتكرار فعل "بصر" 33 مرة وتجعل حاسة النظر والسمع منشأين لصدور إدراك البصيرة. تلعب حاسة النظر دورا مفتاحيا في هذه المباني لإيصال مفهوم البصر، كما نرى في هذه الآية: «وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يبْصِرونَ بِهاª (الأعراف 7: 179). ومن جانب آخر، نلاحظ حضور السمع حضورا متشابكا ومتماسكا مع البصر، نحو: «وَما كانوا يَسْتَطيعونَ السَّمْعَ وَما كانوا يُبْصِرونَª (هود 11: 20). كأن حاسة السمع تعد أمرا يمهد الطريق لإدراك يحدث بالتعمق في الأمور مع استخدام حاسة النظر، وتبين أن حاسة السمع لا تعتبر أمرا ممهدا لطريق البصيرة فحسب، بل قد تسهل عملية الإدراك للحصول على البصيرة. تؤدي المباني المفهومية المتماثلة من استئلاف "عرف وبصر" مع كلمة أخرى إلى أن البنية التحتية للعرف والبصر هي الحاسة الظاهرية والمادية؛ حينما نلاحظ تشكل مبان لـ"فقه، وشعر"، مستخرجة من نفس الأسلوب، أي استئلاف كلمة مع كلمة أخرى حسب كثرة ترددها؛ ولكن تنتج مفاهيم مميزة ومختلفة. يبلغ عدد توتر "فقه" 20 مرة، و"شعر" 27 في نظام لغة القرآن. فبدراسة المباني. اكتشفنا أن منشأ صدور الإدراك الحاصل منهما يتعلق بأمر معنوي والقلب يعد البنية التحتية للحاسة الباطنية. والتركيز على الآيات التي استخدم فيها "فقه"، نحو: «لَهُمْ قَلوبٌ لا يَفْقَهونَ بِهاª (الأعراف 7: 179)، و«وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِساني يَفْقَهوا قَوليª (الشعراء 26: 11)، مما يساعدنا على الوصول إلى مفهوم يميزه من مفاهيم الإدراكات الأخرى. يبدو أن الفقه ـ حسب الرؤية القرآنية ـ يعد إدراكا ينبثق من القلب وينتهي إلى فهم القول. فمن الممكن أن نقول إن العرف إدراك يستهدف فهم الآثار الخارجية بأجمعها معتمدا على جميع الحواس الظاهرية. وأما البصر فهو إدراك يستهدف، إما فهم العلائم الخارجية كآيات اللّٰه في الكون، وإما فهم المعاني الباطنية كالقيامة و...، معتمدا على حاسة النظر والسمع؛ حينما يتعلق الفقه بإدراك الكلام والقول بالتعمق فيه معتمدا على الحاسة الباطنية. إن نركز على آيات استخدم فيها "شعر"، نحو: «وَما يَخْدَعُونَ إلّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرونª (البقرة 2: 9)، و«يَأْتيهِمُ العَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرونª (النحل 16: 45)، فنرى أنه يملك أساليب تحكي عن فهم الحوادث التي تحدث فجأة في المستقبل والمعاني الباطنية والعميقة، كالموت والفساد والإضلال والمكر و.... يبدو أن هذا النوع من الإدراك العميق لا يتمتع به إلا قليل من الناس؛ لأن توقع الإنسان لما يحدث في المستقبل وترقبه واستعداده لما يقع مفاجئا وفهم معان ومفاهيم لا ترى ولا تسمع ولا تلمس أمر صعب؛ من ثم نستطيع القول إن الإدراك في الرؤية القرآنية ذو ألوان وأشكال تختلف حسب اعتماده على منشأ صدوره عند الإنسان وحسب الهدف الذي يطمح إليه. تدخل أساليب ضمن أسلوب استئلاف الكلمات لبيان أوضح وأكثر المفاهيم؛ فعلينا أن ننتبه إليها. أسلوب النفي والإثبات بين الأساليب المستخدمة وكثرة استعماله قد أثار انتباهنا، حيث نرى أن "فقه" بحضوره في أسلوب النفي تأكيد على الرؤية القرآنية أنه فهم دقيق ورقيق ولطيف ولصدوره من الحاسة الباطنية يختص بالمؤمنين باللّٰه؛ لكن الكافرين محرومون منه. أما "عرف" بحضوره في سياق الإثبات خير دليل على أن "عرف" لصدوره من الحاسة الظاهرية والمادية إدراك يتعلق بجميع الناس ولا يستثنى شخص من هذه القاعدة. إذن يبدو أن الإدراك الحاصل من الحاسة الظاهرية إطاره واسع ويشمل الناس بأجمعهم من المؤمنين والكافرين، حينما الإدراك الحاصل من الحاسة الباطنية إطاره محدد للمؤمنين باللّٰه فحسب. كما أسلفنا أن أسلوب الاستئلاف بين الكلمات له دور بارز في اكتشاف مفاهيم تسبب تقطيع حلقة الإدراك؛ ولكننا بدراستنا، واجهنا أسلوب الاستبدال الذي يؤدي إلى اتحاد الكلمات في إطار معين ومحدد. القصد من الاستبدال هو إمكانية نيابة كلمة مكان كلمة أخرى واختيارها في البنية اللغوية اعتمادا على التشابه بين الكلمات في العلائم (صفوى، 1387ﻫ.ش، ص 269). فتؤدي هذه الإمكانية إلى خلق أساليب متشابكة في إيصال فكرة واحدة وتشكل الهيكل الأساسي من مجموع الأساليب والمباني المفهومية. بحثنا عن كلمات ضمن أساليب متشابهة في العلائم والمفاهيم، فعثرنا على "العقل والتفكر والتدبر"؛ هذه الآيات التالية أكثر إيضاحا لهذه النقطة: ـ الآيتان الكريمتان «كَذلِكَ نُفَصِّل الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلونَª (الروم 30: 28)، و«وَكَذلكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرونَ﴾ (يونس 10: 24)، تساويان الآية «قَدْ فَصَّلْنا الآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهونª (الأنعام 6: 98)؛ ـ والآية الكريمة «أفَلمْ يَسيروا في الأَرْضِ فَتَكونُ لَهُمْ قُلوبٌ يَعْقِلونَ بِهاª (الحج 22: 46)، تساوي الآية «لَهُمْ قَلوبٌ لا يَفْقَهونَ بِهاª (الأعراف 7: 179). ـ والآيتان «أفلا يَتدَبَّرون القرآنَ أمْ عَلى قلوبٍ أقْفالُهاª (محمد 47: 24)، و«أفَلَمْ يَدَّبَّروا القَوْلَ ... ª(المؤمنون 23: 68)، تساويان الآيتين «جَعَلْنا عَلى قُلوبِهم أَكِنَّةً أنْ يَفْقَهوهª (الأنعام 6: 25)، و«فَما لِهولاءِ القَوْمِ لا يَكادونَ يَفْقَهونَ حَديثاًª (النساء 4: 78).
يبدو أن تواجد العلائم المشتركة في المباني اللغوية المتماثلة، أي "التعقل، والتفكر، والتفقه في الآيات، / التعقل والتفقه والتدبر بالقلب / التدبر والتفقه في الذكر والكلام"، يربط بين حلقة الإدراك والعقل، فيجعلهما في إطار، كأنهما من حقل دلالي مشترك في المفاهيم. من الأفضل أن يقال إن حلقة العقل إطارها واسع وتحتوي على مفاهيم الإدراك وتنشأ من الحاسة الظاهرية؛ فخير دليل على ذلك هذه الآية: «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلونª (البقرة 2: 171)، وكذلك من الحاسة الباطنية "... لهم قلوبٌ يَعقلونَ بها". ومن الممكن أن ينوب التدبر والتفقه في مكان بعضهما، والهدف الأساسي لهما هو الحصول على المعرفة بالتعمق في الكلام المأثور الإلهي. أسلوب ذكر حلقة الإدراك ضمن الفعل المضارع يعزز فرضيتنا، وما حصلنا عليها، كأن كلها يمشي في طريق واحد لتشكيل الهيكل الأساسي، فنرى حضور مستحكم العقل في هذه الحلقة والعلاقة الوثيقة بينهما، بحيث تشكل حلقة الإدراك ليس ممكنا إلا بتشكل حلقة العقل. تحتل هذه الحلقة مكانة ثانية بعد حلقة العلم في الحقل المعرفي، كأنها تعتبر مقدمة العلم والمعرفة التامة. 4ـ4. الأساليب المتشكلة ضمن حلقة العلم يتردد "علم" بمشتقاته مرات كثيرة، فتتشكل حلقة تحتل مكانة وسيعة، فيلعب دورا مفتاحيا في كل نظام القرآن. الرؤية القرآنية بنيت على تلازم العقل والعلم: «وَتِلْكَ الأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُها إلّا العالِمونª (العنكبوت 29: 43). بعبارة أخرى، العقل يسبب إنتاج العلم. فمن المعلوم أنه لا يمكن أن يزدهر علما وينشأ إلا بالعقل الذي يعتبر قوة مهيئة لقبول العلم. الفكر الآخر الذي يتولد من المباني هو رفض العقلية المتبعة للهوى، فنتمسك بهذه الآيات لإثبات ما أشرنا: «كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقلونَ @ بَلِ اتَّبعَّ الَّذينَ ظَلَموا أَهْواءَهُمْ بِغَيْر عِلْمª (الروم 30: 28 ـ 29). فانتقال العلم من البنية السطحية إلى البنية العمقية من إحدى الدلالات والأفكار التي تتولد في النظام اللغوي القرآني، فنرى هذه الفكرة المنعكسة في هذه الآيات: «يَعْلَمون ظاهِراً مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنْ الآخرةِ هُمْ غافِلونَ @ أَوَلَمْ يَتفَكَّروا في أَنْفُسِهم ... ª(الروم 30: 7 ـ 8)؛ من ثم العقل هو البنية الأساسية والتحتية للعلم. فهذه البنية تعد كجذور الشجرة تسيطر على النظام اللغوي، فتثمر معرفة ناضجة. نستطيع القول إن المعرفة الحقيقية تصدر من العقل وتقوي في عملية الإدراك وتنتهي إلى العلم الذي يمثل معرفة تامة وكاملة في الهيكل الأساسي للحقل المعرفي في كل نظام القرآن. مهما يكن من أمر، فإن حلقة العلم بكثرة ترددها في القرآن يفتقر إلى دراسة عميقة، فلا مجال للتفاصيل في هذا البحث. كما نشاهد في الرسم التالي، يمتلك نظام الحقل المعرفي في القرآن الكريم حلقات، وكل حلقة تمثل مستوى أو مرحلة من مراحل تطور المعرفة عند الإنسان وتدل على ترتيبية معرفة الإنسان تبدأ من مرحلة التصور وتصل إلى مرحلة العلم العميق. إن نمعن النظر في الأساليب المتواترة في حلقة التصور والتعقل والإدراك المتشكل من كلمات "شك، وزعم، وظن، وحسب، وعقل، وفكر، وتدبر، وعرف، وبصر، وشعر وفقه"، فنرى أن أسلوب الجملة الفعلية في سياق النفي والاستفهام أكثر ترددا وأن حلقة الإدراك تفوق بكثرة تواتر الفعل المضارع في سياق النفي على الحلقات الأخرى.
فيبدو أن مستويات معرفة الإنسان في الرؤية العالمية للقرآن الكريم تعتمد على مدى حيويتها وتطورها في طريق اكتشاف اللّٰه والوصول إليه، فيخدم الفعل المضارع حسب نسبة تواتره في الحلقات للدلالة عليها؛ من ثم الذين يصلون إلى حلقة الإدراك يمتلكون نسبة مرتفعة من مستويات المعرفة. كما أشرنا في أثناء البحث، أن النفي حسب سياقه يدل إما على الإطار العام ويخاطب ضمير الإنسان مجردا عن كونه مؤمنا باللّٰه أو كافرا، وإما على الإطار الخاص بالمؤمنين والمحدد لهم. إن النفي في حلقة الإدراك يدل على الإطار الخاص، كأن المؤمنين يتميزون بالنسبة المرتفعة من المعرفة.
الخاتمة يتألف الحقل الدلالي لمفهوم المعرفة في القرآن من أربع حلقات من حيث دلالتها لغوية: حلقة التصور، والعقل، والإدراك والعلم. حلقة التصور بأساليبها المختلفة تدل على الميزة الخاصة لكل كلمة؛ ومن الجانب اللغوي، يمكن أن يجعل "حسب، وزعم" في حقل دلالي واحد؛ أما دراسة أساليبهما فساعدتنا على استنتاج أنهما متضادان في المعنى. مفهوم "الزعم" بني على الجهل وقريب من مفهوم الشك؛ أما مفهوم "الحسب" فبني على العلم وقريب من مفهوم اليقين. الهيكل المتماثل من مجموعة الأساليب المتشابهة والمختلفة ضمن حلقة التصور يدل على الرؤية العالمية للقرآن، فهي تطور أمر التصور على حسب اعتماده على العلم أو الجهل. حلقة العقل بأساليبها المستخدمة تحكي عن العلاقة المتواصلة والمستمرة بين اللّٰه والإنسان، فالهيكل الرئيس المتشكّل من أساليب هذه الحلقة تبين الرؤية العالمية، وهي كون العقل كالقوة المهيأة التي تمهد الطريق للوصول إلى المعرفة الحقيقية. بدراسة أساليب حلقة الإدراك، فهمنا أن "عرف" و"بصر" إدراك يصدر من الحاسة الظاهرية والمادية عند الإنسان، حينما "شعر"، وفقه" إدراك يصدر من الحاسة الباطنية والمعنوية. فنستطيع القول إن الإدراك الحاصل من الحاسة الظاهرية إطاره واسع ويشمل الناس بأجمعهم من المؤمنين والكافرين، حينما الإدراك الحاصل من الحاسة الباطنية إطاره مختص بالمؤمنين. أما الرؤية العالمية المنبثقة من الهيكل الرئيس فتدل على أن عملية الإدراك عند الإنسان تعتبر نهرا يصب من العقل وينتهي إلى بحر المعرفة الحقيقية والتامة التي تمثلها حلقة العلم. إن دراسة الأساليب المتشكلة ضمن الحقل المعرفي في نظام لغة القرآن أدت إلى استخراج الرؤية العالمية أن المعرفة الحقيقية عند الإنسان للوصول إلى اللّٰه ذات مراحل تُصدر من العقل الفعال، فتقوى بعملية الإدراك المستمر والمتواصل، فتنتهي إلى العلم التام الذي يعتبر قمة المعرفة. مهما يكن من أمر، فإن حلقة العلم بإطارها الواسع تحتاج إلى المعالجة الدقيقة التي لا مجال للتفاصيل في هذا البحث.
[1]. Bonn Semantic School [2]. Humboldt [3]. Weisgerber [4]. Saussure [5]. Edward Sabir [6]. Benjamin Iee Whorf [7]. Hermeneutics [8]. Systemic Grammar [9]. Cognitive Linguistics [10]. Humboldt [11].Weisgerber [12].Whorf | ||||||||||
مراجع | ||||||||||
* القرآن الكريم. أ. العربية ابن جني، أبو الفتح عثمان. (د.ت). الخصائص. تحقيق محمد علي النجار. القاهرة: المكتبة العلمية. ابن فارس، أحمد. (1979م). معجم مقاييس اللغة. تحقيق عبد السلام محمد هارون. دمشق: دار الفكر. ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم بن علي. (د.ت). لسان العرب. القاهرة: دار المعارف. أبو عودة، خليل. (1985م). التطور الدلالي بين لغة الشعر الجاهلي ولغة القرآن الكريم. الزرقاء: مكتبة المنار. الأوراغي، محمد. (2010م). نظرية اللسانيات النسبية: دواعي النشأة. بيروت: الدار العربية للعلوم. إيزوتسو، توشيهيكو. (2007م). اللّٰه والإنسان في القرآن. ترجمة وتقديم هلال محمد الجهاد. بيروت: المنظمة العربية للترجمة. الجرجاني، عبد القاهر. (د.ت). دلائل الإعجاز. تعليق محمود محمد شاكر. جدة: دار المدني. جرين، جوديث. (1992م). التفكير واللغة. ترجمة وتقديم عبد الرحيم جبر. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب. الخربي، محمد. (2007م). «مفهوم اللغة في ضوء النظريات اللسانية اللغوية». علوم اللغة. ج 10. ع 3. ص 151 ـ 182. خرما، نايف. (1978م). أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة. الكويت: علم المعرفة. دي سوسور، فردينان. (1985م). علم اللغة العام. ترجمة يوئيل يوسف عزيز. بغداد: دار آفاق عربية. روبنز، ر.ه. (1997م). موجز تاريخ علم اللغة في الغرب. ترجمة أحمد عوض. الكويت: علم المعرفة. السامرائي، الفاضل. (2000م). معاني النحو. عمان: دار الفكر. العباسي، عباس ياس خضر. (2019م). «النسبية اللغوية في حقل الأنثروبولوجيا الثقافية». مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية. ع 43. ص 1974 ـ 1985. عماش، أحمد كاظم؛ ورياض حمود حاتم. (2016م). «سياق الحال في الاتجاه الوظيفي». مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية بجامعة بابل. ع 29. ص 133 ـ 139. عمر، أحمد مختار. (1998م). علم الدلالة. ط 5. القاهرة: عالم الكتب. محسب، محيي الدين. (1998م). اللغة والفكر والعالم. القاهرة: الشركة المصرية العالمية للنشر. المصطفوي، حسن. (د.ت). التحقيق في كلمات القرآن الكريم. د.م: مركز نشر آثار العلامة المصطفوي. مصطفى، عادل. (2007م). فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنوطيقا. القاهره: رؤية للنشر والتوزيع. وافي، عبد الواحد. (1983م). اللغة والمجتمع. ط 4. القاهرة: شركة مكتبات العكاظ.
ب.الفارسية ایزوتسو، توشیهیکو. (1394ﻫ.ش). مفاهیم اخلاقی ـ دینی در قرآن کریم. ترجمه فریدون بدرهای. چ 3. تهران: فروزان. پاكتچی، احمد؛ و محمدحسن شيرزاد؛ و محمدحسين شيرزاد. (1398ﻫ.ش). «بازتفسير واژگان فقر و غنا در قرآن کریم با تکیه بر زمینههای انسانشناختی ساخت مفهوم». مطالعات قرآنی و فرهنگ اسلامی. س 3. ع 1. ص 25 ـ 48. صفوی، كوروش. (1382ﻫ.ش). معنى شناسی كاربردی. تهران: همشهری. گيررتس، ديرک. (1393ﻫ.ش). نظريههای معناشناسی. ترجمه كوروش صفوی. تهران: علمی. معموری، علی. (1386ﻫ.ش). «دانش زبانشناسی و كاربردهای آن در مطالعات قرآنی». قرآن و علم. ع 1. ص 161 ـ 176.
ج.الإنجليزية إيفان وغرين Evans, Vyvyan; & Melanie Green. (2006). Cognitive linguistics. Edinburgh: Edinburgh University Press. ميلز Mills, jon. (2000). »inguistic Relativity and Linguistic Determinism: Idiom in 20th Century Cornish .«in Celtic Studies Conferenc University of Luton. لسي Locy, john. (1997). »Linguistic Relativity«. Annu. Rev. Anthropol. vol 26. pp 291 – 312. سوبيندو Subbiondo, Joseph L. (2017), »The History of Linguistics Matters: Linguistic Relativity and Integral Linguistics.« US-China Foreign Language. vol 4. pp 215 – 222. د. المواقع الإلكترونية الأورزاعي، محمد. (2017). لسانيات النسبية اللغوية. https://youtu.be/M6OVYGexKl4 | ||||||||||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 906 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 277 |