1 المقدمة
إنّ الشعر بوصفه تعبیراً إبداعیاً بلغة اللسان عن معاناة الشاعر هو الموهبة التی تختلف عن الأجناس الأدبیة الأخری. فالشاعر هو
الذی یستخدم إمکانیات اللغة بصورة مغایرة لما هو مألوف فی الاستعمال العادی ویربط بین الألفاظ علاقات غیر مألوفة مما
یسهم فی جذب المتلقی وإثارة انتباهه. ومن جانب آخر، النقد عملیة وصفیة تبدأ بعد عملیة الإبداع مباشرة وتستهدف قرا ة الأثر
الأدبی ومقاربته لتبیان مواطن الجودة والردا ة وتمیّز بین مواطن الجمال والقبح، وکذلک الطبع والتکلف والتصنیع والتصنع.
وللنقد أهمیة کبیرة، لأنه یوجّه دفّة الإبداع ویساعده على النمو والازدهار والتقدم ویضی السبیل للمبدعین ویعرّف أیضاً
الکتّاب والمبدعین بخخر نظریات الإبداع والنقد ومدارسه وتصوراته الفلسفیة والفنیة والجمالیة ویجلی لهم طرائق التجدید
ویبعدهم عن التقلید. ولقد تعدّدت المناهج التی یتّکئ علیها النقّاد فی تقویم النصّ الأدبی وحللیله وتفسیره ودراسته.
فهناک على سبیل المثال لا الحصر المنهج التاریخی الطبیعی، والمنهج الاجتماعی، والمنهج الجمالی الفنی، والمنهج التأثری
الذاتی، والمنهج الفنی الموضوعی، والمنهج البنیوی، والمنهج النفسی. ولکن النقد قد تطوّر فی العقود الأخیرة تطوّراً کبیراً وتغیّر
من حیث المنهج وزوایا النظر، حیث ظهر فی الأفق الأدبی منهج خاضع لعلم اللغة والأدب والذی ینادی باستقلال الأدب وعلمه
تحتل دراسات الأسلوب مکانة متمیزة فی « عن غیرهما من علوم الإنسان. ومن هذه المذاهب، الأسلوبیة التی قد أثارت الأذهان حیث
الدراسات النقدیة المعاصرة ویقوم کثیر من هذه الدراسات على تحلیل الأعمال الأدبیة واکتشاف قیمتها الجمالیة والفنیة انطلاقاً من شکلها
درویش، بلا تا، ص 31 (. ولکلّ طائفة من ( » اللغوی، باعتبار أن الأدب فنّ قولی تکمن قیمتها الأولى فی طریقة التعبیر عن مضمون ما
الشعرا صبغة فی أشعارهم حسب أغراض یتبعونها، فإن کلاً منها تختص بأسلوب فمثلاً لقصیدة مدینة بلا مطر ممیزات تمیّز
الشاعر بدر شاکر السیاب عن بقیة الشعرا ؛ بمعنى آخر أنّ بحثنا هذا تطرّق إلى الظواهر الأسلوبیة فی هذه القصیدة حلدیداً دون
قصائد الشاعر الأخری، بسبب ما فیها من الترابط والانسجام ووحدة المناخ الأسطوری من بدایة القصیدة إلى نهایتها. فیکون
تسلیط الضو فیها على الملامح التی کثر تکرارها، بحیث أصبحت عیّنة أسلوبیة لدی الشاعر، منها دراسة التکرار الصوتی الذی
یکون متجسّداً فی بنیة القصیدة کلها.
وتطرقنا أیضا إلى مسألة المفردات بوصفها کلمات إیحائیة ترینا فکرة الشاعر. وفی المستوی البلاغی أشرنا إلى تقنیة التشخیص
الذی یدور حول المدینة. جددر الإشارة إلى أنّ الشاعر فی کثیر من قصائده الأخیرة لجأ إلى استخدام الصور الرمزیة والأسطوریة،
حیث إنّ استخدامه للرمز فی السیاق الشعری یضفی علیه طابعا شعریا. وکان الهدف الرئیس من استخدام الصور الأسطوریة
لدیه هو تقدیم التجربة فی الصورة الرمزیة؛ لذلک نری بوضوح أن الصورة لدیه شهدت جددیداً وتغیراً. ومن أبرز ممیزاتها الخروج
عن المألوف والعدول عن حدود التناسب المنطقی بین طرفی التشبیه لاعتمادها على المفارقات اللغویة. مهما یکن من شی ،
فتستهدف هذه الدراسة وصف آلیات الإبداع فی الخطاب الشعری لدى السیاب من خلال قصیدة مدینة بلا مطر. قد أبدع السیّاب
فی هذه القصیدة وأفرغ فیها کل طاقاته الفنیة بشکل نلمح فیه اختلافا واضحا عن الاجداهات الفنیة لمعاصریه من الشعرا ؛ إذ
یجمع الکثیر على أنه قد أسّس مدرسة شعریة خاصة به. ویسعى هذا البحث إلى الإجابة عن السؤالین الرئیسین، وهما: ما هی
المیزات البارزة للمستویات الأسلوبیة فی هذه القصیدة؟ وما هی جمالیة أنماط الانزیاح والغرض الرئیسی من العدول عند الشاعر؟
أما منهجنا فی کتابة هذه الدراسة فهو منهج وصفی حللیلی یقوم على النظر والبحث فی الأسلوب الأدبی للوقوف على أسرار
التقنیات اللغویة فیه معتمداً على کتب البلاغة والنحو والنقد الأدبی الحدیث، ومن أهمها النقد الأسلوبی. واجده البحث فی
الإطارین: الإطار الأول، وهو الإطار النظری ندرس فیه مصطلح الأسلوبیة لغة واصطلاحا وأمّا الإطار الثانی، فهو عبارة
عن التطبیق العلمی لما سبقت الإشارة إلیه فی الإطار الأول؛ حیث یتم البحث فی هذه القصیدة للکشف عن أسرار البنى التحتیة
بین أبیاتها.
0 خلفیة البحث
لا شک أن السیاب شاعر کبیر. والذین کتبوا عن حیاته و شاعریته وشعره کثیرون، ومن هذه الأبحاث:
الانزیاح الدلالی فی قصیدة "رحل النّهار" لبدر شاکر =( » هنجارگریزی معنایى در قصیده رَحَلَ النَّهَار بدر شاکر السیّاب «
السیاب(، للکاتبین محمد إبراهیم خلیفة شوشتری وجواد ماستری فراهانی. وتعد المعاییر البیانیة لعلم البلاغة فی شعر السیّاب
رحل « ملمحاً للانزیاح الدلالی، حیث حاول الکاتبان دراسة هذه العناصر على أساس المحاور العمودیة والأفقیة فی قصیدة
للکاتبتین مینا بیرزاد نیا وراضیة قاسمی. هذه »" الظواهر الأسلوبیة فی قصیدة "غریب على الخلیج" لبدر شاکر السیّاب « و .» النهار
المقالة اعتمدت على منهج الأسلوبیة البنیویة وتطرقت إلى جمیع المستویات الأسلوبیة، منها: الصوت والنحو والبلاغة والفکر
لمحمد موسوی بفروئی » دراسة أسلوبیة مقارنة لقصیدتی أفسانة لنیما یوشیج وغریب على الخلیج لبدر شاکر السیاب « والمعجم. و
ومهدی شاهرخ؛ والبحث یدل على أنّ لهاتین المجموعتین تشابهات کبیرة فی الشکل، وإن کان هناک بعض الاختلافات فی
المضامین والموضوعات والمعانی.
أمّا الدراسات التی أنجزت فی الأقطار العربیة حول قصائد بدر شاکر السیاب غیر قلیل، حیث وجدنا أطروحات ومقالات
القصیدة العربیة فی موازین الدراسات اللسانیة الحدیثة « تناولت جانباً من شعره نقداً وحللیلاً. ومن بین هذه الدراسات نذکر رسالة
بحث مقدم لنیل شهادة دکتوراه علوم فی الأدب العربی، قامت بإعدادها الطالبة صفیة بن زینة من » قصیدة أنشودة المطر للسیاب
جامعة ألسانیا وهران، الجمهوریة الجزائریة، عام 3131 . فجا ت الدراسة لتطبیق عدد من المعاییر اللغویة للتمیّز فی الأدا
جمالیة الانزیاح « الشعری، وهی المستویات اللغویة الأساسیة الثلاثة: النحوی، والصرفی والصوتی. ولا یفوتنا أیضا دراسة
بحث مقدم ضمن متطلبات » الأسلوبی فی شعر السیّاب: بین لعبة الدال وإرجا المعنى مقاربة أسلوبیة تفکیکیة لنماذج شعری
التخرج لنیل شهادة الماجستر فی اللغة و الأدب العربی للکاتبة خدیجة بهلول عام 3132 ؛ کتبت هذه الرسالة فی البابین: الباب
الأول یختص بالإطار النظری ویشمل تعریفاً لأسلوب الانزیاح مفهوماً ومصطلحاً، أمّا الباب الثانی فهو یضمّ ثلاثة فصول حیث
تتحدث الباحثة عن البنى الانزیاحیة فی المتن الشعری السیابی بین إزاحة الدال ودینامیة التأویل الدلالی. لکننا لم نجد دراسات
حللل قصیدة مدینة بلا مطر من منظور الأسلوبیة. لذلک تطرقنا إلى أهم المستویات الأسلوبیة التی کثر ورودها فی القصیدة بحیث
تواترها جعلها أن یکون ملمحاً أسلوبیاً استعان بها الشاعر لیعبّر عن المعانی المخزونة فی ذاکرته.
1 نظرة عابرة إلى قصیدة مدینة بلا مطر
تشمل هذه القصیدة سمات عامة للقصیدة العربیة الحدیثة منها: التفرّد والخصوصیة، والترکیب، والوحدة الموضوعیة، والإیحا
وعدم المباشرة، واللغة الشعریة المتمیّزة. وهی من الأشعار السیاسیة الرمزیة التی تعکس شخصیة الشاعر وعواطفه الجیاشة، إذ
جدربة الشاعر فیها جدربة ذاتیة تعکس شعوراً شخصیاً عاشه الشاعر، والموضوع الشعری ذو إحساسات شخصیة ونزعة غنائیة
وجدانیة. من الناحیة الشکلیة خرجت هذه القصیدة فی إطارها العام عن عمود الشعر العربی أو الشکل التقلیدی من وحدة الوزن
والقافیة، وهی قائمة على التفعیلة ووحدة الموضوع ووحدة الجو النفسی. وهذه الوحدة نابعة من ترابط الأفکار وترتیبها، حیث
ترتبط الأبیات بعضها بالبعض، حتى بإمکاننا أن نری هذه الوحدة من عنوان القصیدة؛ فقد أطلق علیه الشاعر اسم مدینة بلا
مطر. واختیار هذا العنوان لیس اعتباطیا أو عشوائیاً، بل إنّه یناسب الموضوع.
4 حلدید المصطلح
)stylas( وهذه الکلمة تعنی طریقة الکلام مأخوذة من الکلمة اللاتینیة .)style( إنّ الأسلوب هو الذی یطلق علیه بالإنجلیزیة
بمعنى عود من الصلب مما کان یستخدم فی الکتابة، ثم أخذت تطلق على طریقة التعبیر عند الکاتب )عبد المطلب، 3114 م، ص
381 (. بمعنى آخر الأسلوب هو الکیفیة التی یستخدم فیها المبدع أداة أو طریقة تعبیریة معیّنة من بین خیارات متعددة وضمن تألیف
خاص أو هو استخدام الکاتب لأدوات تعبیریة من أجل غایات أدبیة )جیرو، 3118 م، ص 31 (. أمّا الأسلوبیة 3 فهی منهجٌ نقدی
لم یظهر « حدیث متأثر بعلوم اللغة والدرس اللسانی یتناول النصوص الأدبیة بالدراسة، وهی نشأت فی بطن الدراسات اللغویة و
إلاّ فی بدایة القرن العشرین مع ظهور الدراسات اللغویة التی قررت أن تتخذ من الأسلوب علماً یدرس لذاته أو یوظف فی خدمة التحلیل
درویش، بلا تا، ص 38 (. إنّ أهم سمات المنهج الأسلوبی استکشاف العلاقات اللغویة القائمة فی النص، والظواهر ( » الأدبی
الممیزة التی تکشف سمات خاصة فیه، ثم محاولة التعرف إلى العلاقات القائمة بینها وبین شخصیة الکاتب، الذی یشکل مادته
اللغویة وفق أحاسیسه ومشاعره التی جدعله یلحّ على أسالیب معینة، ویستخدم صیغاً لغویة تشکل فی مجملها ظواهر أسلوبیة لها
.) دلالتها فی النص الأدبی )عودة، 3114 م، ص 11
وأیّاً ما کان الأمر، فإنّ الأسلوبیة فی إجرا اتها النقدیة لابدّ فیها من اتباع مستویات لدراسة النص؛ أولها المستوی الصوتی،
وهو الذی یتناول فیه الباحث ما فی النص من مظاهر الإتقان الصوتی ومصادر الإیقاع فیه؛ وثانیها المستوی المعجمی، فیتطرق
الباحث إلى استخدام المنشئ للألفاظ وما فیها من خواص تؤثر فی الأسلوب کتصنیفها إلى حقول دلالیة ومعرفة أی نوع من الألفاظ
هو الغالب ویدرس الناقد أیضاً طبیعة هذه الألفاظ وما تمثّله من انزیاحات فی المعنى، حیث نستطیع القول إنّ المستوی الثانی فی
الدراسة الأسلوبیة یهتمّ بالألفاظ؛ ویجی المستوی الثالث من الدراسة للاهتمام بالتراکیب وتصنیفها ویکشف عن عدول الشاعر
عن النمط العادی فی رصّ الجملات بالتقدم والتأخر والحذف والالتفات. وهنا یأتی دور الأسلوبیة النحویة فی دراسة العلاقات
والترابط والانسجام الداخلی فی النص. أمّا البنیة التعبیریة الجمالیة فهی تدرس فی المستوی الدلالی فنتسا ل عمّا یوحّد کل هذه
العناصر والصور والمجازات والاستعارات؛ وآخر ما یتأمل فی الدارس الأسلوبی هو المستوی الفکری )محمود خلیل، 3133 م، ص
166 165 (. أمّا فی هذه المقالة تمّ الترکیز على أربعة مستویات للدراسة والتحلیل.
5 مستویات البحث
5 1 المستوی الصوتی
الموسیقى عنصر أساسی من عناصر الشعر وأداة من أبرز الأدوات التی یستخدمها الشعرا فی بنا قصائدهم. من بین هؤلا
الشعرا ، نجد لدى بدر شاکر السیاب حرصاً على العروض وموسیقى الشعر. فالشاعر أدرک أن] الموسیقى تمثّل رکناً مهماً وأساسیاً
1. stylistics
فی بنائه الشعری، وسبب هذا الأمر نبوغه وحسّه المرهف بالأصوات والاعتماد على ما رأیناه لدیه من إلمام واسع بالموسیقى. فقد
ظهرت الخصائص الموسیقیة عند الشاعر فی هذه القصیدة على المحورین: أولهما یمثّل فیما اصطلح علیه بالموسیقى الخارجیة،
فقمنا بدراسة هذا النوع من الموسیقى فی قصیدته من خلال وصف البحر الذی استخدمه الشاعر؛ کذلک خصائص هذا البحر
ذاته، ثم وقفنا على القافیة فتناولنا أنواعها من حیث التقیید والإطلاق وحظّ الأصوات العربیة من استعمال الروی؛ وأمّا المحور
الثانی فخصصناه لدراسة ما اصطلح علیه بالموسیقى الداخلیة، حیث درسنا هذا اللون من الموسیقى من خلال محور التکرار، وهو
الغالب فی هذه القصیدة واعتبرنا ذلک عینة أسلوبیة.
5 1 1 الموسیقى الخارجیة
علینا الإشارة إلى أن هذه القصیدة تعتمد على الأوزان الخلیلیة، ولکن من دون محافظة على البحر؛ فالتفعیلة هی الأساس؛
ولیس معنى الحرّیة فی الشعر الحر الذی یعتبر أحدث الأشکال الموسیقیة للقصیدة العربیة الحدیثة « لأن هذه القصیدة تعد من الأشعار الحرة
وإن لم یکن هو شکلها الموسیقی الوحید أنّه قد تحرر کلّیة من الالتزامات الموسیقیة فی الشکل الموروث، أو أنّه لم یعد یسمح للمتلقی بأی لون
من ألوان التوقع المنضبط الدقیق التی کان یسمح له بها الشکل الموروث، فالشکل الحر یلتزم التزاماً دقیقاً بالأساس الجوهری من أسس الإیقاع
.)161- عشری زاید، 0220 م، ص 172 ( » فی الشکل الموروث، وهو تکرار وحدة الإیقاع، وهو یلتزم بالقافیة، ولکنّه لا یلتزم فیها نسقاً ثابتاً
والشاعر یکون حراً فی استخدام التفعیلات على السطر، لذا نری أن یستفیدَ من تفعیلتین أو ثلاث أو أربع أو حتى خمس
تفعیلات.
5 1 1 1 البحر
مع زحاف العصب، وهو تسکین الخامس المتحرک. وفی » مُفاعَلَتُن « استخدم الشاعر فی هذه القصیدة، تفعیلة البحر الوافر
کتب العروض والنقد الأدبی إشارة إلى أن هذا البحر من ألین البحور یشتد إذا شددته ویرقّ إذا رققته وفیه جدود المراثی )الشایب،
علی، 1117 م، ص ( » بحر یصلح لکل أمر من شأنه استثارة السّامع أو کسبه، أو إغراقه فی الحزن حتى الفجیعة « 0211 م، ص 303 (، فهو
113 (. وهذا یلائم جدربة الشاعر الشعریة والشعوریة؛ لأنّ موضوع هذه القصیدة هو الألم والحزن وحلمّل المعاناة التی یعانیها
الشاعر فی الغربة، لهذا السبب اختار الشاعر البحر الوافر بما فیه من کثرة الحرکات والإیقاع الراکد والسریع الذی ینبعث من
زحاف العصب. إلیک تقطیع سطر من هذه القصیدة: مَدِینَتُنا تؤرّقُ لَیلَهَا نَارٌ بَلا لَهَبِ )مَ دی نَ تُ نا / تُ ؤَر رِ قُ لَی / لَ ها نا رن/ بِ لا
.) لَ هَ بی( مفاعَلَتُن / مفاعَلَتُن / مفاعَلتُن / مفاعَلَتُن )السیاب، 0210 م، ص 01
زحاف العصب، » مفاعلتن « أی یورد على تفعیلة ،» مَفَاعِیلُن « فهنا جددر الاشارة إلى أنّ البحر الوافر قد یشبه أحیاناً بحر الهزج
وهو تسکین الخامس المتحرک، ولکن إذا کانت فی القصیدة تفعیلة متحرکة الخامس، ولو مرة واحدة یقطع بأن القصیدة من البحر
،» مُفَاعَلَتُن « الوافر. إن الشاعر حفظ سیطرته على الوزن فأنهى الأبیات بأفضل شکل ممکن. اختار الشاعر لهذه القصیدة تفعیلة
فهو استطاع أن یسیطر على هذه الموسیقى حتى أواخر أشطرها أی أن التفعیلة الأخیرة لهذه الأشطر ثابتة مما اکتسبت قصیدته نبرة
وإیقاعاً رتیباً. وعلى کلّ حال، نشعر أن موسیقاها مقبولة مستساغة. وإلیک الآن بعض مقاطع هذه القصیدة:
مَدیَنتُنا تُؤَرّقُ لَیلَهَا نَارٌ بِِلا لَهَبِ مفاعَلَتُن / مفاعَلَتُن / مفاعَلتُن / مفاعَلَتُن
تحمُّ دروبَها وَالدّورَ ثُمَّ تَزولُ حمّاهَا مفاعَلَتُن / مفاعَلتُن / مفاعَلَتُن / مفاعَلتُن
وَیَصبُغُها الغُروبُ بِکُلِّ مَا حَمَلَتهُ مِن سَحَبِ مفاعَلَتُن / مفاعَلَتُن / مفاعَلَتُن / مفاعَلَتُن
فَتُوشِکُ أن تَطِیرَ شَرارَةٌ وَیَهبُِ مَوتَاها مفاعَلَتُن / مفاعَلَتُن / مفاعَلَتُن / مفاعَلتُن
صَحَا مِن نَومِه الطِّینیّ تَحتَ عَرائِش العِنَبِ مفاعَلتُن / مفاعَلتُن / مفاعَلَتُن / مفاعَلَتُن
.) )المصدر نفسه، ص 05 04
فی نهایة الشطر الذی کانت القافیة فیه، بحیث لا یوجد فیها زحاف العصب، وهو » مفاعَلَتُن « ویظهر أنّ الشاعر ینتهی بتفعیلة
تسکین الخامس المتحرک. فنجد هذه الموسیقى الرتیبة فی جمیع أشطر هذه القصیدة. تشمل القافیة أیضا الإیقاع الجاف متمثلة فی
جرس الها الممدودة والها المقیدة، وکذلک الرا المکررة. ویبقى حرف الها الذی یحمل الآهات یدلّ على الحزن العمیق الذی
یدبّ فی نفسیة السیاب. بذلک تصبح صورة المطر مرة أخرى رمزاً للألم؛ فعلى سبیل المثال، جا الشاعر فی الأشطر التالیة بالقوافی
سَحَائِبُ مُرعِدَاتٌ مُبرِقَاتٌ دُونَ إمطارِِ / قَضَینَا العَامَ بَعدَ العَامِ بَعدَ العَامِ نَرعَاهَا / وَریحٌ تُشبِهُ الإعصَارَ لا مَرَّت کإعصَارِِ/ وَلا « : المطلقة والمقیّدة
» هَدَأت نَنَامُ وَنَستَفِیقُ وَنَحنُ نَخشَاهَا / فَیَا أربَابُنَا المُتَطَلِّعینَ بِغَیرِ مَا رَحمَةْ/ عُیُونُکُمُ الحِجَارُ نُحِسّهَا تَندَاحُ فِی العُتمَةْ/ لِتَرجُمَنا بِلا نَقمَةْ
)المصدر نفسه، ص 06 (. یتحدث الشاعر فی هذه النصوص عن التجربة المفعمة بالألم؛ لذلک نری أنّ الشاعر قد اختار القافیة
وهی الوصل. ولعل الصوت المنخفض المکسور یدلّ ،» إمطارِ وإعصارِ « المطلقة متصلة بالیا الناجدة من إشباع حرکة الکسر مثل
.» رحمة والعتمة ونقمة « على الانهیار والبثّ والحزن والحرقة کما أنّ اختیار القافیة المقیّدة فی الأشطر النهائیة یتجلّى فی کلمات
عندما أنشد السیّاب هذه القصیدة کان قد سیطر علیه الحزن والحرمان، وهذا الحزن والحرمان یفهمان من عنوان القصیدة. لهذا
لیحقّق الترابط والانسجام بین ،» دون إمطار، کإعصار، غیر ما رحمة، العتمة، النقمة « السبب اختار الشاعر کلمات مثل
الموسیقى الخارجیة وغرض الشعر. ومن هذا کله یتبیّن لنا أنّ الشاعر لم یکن ینظم الشعر دون أن یشعر بموسیقاه وخصائصها.
5 1 2 الموسیقى الداخلیة
ترتبط الکلمات فی اللغة الأدبیة بالخیوط المتعددة من المحسنات البدیعیة والمعنویة أی التناسبات اللفظیة والعلاقات المعنویة
وتشکل هذه العلاقات المعنویة أو اللفظیة الانسجام والترابط بین الألفاظ وتسمى الموسیقى الناجدة عن هذا الانسجام، الموسیقى
الداخلیة )شمیسا، 3113 ه.ش، ص 81 (. إذا کان للموسیقى الداخلیة أشکال وظواهر مختلفة فی الشعر فنحن نقصد فی بحثنا هذا ما
استخدمه الشاعر من التکرار والتدویر، لأنهما عینتان أسلوبیتان فی معظم قصائده لا سیما فی هذه القصیدة.
5 1 2 1 ظاهرة التکرار
إنّ التکرار هو إعادة بعض العناصر أی الکلمة والحرف والعبارة والصیغة فی العمل الأدبی مرة أو مرات عدیدة، وهو أساس
الإیقاع بشکل عام )وهبة وکامل، 3184 م، ص 331 (. أشارت نازک الملائکة إلى هذه الظاهرة فی الشعر العربی وحصرتها فی تکرار
الکلمة والعبارة والمقطع والحرف ورأت أن أبسط أنواع التکرار تکرار کلمة واحدة فی أول کل بیت من مجموعة أبیات متتالیة فی
القصیدة، وهو لون شائع فی الشعر العربی المعاصر، یلجأ إلیه صغار الشعرا ولا یعطیه الأصالة والجمال إلا شاعر موهوب حاذق
یدرک المعول لا على التکرار نفسه، وإنما ما بعد الکلمة المکررة )الملائکة، 3181 م، ص 324 (. ظاهرة التکرار هی من أهم الظواهر
التی استخدمها الشاعر فی کثیر من قصائده. وهذه القصیدة لیست بمعزل عنها، حیث نری ذلک عینة أسلوبیة فی أشعاره. استخدم
السیاب أنماطاً مختلفة من التکرار منها تکرار اللفظ وتکرار العبارة.
5 1 2 2 التکرار اللفظی
هذا النوع من التکرار یعدّ أبسط أنواع التکرار وأکثرها انتشاراً، وهو نمط شائع فی شعر السیاب. ومن أمثلة التکرار اللفظی نجد
.) السیاب، 0210 م، ص 43 ( » عُیُونُکُمُ الحِجَارُ نُحِسّهَا تَندَاحُ فِی العُتمَةْ / عُیُونُکُمُ الحِجَارُ کَأنَّهَا لَبِنَاتُ أَسوَارِ « : هذا المقطع، حیث یقول
لیؤکد على عدم الشفقة والرحمة من جانب الحکام الظالمین. وکذلک فی مقطع ،» عیونکم الحجار « کما نری أن الشاعر کرّر لفظ
المصدر نفسه، ص 52 (. نری فی ( » وَلَکنْ مَرَّتِ الأَعوامُ کَثراً مَا حَسبنَاها ، بِلا مَطَرٍ ... وَلَو قَطرَة وَلا زَهرٍ ... وَ لا زَهرة بِلا ثَمرٍ « : آخر، یقول
لیؤکّد على خیبة أمل السیاب. » لا« هذا الشطر موسیقى داخلیة تنبع من تکرار أدات نفی
5 1 2 3 تکرار التجاور
تردد لفظتین أو جملتین فی البیت مع وقوع کل واحدة منها بجوار الأخری « لون آخر من ألوان التکرار فی شعر السیاب، المجاورة وهی
السیاب، 0210 م، 52 (. إنّ ( » قَضَینَا العَامَ بَعدَ العَامِ بَعدَ العَامِ نَرعَاهَا « : وهبة والمهندس، 3184 م، ص 111 (، حیث یقول ( » أوقریبا منها
السیاب یرید أن یصوّر انتظاره الطویل الذی یعانی منه ولا یحصل من انتظاره على شی . الملاحظ أنّ السیّاب قد قام بتکرار کلمة
ثلاث مرّات ویعود الغرض من تکرار هذه الکلمة إلى أنّ العراقیین، وإن عاشوا فی أرض فیها الرخا والخصب، لکنّهم لم » العام «
والعام کالسنة، ولکن کثیراً ما تستعمل السنة فی الحول الذی « یروا الحیاة التی تلائم شأنهم ومقامهم؛ هناک اختلاف بین العام والسنة
الراغب، بلا تا، مادة ع وم(. ( » یکون فیه الشّدة أو الجدب، ولهذا یعبّر عن الجدب بالسّنة أو العام، بما فیه الرّخاء والخصب
5 1 2 4 ظاهرة التدویر
» هی اتصال أبیات القصیدة بعضها ببعض حتى تصبح القصیدة بیتاً واحداً أو مجموعة محدودة من الأبیات المفرطة الطوال « إنّ هذه الظاهرة
)عشری زاید، 3113 م، ص 382 (، کما فی قول الشاعر :
کَ أن نَ نَ خی /لَ نَل جَر دا / ءَ أَن صا بُن/ أَ قَم نا ها مفاعَلَتُن / مُفاعَلتُن / مُفاعَلتُن / مُفاعَلتُن
لِ نَذبَ لَ تَح / تَ ها وَ نَ مو/تُ مفاعَلَتُن/ مفاعَلَتُن/ مُ
سَی یِ دُ نا /جَ فاناآ /هُ یا قَب رَه فاعَلَتُن/ مفاعَلتُن/ مفاعَلتُن
.) )السیاب، 0210 م، ص 07
وتکتمل التفعیلة فی » م « » تُ« کما نری أن هذه التفعیلة ترتبط فی الدیوان بمصطلح التدویر، حیث ینتهی الشطر الشعری ب
وهو أمر کثیر الشیوع فی الشعر الحرّ فی هذا البحر. وفی مقطع آخر، یقول : ،» فاعَلَتُن « » سَی یِ دُ نا « الشطر الثانی
نَ شی دُ هُ مُص / صَ غی رُ مفاعَلَتُن مفاعَ
قُ بو/ رُ إخ وَ تِ نا / تُ نادی نالَتُن مفاعَلَتُن مفاعَلتُن
.) )المصدر نفسه، ص 07
» مفاعَ « فی نهایة السطر. والتدویر یظهر کذلک فی نهایة السطر الأول، حیث تنتهی ب » مفاعَ « نری أن الشاعر جا بتفعیلة
وهکذا استطاع الشاعر بهذه الوسیلة البارعة أن یکسر من حدة تدفّق البیت المدور بهذه .» لَتُن « وتکتمل التفعیلة فی الشطر الثانی
الوقفات التی لا یمکن اعتبارها نهایات أبیات، وإنّما هی وقفات موسیقیة داخلیة وأن یثری کذلک الإیقاع بهذه القوافی الداخلیة،
.» مفاعلتن « فهو لا یخرج عن السیاق الموسیقی الأساسی فی القصیدة وهو بحر الوافر
5 1 2 5 التضمین العروضی
عبد ( » أن تتعلّق الکلمة الأخیرة فی البیت وهی التی تشتمل على القافیة بأوّل ما فی البیت التالی « إنّ التضمین عند العروضیین هو
علی، 3111 م، ص 381 (. وهذا ( » أو هو تمام وزن البیت قبل تمام المعنى أو هو تأخیر معنى بیت إلى آخر « ،) اللطیف، 3111 م، ص 341
لأنّهم کانوا یستحبّون أن یکون البیت کاملاً فی معناه، بل إنّهم یفضّلون أن یکون « ، الأسلوب فی شعر القدما یعدّ عیباً من عیوب القافیة
لأنّه « ، عبد اللطیف، 3111 م، ص 341 (. أمّا الیوم فإنّ هذا یعدّ مرغوباً فیه ( » کلّ شطر مستقلّاً بمعناه، ولذلک عدّوا اتصال بیت بآخر عیباً
وَسَحَّ، وَرَاءَ مَا « : علی، 3111 م، ص 311 (؛ على سبیل المثال، قال السیاب ( » یدلّ على أنّ الشاعر یقدّم وحدة عضویة کاملة غیر مقطّعة
السیاب، 0210 م، ص 31 (، کما ( »! رَفَعَتهُ بَابِلُ حَولَ حُمَّاها / وَحَولَ تُرابِهَا الظَّمآنِ، مِن عَمَدٍ وأسوَارِ/ سَحَابٌ کانَ لَولا هَذِهِ الأسوارُ رَوَّاها
عدّة أشطر » سحاب « وفاعله » سحّ « وبین الفعل ،» وسح ... سحابٌ « نلاحظ فی هذه الأشطر الشعریة، أنّ أصل الجملة فیه هو .» سحاب « والمسند إلیه » سحَّ « شعریة تفصل بین الرکنین الأساسیین المسند
إذا أمعنا النظر فی القصیدة نری أنّ نمطاً من التضمین العروضی مسیطر على جسد القصیدة، ألا وهو التضمین الثنائی. وهو
التضمین الذی یخلق وحدة ترکیبیة دلالیة بین سطرین شعریین. ویشیع هذا النوع من التضمین بشکل لافت للنظر بحیث أصبح عینة
المصدر نفسه، ص 31 (. کما نشاهد أنّ الشطر ( » وَفِی غُرُفَاتِ عَشتَارَ / تَظِلُّ مَجَامِرُ الفَخَّارِ خَاوِیةً بِلا نَارٍ « : أسلوبیة فی القصیدة کقوله
لکن المعنى لیس بکامل، بل یأتی الشطر الثانی لیتم المعنى. .» مفاعلتن مفاعلتن « الأول فیه تمام وزن البیت
استعان الشاعر بهذا النمط الأسلوبی لیخلق فی القصیدة وحدة الجوّ النفسی والوحدة العضویة، وهو کثیراً ما یستخدم
وَیَرتَفِعُ الدُّعَاءُ، کَأَنَّ کُلَّ حَنَاجِرِ القَصَبِ / مِنَ المُستَنقَعَاتِ تَصِیحُ: / « : التضمین العروضی بالتدویر أی یمزج بین هاتین التقنیتین کما قال
جا فی الشطر الثانی دون أن یکون هناک مقاطعة تفعیلیة، إلا » کأنّ « المصدر نفسه، ص 61 (. کما هو معلوم أنّ خبر ( » لاهِثَةً مِنَ التَّعبِ
» مفاعلتن « ففیه مزج الشاعر بین التدویر والتضمین والتدویر واضح فی تفعیلة ،» تصیح لاهثة « أننا نفاجأ بهذه المقاطعة فی ترکیب
کما أنّ هذه ،» لاهثةً « فی کلمة » عَلَتُن « مُ( المتصل بالفعل وتأتی بقیة التفعیلة فی الشطر التالی أی ( » الحا « التی تبدأ من حرف
وبذلک تمّ المعنى أیضاً فی الکلمة التالیة وخلق السیاب بنیة کلیة وتلاحماً بین سطور النص؛ ،» تصیح « الکلمة هی منصوب بعامل
وربّما نستطیع القول إنّ القصیدة أصبحت مجموعة من التضمینات.
5 2 المستوی الأدبی
إنّ الکشف عن المنبّهات الأسلوبیة ضمن النصّ یؤکّد على قدرة المبدع على تطویع اللغة لتتناسب تماماً مع ما یریده من معنى
فیعمد لتنویع خطابه الشعری بالانزیاحات المقصودة، إذ إن اللغة خلق إنسانی ونتاج للروح، وإنها اتصال ونظام ورموز حلمل
الأفکار وتظهر شعریة النص وقدرة المبدع من خلال عرض هذه الأفکار بنمط إبداعی یغایر النمط التعبیری العادی الذی لایحمل
أی صنعة أدبیة )درویش، بلا تا، ص 24 (. وبما أننا نبحث عن الخصائص التی تکسب النص سمته الشعریة، فإننا سندرس
الاستعارة والتشبیه والکنایة لما حلمله هذه الدوال من وظیفة توصیلیة.
5 2 1 التشخیص
إذا دققنا النظر فی هذا النص نری أنّ الشاعر استعان بالتشخیص کثیراً. وکثافتها فی القصیدة جعلتها ظاهرة أسلوبیة وقد اعتنى
الشاعر بهذا الجانب التصویری حیث شخّص المدینة التی هی ظاهرة من ظواهر الجمادات فی صورة کائن حی، وکانت هذه
الصورة الأساسیة فی القصیدة إطاراً عاماً تتعانق خلاله مع مجموعة من الصور الجزئیة التشخیصیة التی تدعم التشخیص فی هذه
الصورة الکلیة وتقویه. ورد التشخیص فی هذه القصیدة بمواطن من أبیاتها فجا ت بأجمل أسالیب البیان تصویراً، منه قول
السیاب، 0210 م، ص 01 (، فالنار عنصر سلبی یذکّرنا ( » مَدیَنتُنا تُؤَرّقُ لَیلَهَا نَارٌ بِِلا لَهَبِ /تحمُّ دروبَها وَالدّورَ ثُمَّ تَزولُ حمّاهَا « : الشاعر
فهذا التعبیر تعبیر مجازی استعاری؛ لأنّ ،» حلم دروبها « بحیوان مجترئ یسبب الضوضا والتوتر فی قلوب الناس، وکذلک تعبیر
قُبُورُ « : الشاعر أثبت الحمّى، وهو صفة من صفات الإنسان للدروب، ثم حذف المشبه وأشار بمیزته الرئیسة و هی الحمّى. ویقول
المصدر نفسه، ص 03 (. لقد ظهرت الرؤیة الجمالیة للشاعر ( » إِخوَتِنَا تُنَادِینَا / وَتَبحَثُ عَنکِ أَیدِینَا / تَهُزُّ مُهُودَنَا فَنَخَافُ وَالأصوَاتُ تَدعُونَا
من خلال هذه الصور الاستعاریة التی کانت وسیلته الدقیقة فی نقل جدربته الشعوریة إلى السامع، فقد تألف البنا الاستعاری فی
إذ انزاحت العبارات عن معانیها الحقیقیة، فالمنادی لیس من صفات ،» تدعو الأصوات « و » تبحث أیدینا « و » القبور تنادی « : قوله
القبور، وإنّما هو من صفات الإنسان؛ إلا أنّ الشاعر أراد أن یمنح القبور صفات الإنسان. فالمتلقّی یفجأ عندما یقرأ هذا الخطاب
المجازی فیدرک أنّ الشاعر فی وضع مأساوی. إنّ الوضع النفسی الممزق هو الذی جعل الشاعر یلجأ إلى هذا الأسلوب. أمّا فی
ابتعد الشاعر هنا عن لغة الخطاب الإخباری؛ لینحاز إلى أسلوب الانزیاح، فهو بدلا من أن یقول: » تبحث عنک أیدینا « : قوله
إلى بعض من أجزا جسم الإنسان، وهو الید. والقول » تبحث « بحیث أسند الفعل ،» تبحث عنک أیدینا « قال ،» نبحث عنک «
للإیذان بالفقر والجوع. کثر فی هذه » ید « بهذا الأسلوب إنّما تمّ لإظهار المجاعة التی سیطرت على مجتمعه آنذاک، وهو جا بکلمة
کَأَنَّ کُلَّ « : القصیدة نمط من أنماط الاستعارة، ألا وهی الإضافة الاستعاریة بحیث تواترها جعلها عینة أسلوبیة، منها قول الشاعر
المصدر نفسه، ص 61 (. هذا التعبیر إضافة استعاریة، لأن الشاعر شبّه القصب بالإنسان ثم حذف الإنسان وأشار إلى ( » حَنَاجِرِ القَصَبِ
میزته الرئیسة، وهی الحنجرة، والغرض من هذه الاستعارة هی عدم انسکاب المطر والقحط والجدب فی المدینة.
5 2 2 التشبیه
من السمات البارزة فی القصیدة الحدیثة أنّها لا تعبّر تعبیراً مباشراً عن مضمون محدد واضح، وإنّما تقدّم مضمونها الشعری
بطریقة إیحائیة توحی بالمشاعر والأحاسیس والأفکار ولا حلددها أو تسمیها )عشری زاید، 3113 م، ص 11 (. إنّ التشبیهات التی
جا بها الشاعر فی قصیدته هذه تلائم الجوّ الأسطوری، بحیث یصوّر للقارئ مدینة ذات طابع أسطوری یختلف تماماً عن الواقع.
السیاب، 0210 م، ( » جِیَاعٌ نَحنُ ... وَا أسَفَاه! فَارِغَتَانِ کَفَّاهَا وَقَاسِیَتَانِ عَینَاهَا وَبَارِدَتَانِ کَالذَّهَبِ « : ومن مواطن هذا التشبیه قول الشاعر
تعبیر استعاری، لأن الشاعر وصف العین » قاسیتان عیناها « ص 61 (. فاستفاد السیاب فی هذا الشطر من التشبیه والاستعارة. فتعبیر
وهی لیست لها، بل أن القساوة من صفات الإنسان. وأمّا تشبیه العین بالذهب فهو یعود إلى حالة الشاعر ،» القساوة « بصفة
الإبداعیة؛ لأنها تشبیه غریب وغیر عادی؛ ونحن نسمیه الانزیاح، لأنه مضاد لما هو معتاد، والغرض من هذا التشبیه هو
کالمشبه به لیصوّر لنا الصورة المخیفة لعشتار. والإتیان بمثل هذا التصویر هو » الذهب « الاستطراف. بمعنى آخر، جا الشاعر بلفظة
بوصفها إلهة الخصب والنما أفقدت » عشتار « انسجامه مع المناخ الأسطوری السائد فی جسد القصیدة مما یدل على أنّ شخصیة
مضمونها الرئیس وسیطر على المدینة الظلم والمجاعة. إنّ التشبیه الآخر الذی استعان به الشاعر فی هذه القصیدة قول الشاعر:
المصدر نفسه، ص 12 (. فهذا التعبیر تشبیه بلیغ، لأنّ الشاعر شبّه عیون الأمرا بالحجر بما فیه من ( » عُیُونُکُمُ الحِجَارُ کَأَنَّهَا لَبِنَاتُ أَسوَارِ «
القساوة وکرّر هذا التعبیر لیشیر إلى عدم الشفقة والرحمة من جانب هؤلا الحاکمین المستبدّین. من زاویة آخری، نری فی هذا
الشطر استطراداً تشبیهیاً؛ لأنّ الشاعر شبّه العیون تارة بالحجر وبعده شبّه بالرحى وتارة أخری شبّه باللبنة لیؤکد غرضه الرئیسی،
وهو ظلم الظالمین وقساوتهم.
5 2 3 الصورة التنافریة
نوع من الخطاب الذی یجمع بین المتنافرات، أو هی بصورة أکثر جلاءً تربط الکلمات المتضادة والمعانی « یمکن تعریف الصورة التنافریة بأنّها
علیمات، 3114 م، ص 131 (. وتعتمد الصورة التنافریة فی بنائها على ( » الضدیة أیضاً لإحداث تأثیرات خاصة کما فی قولنا: إنّه لص أمین
قانون الاستبدال الاستعاری وظهور التنافر بین المسند والمسند إلیه، لذا یقول کوهن: وفی بعض الجمل ینفی المدلول ما یؤکده
الدال، بحیث یصبح التعبیران غیر متعادلین، فالأول یؤکد العلاقة بین وجهی الدال والمدلول، فی حین یؤکد التعبیر المنفی على
» مَدیَنتُنا تُؤَرّقُ لَیلَهَا نَارٌ بِِلا لَهَبِ « : المدلول الذی یذهب بالدال فی الاجداه المضاد له )کوهن، 3111 م، ص 333 (. یقول السیاب
)السیاب، 0210 م، ص 01 (. واللهب کما هو معلوم هو اشتعال النار حین یخلص من الدّخان، ولهب النار هو لسانها وهذه النار
الضئیلة الخالیة من اللهب لا یمکن أن تؤثر تأثیراً کبیراً فی المدینة، بینما نری أنّ الأبراج أصیبت بالحمّى بسبب هذه النار. ویقول
المصدر نفسه، ص 31 (. إنّ هذه الریح تشبه الإعصار، لکنّها لیست قویة ولا ( » وَریحٌ تُشبِهُ الإعصَارَ لا مَرَّت کإعصَارِِ/ وَلا هَدَأت « : أیضاً
تنثر معها التراب ولیس لها دوائر. وهذا یدلّ على أنّ کلّ شی فی هذه المدینة أفقد میزته الرئیسة.
5 2 4 توظیف الأسطورة والتراث
تشکل الأسطورة رموزاً قائمة على عملیة تولید فنی تلقائی، تمتزج فیه آفاق الشاعر بروح عوالم المیثولوجیا، التی تعد منبعا
خصبا للخیال الشعری بما حلتویه من مضامین جدیدة یثری العمل الأدبی ویضفی علیه دما جدیدا یعکس النظرة الإنسانیة للحیاة
بکل تناقضاتها الحادة وصولا إلى عالم یفجره الاستلهام ویصوره التوظیف الأسطوری )علی، 3118 م، ص 33 (. إنّ الأسطورة،
باعتبارها حکایة أو روایة شعبیة أو إنسانیة متصلة بحیاة إحدى الأمم، تهدف إلى التعبیر عن بطولة أو قیمة لها أثرها فی نفوس
الناس )حجازی، 3113 م، ص 31 (، کما تعدّ لدى البعض الآخر أکثر الغوامض إثارة یلجأ إلیها الشعرا لتحقیق أحلامهم
والتعبیر عن تطلعاتهم الفنیة والفکریة وإثرا جداربهم الشعریة، لأن اللغة فی استعمالها الیومی المعتاد تفقد بالضرورة تأثیرها وتشح
.) بنضارتها )مبارکی، 3111 م، ص 311
إذن الأسطورة هی عبارة عن حکایة تاریخیة تعود إلى حضارة قدیمة وتلخص فکرة ما یتخذها الشاعر للتعبیر أو الإیحا ؛ أی
الأسطورة رمز للخصب، الأسطورة رمز للحریة والأسطورة رمز للجمال. والسیّاب یعدّ أحد الرواد فی استخدام الرمز
والأسطورة، وهو کان کلفاً باستخدام الشخصیات الأسطوریة فی معظم قصائده دون أن یجترّ الصور المبتذلة والحسیة. قد خلّف
السیاب فی هذه القصیدة الأسطورة ورموزها وجعلها عماداً لبنیته الشعریة، بحیث یمکن القول إنّ جمیع الصور الشعریة
ذات مصادر أسطوریة، تتلاحق الواحدة تلو الأخری لخدمة موضوعه الشعری الذی هو » مدینة بلا مطر « والإشارات فی قصیدة
الموت والیباب.
التی هی العراق، أو هی الأمّة کلها، ویرسم صورة تلک المدینة، فیقول فی مفتتح ،» بابل « یبدأ الشاعر القصیدة بتصویر مدینة
السیاب، ( » مَدیَنتُنا تُؤَرّقُ لَیلَهَا نَارٌ بِِلا لَهَبِ /تحمُّ دروبَها وَالدّورَ ثُمَّ تَزولُ حمّاهَا / وَیَصبِغُهَا الغُروبُ بِکُلِّ مَا حَمَلَتهُ مِن سُحُبٍ « : القصیدة
0210 م، ص 04 (. إنّ التصویر الذی جسّدها الشاعر حول هذه المدینة هو تصویر مزدحم بالوحشة والرعب والغرابة. والقارئ
یظنّ أنّ هذه المدینة تنتسب إلى عالم الأساطیر بسبب ما فیها من الأبراج والأسوار المحترقة، وهذه الصورة التی رسمها الشاعر
جعلت الواقع یتداخل بالحلم أو الحلم بالواقع ویکاد تدفق الصور وتراکبها وتتابع الأجواء وتداخلها، یفقد الجمل والعبارات سیاقها المنطقی ویجعل «
علی، 3118 م، ص 11 (. وهذه المدینة التی لصقت بها النار هی ( » دلالاتها المعنویة مشاهد من حلم لا ینتظمها سیاق تام أو منطق ظاهر
بابل المدمرة التی تعانی الوحشة لأنّ تموز إله الخصب والحب میت ومدفون فیها، وبابل هی رمز لبغداد التی کانت فی الماضی
صَحَا تَمُّوزُ عَادَ لِبَابِلَ الخَضرَاءِ یَرعَاهَا / « : خضرا ؛ لکنّها أصبحت أرضاً قاحلة ومجدبة واستمرّ الشاعر فی حدیثه عن المدینة ویقول
» وَتُوشِکُ أن تَدُقَّ طُبُولُ بَابِلَ ثُمَّ یَغشَاهَا / صَفِیرُ الرِّیحِ فِی أبرَاجِهَا وَأنینُ مَرضَاهَا / وَفِی غُرُفَاتِ عَشتَارِ / تَظِلُّ مُجَامِرُ الفَخَّارِ خَاوِیةً بِلا نَارٍ
)السیاب، 0210 م، ص 31 (. فی هذه الأشطر الشعریة نری أنّ تمّوز إله الخصب والنما استیقظ من نومه، إلا أنّ هذا الاستیقاظ
لم یکن کافیاً؛ لأنّ مانعاً یمنع ذلک. إذا أمعنّا فی هذه المقاطع الشعریة نری أنّ التقنیات الأسطوریة واضحة کل الوضوح بسبب
ووجود .» مجامر الفخار « و » غرفات عشتار « و » أبراجها « و » تدق طبول « اختیار الشاعر المفردات التی تشیر إلى عالم الأساطیر مثل
هذه المفردات تدل على وعی الشاعر باللغة المناسبة مع الجو الأسطوری.
5 2 5 الانزیاح الأسطوری
إنّ الانزیاح الأسطوری هو تقنیة أخری نجدها فی هذه القصیدة. والغرض منه هو تصویر الشخصیات الأسطوریة بغیر ما
بحیث تبدو ذات ملمح جدید على الضد من مضامینها القدیمة الأولى، وبشکل یتخذ الرمز فیها حالة مغایرة عما کان علیه الترمیز « ؛ یستحق لها
علی، ( » فی واقع تکوینها البدائی، الأمر الذی یجعل من تلک الرموز تبدو وکأنّها خلو من خاصیة الامتلاء التی یطمح إلیها الشاعر المعاصر
3118 م، ص 313 (. قد یلجأ السیاب فی هذه القصیدة إلى قلب المضامین الأسطوریة. وتدلّ هذه التقنیة على أنّ الفجیعة التی یعانی
منها الشاعر أشد هولاً وأعمق تأثیراً. إنّ عشتار هی إلهة الخصب والنما ؛ إلا أنّها صارت إلهة الدم والمجاعة، حیث یقول
.) السیاب، 0210 م، ص 61 ( » جِیَاعٌ نَحنُ ... وَا أسَفَاه! فَارِغَتَانِ کَفَّاهَا وَقَاسِیَتَانِ عَینَاهَا وَبَارِدَتَانِ کَالذَّهَبِ « : الشاعر
إلهة الخصب صارت إلهة الدم؛ لأنّ کفّیها فارغتان ولها عینان باردتان. وکما هو المعلوم أنّ العین لا » عشتار « والملاحظ أنّ
یمکن أن تکون قاسیةً، بل القلب هو القاسی، وکذلک تشبیه العین بالذهب فی البرودة هی تشبیة غریب لا یمکن أن نجد بینهما
وجه شبه منطقیا. اختار الشاعر هذا التشبیه الغریب لیشیر إلى شدّة الغرابة والوحشة التی سیطرت على المدینة؛ لأنّ أهل بابل
إعمار المدینة وتوفیر الرّخاء والازدهار « بغداد اعتادوا أن یروا عشتار دائمة الهبات والعطا ، وأنّهم عرفوها أکثر نبلاً وحرصاً على
.) عبد الواحد، 1173 م، ص 6 ( » لسکانها
وهکذا یستمر تتابع الجمل یغلب علیها التقریر بما أنها خبریة تتالى لتحیل دلالاتها إلى الظلام والمرض والحجر والجوع والغربة
والتضرع بضعف، وکله انقطاع عن الصورة الطبیعیة للحیاة، فضلاً عن الانقطاع عن نصّ الأسطورة وإن ظل معلقاً بها، ویشیر
» الها والرا « إلى رموزها عشتار وتموز وبابل کما حلیل القوافی إلى تکریس إیقاع یحیل إلى الضعف والموت، حیث اشترک کلّ من
عندما تتالت الألف والها والألف، أو المیم والها ، أو الرا والها ، إذ حلیل » آها « فی خلق هذا الإیقاع، وهی إما تأتی بصیغة
إلى مقاربة للآه وهی صوت الألم، فضلاً عن المدّ الذی لحقه لیؤکد على الانسحاق وإظهار الضعف، وکذلک هو » آها « الأولى
بتفعیلته » الوافر « الوقف على الها فی بقیة القوافی، ففیه صیغة التوجع؛ کما أن البحر الذی جا ت علیه القصیدة، وهو
وبإیقاعه الغنائی جعل النص یشبه ترتیلة محمولة على التضرع للآلهة عشتار، مشبعة بالخوف المقرون برغبة عارمة » مفاعلتن «
للحیاة، وإن بدا الموت هو الذی یموج على سطحها.
5 0 6 المزاوجة بین الأساطیر
لا شک أنّ خصائص استخدام السیاب للأسطورة تنطوی على قدرته الفاعلة وسعة اطلاعه، حیث إنه یعمد فی استلهاماته إلى
أن یعطی قوّة اللمح الشعری أکثر دفقاً فی الانفعال والحرکة، وخااصة حین یجعل التجربة الشعوریة ولیدة استکشافات إنسانیة
متعددة، جدمعها رغبة الارتفاع بالحالة الراهنة إلى درجة الاتقاد والتفجیر. لهذا تعنی بعض جداربه الشعریة فی توظیف الأسطورة
بظاهرة مزج بعض الأساطیر التی یمکن أن تعبّر عن حالة معیّنة )علی، 3118 م، ص 314 (. إذا نظرنا إلى هذه القصیدة نری أنّ
فی ثقافتین مختلفین مزاوجاً بینهما وهما تموز بابل إله الحبّ والنما وتموز الإغریق یسمّى بأدونیس الذی » تمّوز « الشاعر یتحدث عن
کان یقوم باصطیاد خنزیر متوحش، ففتک به هذا الخنزیر. فی هذه القصیدة یتحدّث الشاعر عن هذا الخنزیر، إلا أنّه لا یصرّح
لَهُ الوَیلاتُ مِن أسدٍ نُکابدُ شِدقَه الأدرَد/ أنارُ البرقِ فی عَینَیه أم مِن شُعلةِ المَعبَد/ أفی عَینَیه مِبخَرتانِ أوجَرتا لعُشتار/ « : باسمه حیث یقول
کما هو المعلوم أنّ الشاعر هنا یزاوج بین أسطورتین فی محاولة لرسم صورة البطل المنقذ، ویفید من ». أنافِذَتان مِن مَلَکوتِ ذاکَ العَالمِ الأسوَد
لأنّ تمّوز الذی جرحه الوعل أو الخنزیر البرّی هو أدونیس بطل الأسطورة الإغریقیة، ولیس تموز دموزی « ؛ الأسطورة الإغریقیة إضافة إلى البابلیة
» نار البرق فی عینیه « أطیمش، 3183 م، ص 344 (. وشحن الصورة بکل الکلمات التی توحی بالجو الأسطوری أیضاً ( » البابلی
الذی هو العالم الأسفل. وإذا تابعنا الصورة التی صوّرها الشاعر فی » العالم الأسود « و » مبخرتان أوجرتا « و » شعلة المعبد « و
سَیّدُنَا جَفَانَا، آه یَا قَبرَه / أمَا فِی قَاعِک الطِّینِی مِن جَرّة « : القصیدة نری أنّه جا بموروث فکری عرفه عن العراقیین القدما ، حیث یقول
ندرک أنّ السیاب جمع مادتها مما عرفه عن « السیاب، 0210 م، ص 01 (. وفی هذه الأشطر الشعریة ( » / أمَا فِیهَا بَقَایَا مِن دِمَاءِ الرَّبِّ أو بَذرَة
العراقیین القدماء الذین کانوا یدفنون مع موتاهم آنیتهم وشیئاً من زادهم لأنّهم کانوا یتصوّرون أنّ الموتى یحتاجون لمثل هذه اللوازم فی عالمهم
الآخر، أو عند بعثهم، وربّما استقاها من الأساطیر التی تقول أنّ حدائق تمّوز کانت تملأ بالتراب وتزرع فیها بذور القمح والشعیر والخس وألوان
.) المصدر نفسه، ص 143 ( » من الزهر وتعنی بها النساء
5 2 7 ظاهرة التناص
ابن منظور، بلا تا، ( » یقال هذه الفلاة تناص أرض کذا، وتواصیها أی تتصل بها « : ترد کلمة التناص فی لسان العرب بمعنی الاتصال
تشکیل نصّ جدید من نصوص سابقة أو معاصرة، بحیث یغدو النّص المتناصّ خلاصة لعدد من النصوص التی تمحی « مادة ن ص ص(، وهو یعنی
» الحدود بینها، وأعیدت صیاغتها بشکل جدید، بحیث لم یبق من النصوص السابقة سوی مادتها. غاب الأصل فلا یدرکه إلا ذوو الخبرة والمران
)عزّام، 3113 م، ص 31 (. امّا بالنسبة لهذه القصیدة فنرى أن الشاعر استعان بتقنیة التناص مباشراً، وهو اجتزا قطعة من النص
أو النصوص السابقة ووضعها فی النص الجدید بعد توطئة لها مناسبة جدعلها تتلا م مع الموقف الاتصالی الجدید وموضوع النص
السیاب، 0210 م، ص 34 (. وفی هذا ( » سَحَائِبُ مُرعِدَاتٌ مُبرِقَاتٌ دُونَ إمطَارِ « : )محمد شبل، 3111 م، ص 11 (، حیث یقول الشاعر
الشطر تناص مع قول أبی العلا ، حیث یقول:
سَحَائِبُ مُرعِدَاتٌ مُبرِقَاتٌ
لِمُهجَةِ کُلِّ حَیِّ مُوعِدَاتُ
.) )المعری، بلا تا، ص 314
إذا کان أبو العلا یقول عن العقم الحقیقی، فهو یتکلم عنه مجازاً. و فی هذا الطریق السحائب رمز للثورة التی ارتقبها الناس
مدة طویلة وتلک السحب المبرقة إشارة إلى انتفاضات الشعب العراقی الکثیرة التی لم حلقق الثورة. علاوة على التناص المباشر،
استعان السیاب بنوع آخر یعود إلى المضمون، وهو ما سمّی بالتناص الداخلی، وهو الذی یستنبط من النص استنباطاً ویرجع إلى
تناص الأفکار أو المقرو الثقافی أو الذاکرة التاریخیة التی تستحضر تناصها بروحها أو بمعناها لا بحرفیتها أو لغتها وتفهم من
تلمیحات النص وإیما اته وشفراته وترمیزاته )محمد شبل، 3111 م، ص 81 (. ویحاول النص أن یقدم اقترانا لموتیفة الخصب والجدب
السیاب، ( »؟ فَیَا آبَاءَنَا، مَن یَفتَدِینَا؟ مَن سَیُحیِینَا؟ وَمَن سَیَمُوتُ: یُولمُ لَحمَه فِینَا « : مرة مع قصة بعث السید المسیح فی قصة العشا الربانی
0210 م، ص 36 (، ومرة مع الدیانات الفارسیة القدیمة التی نجد فیها أیضا التأصیل لفکرة العالم الأسفل فی الصراع بین النور
المصدر نفسه، ص 11 (، وهذا هو عقیدة المانویة الذین ألّهوا النور والظلمة، فالنور ( » بَطِیءٌ مَوتُنَا المُنسَلُّ بَینَ النُّورِ وَالظُّلمَة « : والظلمة
إله الخیر والظلمة إله الشر عندهم.
5 3 المستوی النحوی
تلعب ثلاث تقنیات دوراً رئیسیاً فی الأسلوبیة النحویة، وهی السیاق 1 والانحراف 0 والاختیار 3. یهتمّ الدارس الأسلوبی فی هذا
المستوی بالتراکیب وتصنیفها ویکشف عن عدول المؤلف عن النمط العادی فی رصّ الجملات بالتقدّم والتأخّر والحذف والالتفات.
- وهنا یأتی دور الأسلوبیة النحویة فی دراسة العلاقات والترابط والانسجام الداخلی فی النص )محمود خلیل، 3133 م، ص 322
321 (. أمّا الجوانب التحویلیة التی قمنا بتحلیلها فی هذه الدراسة فهی الاعتراض والتقدیم والتأخیر.
5 3 1 الاعتراض
العسکری، 3112 م، ص 121 (، وینقله ( » الاعتراض کلام فی کلام لم یتم، ثم یرجع إلیه فیتمه « : یعرفه أبو هلال العسکری بقوله
أن یکون الشاعر آخذا فی معنى، فیعدل عنه إلى غیره قبل أن یتم الأول، ثم یعود فیتممه فیکون فیما عدل إلیه « حسن طبل عن الحاتمی هو
طبل، 3118 م، ص 311 (. فهو نوع آخر من فکّ المجاورة فی البنا الترکیبی للجمل وانزیاح ( » مبالغة فی الأول، وزیادة فی حسنه
یضفی على الرسالة میزة أسلوبیة یلتذ بها القارئ. وقد سمّاه البلاغیون بأسما عدیدة وعرفوه بتعاریف مختلفة، وحدّدوا وظیفته
وهی إمتاع المتلقی وجذب انتباهه بتلک النتوءات أو التحولات التی لا یتوقعها فی نسق التعبیر... لأن الکلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب «
المصدر نفسه، ص 32 (. ویمکن أن یکون فی ( ». کان ذلک أحسن تطریة لنشاط السامع، وإیقاظا للإصغاء إلیه من إجرائه على أسلوب واحد
أی مکان من الجملة بین متلازمین، کالمبتدأ والخبر أو الشرط وجوابه أو الصفة وموصوفها أو الفعل وفاعله ومفعوله. وهو
بذلک الدخول المفرق بین المتلازمین یحدث الانزیاح، ومن ذلک:
5 3 1 1 الاعتراض بین المبتدأ والخبر
نَموتُ، وأنتِ وا أسفاه « : کثیراً ما نری أنّ الشاعر یلحّ على الفصل بین الأشیا المتلازمة، ومثال ذلک الفصل بین المبتدأ والخبر
غیر أن الجملة المعترضة، وهی متشکلة من حرف ندا مختص » أنتِ قاسیة « السیاب، 0210 م، ص 02 (. فالأصل ( » قاسیةٌ بِلا رَحمهْ
بالندبة، جا ت للتعبیر عن تفجّع الشاعر وتوجّعه لأنّ إلهة الخیر وهی عشتار لیست فی مظهرها الدائم ولیس بإمکان الشاعر أن
یتمنّى منها الخیر.
5 3 1 2 الاعتراض بین الفعل والفاعل
من أشکال الاعتراض فی الجملة الفعلیة، اعتراض الکلام بین الفعل والفاعل، هذا الاعتراض یکثر بالظرف کقول الشاعر:
المصدر نفسه، ص ( »! وَسَحَّ، وَرَاءَ مَا رَفَعَتهُ بَابِلُ حَولَ حُمَّاها / وَحَولَ تُرابِهَا الظَّمآنِ، مِن عَمَدٍ وأسوَارِ/ سَحَابٌ کانَ لَولا هَذِهِ الأسوارُ رَوَّاها «
وما یتعلّق به من فعل بمعنى آخر. إنّ أصل الجملة هو » ورا « 03 (. فی هذا البیت نجد الاعتراض فی الشطر الأول، قد جا بالظرف
قد فصلت ثلاث أسطر شعریة تقریباً. والغرض من هذا الاعتراض هو » سحاب « والفاعل » سحّ « فبین الفعل » وسحّ سحاب «
وهی رمز للعراق من الحمّى والظمخن والأسوار التی ترمز للجهل السائد فی المجتمع العراقی. وإذا دققنا ،» بابل « تضخیم ما عانته
1. context
2. deviation
3. selection
وصفته » سحاب « النظر نری أنّ الشاعر جا بالجملة الاعتراضیة الشرطیة بین عنصرین متلازمین آخرین، وهما الموصوف
والغرض من هذا الاعتراض هو الترکیز على الجهل الذی لا یسمح للشعب العراقی أن یتحرر من عبودیة الاستعمار ،» رواها «
ترد فی جمل معترضة شرطیة، وهی جملة بنیت على حرف امتناع » ولولا هذه الأسوار « والاستبداد. وکما هو المعلوم أنّ جملة
لوجود لیؤکّد على أنّ السحاب لا یروی المدینة طالما بقیت هذه الأسوار الجهل السائد مسیطرة على عقول الشعب العراقی
وقلوبهم. إذا أمعنا النظر فی هذه القصیدة نواجه عنصراً آخر من الجمل الاعتراضیة، وهی التسلسل الاعتراضی؛ وهو یعنی أنّ
الشاعر یلجأ إلى استخدام هذه الجمل فی أشطر متعددة أی تلاحم أسطر شعریة عدّة یؤدّی إلى مثل هذا الاعتراض والسیاب فی
فَیُوشِکُ أن یَفتحَ وَهی تُومضُ حَقلَ نوَّار / وَرَفَّ، کأنَّ ألفَ « : أحیان معیّنة یسلسل الجمل الاعتراضیة واحدة بعد الأخری کما فی قوله
.) المصدر نفسه، ص 50 ( » فَراشَةٍ نَثَرَت عَلَى الأفُقِ / نَشیدَهُم الصَّغیرَ
5 3 1 3 الاعتراض بین الفعل ومفعوله
راشَةٍ نَثَرَت عَلَى الأفُقِ / نَشیدَهُم الصَّغیرَ
5 3 1 3 الاعتراض بین الفعل ومفعوله
السیاب، 0210 م، ص ( » فَوَفَّینَا وَمَا وَفىََّّ لَنَا نَذرَه « : وهو یعنی أنّ الجملة الاعتراضیة تقع بین الفعل ومفعوله، کقول الشاعر
33 (. وفی هذا إشارة إلى عدم تأثیر تموز فی المدینة. وهناک أیضاً أسلوب آخر، وهو أنّ الشاعر یأتی بالجملة المنفیة تتعارض مع
.) المصدر نفسه، ص 04 ( » بِأیدِینَا، بِمَا لا تَفعَلُ الأیدِی، بَنَینَاهَا « : الفعل وتطابقه، کما قال
وهذا شکل انزیاحی أساسه هو الحالة الإبداعیة للشاعر حین إنشاد الشعر، وهو ینبنی على المفارقة الواضحة، بحیث جا ت
هذه الجملة الاعتراضیة خارقة للقاعدة شکلا ومعنى. وللسیاب دوما اهتمام بالغ بالمفارقة ورمزیتها، وفی هذا الشطر أفاد
الاعتراض تخصیص عدم الاختیار وعدم التفکر فیما یخص بالشعب العراقی فی مستقبلهم؛ لأنّهم بنوا لبنات الأسوار أمام
مدینتهم وحصروا أنفسهم فیها.
5 3 2 التقدیم والتأخیر
یعدّ التقدیم والتأخیر من أهم المیزات الأسلوبیة، ولیس ذلک لکون تقدم شی بعینه عن شی آخر، بل للدور الدلالی
والجمالی الذی یلعبه هذا الخرق من التقدیم والتأخیر، لأن ما یکون تقدیما فی لغة ما مثلا، قد یکون الأصل فی لغة أخرى. وقد
ففی الإنجلیزیة مثلا، تقدیم الصفة شیء عادی، ومن هنا لا تترتب علیه أی خصائص أسلوبیة، ... فلیست « : أشار إلى ذلک کوهن، إذ یقول
کوهن، 3111 م، ص 331 (. وقد جا ( » موقعیة الصفة فی ذلک، إذن هی المسئولة عن الخاصة الأسلوبیة المنتجة، بل کونها غیر عادیة
جِیَاعٌ نَحنُ ... وَا أسَفَاه! فَارِغَتَانِ کَفَّاهَا « : التقدیم والتأخیر فی هذه القصیدة على صور متعددة، منها تقدیم الخبر على المبتدأ فی قوله
السیاب، 0210 م، ص 61 (، کما نلاحظ أنّ الشاعر قدّم الخبر فی هذه الأسطر الشعریة على ( » وَقَاسِیَتَانِ عَینَاهَا وَبَارِدَتَانِ کَالذَّهَبِ
هو الغرض المتعمد بالذکر، » جیاع، فارغتان وقاسیتان « والتقدیم دلیل على أنّ المقدّم ،» جیاع، فارغتان وقاسیتان « المبتدأ وهو
لکانت جملة تولیدیة اسمیة لا ترکیز فیها على أیّ جز من أجزا » نحن جیاع « وإنّما الکلام سیق لأجله. ولو کانت الجملة بصورة
للترکیز علیه ولإظهار عنایته واهتمامه به، » جیاع « المعنى وهدفها هو الإخبار لا غیر، ولکن قصد الشاعر هنا نقل الخبر وهو
هو خبر مقدّم لغرض التوکید. ومنه أیضاً تقدیم الجار والمجرور على » جیاع « لذلک قدّم ذلک الجز فیدرک السامع المعنى الجدید، ف
.) المصدر نفسه، ص 04 ( » بِأیدِینَا، بِمَا لا تَفعَلُ الأیدِی، بَنَینَاهَا « : عامله کقوله
من الموقع العرفی اللغوی إلى موقع جدید منزاح عن » مورفیم « إنّ الترتیب عنصر من عناصر التحویل وهو یعنی انتقال کلمة
هی جملة » بنیناها بأیدینا « القاعدة النحویة مما یؤدّی هذا الانزیاح إلى تغییر نمط الجملة الرئیس حتى یحمل معنى جدیداً. فجملة
تولیدیة فعلیة لا ترکیز فیها على أیّ جز من أجزا المعنى وهدفها نقل الخبر من صورته الذهنیة فی ذهن المتکلم إلى صورة
فونولوجیة منطوقة تقع على سمع السامع فیدرک المطلوب منها وهو الإخبار لا غیرُ، ولکن الشاعر هنا قدّم فضلات الجملة،
جار ومجرور متعلقان بالفعل، فهی جملة حلویلیة فعلیة کان التحویل فیها باستخدام عنصر الترتیب، فکلمة » بأیدینا « وهی هنا
تؤکد بالتقدیم. إنّ تقدیم الفاعل على الفعل هو من أبرز المظاهر التی یری المتلقّی أنّها تمثّل انزیاحات فی ترکیب الجملة » بأیدینا «
فقد تقدّم .» سَیِّدُنَا جَفَانَا آه یَا قَبرَهْ « : الفعلیة. واختار السیاب هذا النمط من الترکیب فی مواطن کثیرة من قصیدته ومن ذلک قوله
غیر أن الفاعل تقدم للاختصاص. ،» جفانا سیّدنا « فالبنیة العمیقة حسب مقتضى الظاهر هی .» جفانا « على الفعل » سیدنا « الفاعل
وجا هذا التقدیم على لسان أهل المدینة مع تمّوز لیبیّنوا له ما تعانیه المدینة ،» ما جفانا إلا سیّدنا « فإنّ الشاعر یعنی بهذا التقدیم
من القحط والجدب والفقر بسبب عدم استیقاظ تموز من القبر، ولذلک تموز هو الذی یستحق الکراهیة والنفور. إذا قرأنا هذه
القصیدة مرّة أخری وجدنا عدداً کبیراً من الشواهد المماثلة ونری عدداً من الأبیات التی جا الفاعل فیها مقدّماً على فعله؛
الأبیات التی لا یکون التوکید فیها على الحدث، فالحدث قائم واقع لا یجادل فیه أحد، ولکن الجدل کان فی من یحدث هذا
قُبُورُ إخوَتِنَا تُنَادِینَا / لأنَّ الخَوفَ مِلءُ قُلُوبِنَا، « : الحدث. على سبیل المثال، قدّم الشاعر فی هذه الأشطر الشعریة الفاعل على الفعل
واقع لا ،» قبور إخوتنا تنادینا « المصدر نفسه، ص 03 (. والفعل مثلاً فی جملة ( » وَرِیاحُ آذَار / تَهُزُّ مُهُودَنَا فَنَخَافُ وَالأصوَاتُ تَدعُونَا
جدل فیه، ولکن الجدل فی الفاعل الذی أسند إلیه الفعل، ولذا قدّم الفاعل لتوکیده ولتوکید وقوع الفعل منه.
5 4 المستوی المعجمی
المقصود من الدلالة المعجمیة یعنی الاهتمام بالعلاقات بین المدلولات اللغویة فی إطار الحقل الدلالی، وذلک من خلال إیجاد لفظ
عام یجمعها أو حقل دلالی تنطوی حلته. والمتمعن فی ألفاظ السیاب التی سیقت فی أشعاره یجدها غیر غامضة إذا ما قارناها بمن قبله
وأقرانه الذین جا وا بأسلوب غامض بعکس أسلوب الشاعر. أمّا الدلالة الإیحائیة لبعض مفردات القصیدة فهی جز من دراسة
والتی لها علاقة ،» مدینة بلا مطر « المستوی المعجمی. سنسعى فی هذ المستوی إلى استخراج المعانی الإیحائیة لبعض مفردات قصیدة
بالموضوع.
5 4 1 الحقول الدلالیة للقصیدة
هی نظریة حدیثة الظهور تعنى بدراسة مجموعة من الکلمات ترتبط دلالاتها ببعضها وتوضح عادة تحت لفظ عام یجمعها ثم یکشف «
عفانجة وإبراهیمی کاوری، 3418 ه.ق، ص 331 (. وفی هذه القصیدة قسمنا الحقول الدلالیة إلى عدّة أقسام، ( » العلاقات فیما بینها
ومنها:
5 4 1 1 الألفاظ التجریدیة أو الألفاظ الدالة على الصفات المعنویة
إنّ استخدام المفردات التجریدیة یؤدّی إلى تقویة الشعر من ناحیة الطابع التجسّمی ویجعله یکون أشدّ تأثیراً فی المتلقّی. إنّ بنا
الصور الملفّقة من المفردات الحسیة والتجریدیة یخلق طابعاً فنیاً فی بنیة شکل الأبیات وستکون حصیلته الکدّ الفکری لدی المتلقّی
المفردات التجریدیة هی المفردات السوداء التی لا تخلق تصویراً واضحاً عن « وتعمّقه للحصول على المعنى الخفی فی النص، بمعنى آخر
فتوحی، 3113 ه.ش، ص 313 (، إذن یحتاج المخاطب عند مواجهة مثل هذه المفردات إلى النشاط الفکری ( » مدلولها فی ذهن المتلقّی
وکثیر من الترکیز الدقیق للحصول على فهم الأفکار الخفیة ورا ها. قد اختار السیّاب فی هذه القصیدة مثل هذه المفردات، حیث
الخوف وجیاعٌ وآه والنوم والغربة وأنین والقساوة ووا أسفاه والخشیة « هیمنت على جسد القصیدة، ومن أکثرها تکراراً هی
تمثّل علامات تشفیر النص على تأویل قاتم وسوداویة « إن استخدام مثل هذه المفردات فی القصیدة وهیمنتها على جسد النص .» والحزن
.) سعدون، 3131 م، ص 8 ( » مریرة وتفکیکه فی الآن نفسه على فضاء تشاؤمی ألیم
5 4 1 2 الألفاظ الدالة على اللون
للألوان قیم شعریة تتجاوز حدود اللون ذاته أو الإحالة علیه، إلى مستویات عاطفیة وإیحائیة. وقد استکشف شعرا الحداثة
فی الألوان طاقات تعبیریة متعددة ومثیرة ووظّفوها أسلوبیاً فی مزاوجات تخطّت حدود الاستعارة إلى مناطق الشعور. یقول جان
إذا کان الشعر الحدیث یستعمل بکثرة الکلمات الحسیة، وعلى الخصوص کلمات اللون، فإن ذلک لیس ولنقل لیس فقط لأجل « : کوهین
إدراج الحسی فی المجال الشعری کما یعتقد. إن کلمة اللون لا تحیل على اللون أو بتعبیر أصح لا تحیل علیه إلا فی اللحظة الأولى، وفی اللحظة
image الثانیة یصبح اللون دالاً لمدلول ثانٍ له طبیعة انفعالیة. عندما یقول ملا رمِی: "الأذان الأزرق" فإننا لا نعثر هنا على أیة صورة شعریة
.) کوهن، 3111 م، ص 131 ( » وعلیه فلا مجال للتحلیل، وإنما نعثر هنا على عملیة تستثیر استجابة عاطفیة لایمکن أن تُستثار بطریقة أخرى
کثیراً ما نری أنّ السیاب حاک قصائده واستخدم الألوان فی الأشیا التی لا لون لها فی الواقع، لذلک دبّجها بصفات لونیة
متخالفة ما بین الحقیقة والفهم وعبّر عن أسلوبه بلمسات فنیة ساحرة، إذن التدبیج اللونی هو الظاهرة التنافریة نراها کثیراً فی
السیاب، 0210 م، ص 36 (. کما نعلم أنّ العالم ( » أنافذتان من ملکوت ذاک العالم الأسود « : قصائده ومن أمثلة التدبیج اللونی قوله
لیس من الأشیا التی قابلة للون وکیف یکون له لون؟ فالأسود له إیحا اته المعهودة مما یوحی بالحزن والألم، ومن دلالاته أیضاً
» صَحَا مِن نَومِه الطِّینِی تَحتَ عَرائِشِ العِنَبِ « : لونیاً بالأسود. ومن التدبیج اللونی أیضاً قوله » العالم « القتامة. لذلک وصف الشاعر
)المصدر نفسه، ص 60 (. جعل الشاعر من النوم الذی هو أمر معنوی أمراً حسیاً و یعطیه اللون الأسود الذی هو لون الحزن و الألم.
وفی هذا التعبیر انزیاح فی اللون، فمبدأ التناقض موجود بین النوم الذی لا لون له وبین اللون الأسود المولد من الطین. أمّا
وقیل: .» اللیل والطین والعتمة والظلمة والظلما والغیمة « الکلمات التی لها دلالة ثانویة ترتبط باللون الأسود فی القصیدة هی
المصدر نفسه، ص 42 (. والإکثار فی استخدام هذا النمط من اللون یدل على حالة الشاعر ( » هو ألّا تری شمساً من شدّة الدّجن «
التشاؤمیة والمأساویة التی لیس له أمل ورجا بالنسبة لمستقبل شعبه. ومن جهة أخری، إذا أراد الشاعر أن یصف المدینة الفاضلة
المصدر نفسه، ص 05 (. فالأخضر رمز للحیاة ( » صَحَا تَمُوزُ، عَادَ لِبَابِلَ الخَضرَاءِ یَرعَاهَا « : یصفها باللون الآخر، کما یقول » بابل «
والوطن، وبذلک اللون أبدع منه تصویراً رائعاً ملأه بالأمل والحریة والنما .
5 4 1 3 الألفاظ الدالة على الهیئة والحرکة
وقد تتوالى الأفعال فی بنا الجمل والتراکیب على نحو تفارق العادة وتلفت النظر وتستدعی التوقف. إن هذا التوالی یمثّل
مثیراً أسلوبیاً یسترعی الاهتمام، لا سیما الأفعال فی حد ذاتها تتمیز بقدرة عالیة على تصویر الحرکة والهیئة وتتجه بالأحداث
نحو درامیة حیویة. على سبیل المثال، جا السیاب فی الأشطر الأخیرة من القصیدة بالکلمات التی تمثل الحرکة والحیویة. ولإظهار
وَأبرَقَتِ السَّمَاءُ کَأنَّ زَنبَقَةً « : هذه الحرکة أتى بأسلوب یتجه نحو مضاعفة الفعل مضعف العین أو استخدام الفعل المضعف، کقوله
مِنَ النَّارِ/ وَغَلغَلَ فِی قَرَارَةِ أرضِنَا وَهجٌ فَعَرَّاهَا/ أو ما وَشوَشَتهَ الرِّیحُ حَیثُ ابتَلَّتِ الأدواحُ/ وَکَرکَرةٍ وَ"آهِ" صَغِیرةٍ قَبَضَت بَیُمنَاهَا/ عَلَى قَمَرٍ
المصدر نفسه، ص 06 05 (. فهو فی هذا النص یأتی بکمّ ( » یُرَفرِفُ کَالفَراشَةِ، أو عَلَى نَجمَهْ/ عَلَى رَعَشَاتِ مَاءٍ، قَطرَةٌ هَمَسَت بِهُا نَسمَهْ
مکان » ابتلّ « فهو فی النص أیضاً یستخدم .» غلغل، ووشوشت وکرکرة ویرفرف « هائل من الأفعال الرباعیة والمضعفة نحو
» ابتل « متوسلاً بالتضعیف لتحقیق قیمة أسلوبیة تفیض بمعانی القوة والشدة فالإیقاع الموسیقی والانفعالی الذی یحققه ،» بلَّ «
.» یرفّ « على الکثرة والشدة والاستمراریة لا تتحقق فی بدیله » یرفرف « فدلالة الفعل ،» بلّ « یتوفر فی بدیله
5 4 1 4 الألفاظ ذات الدلالات الإیحائیة
تظهر فی القصیدة کلمات ذات خصوصیة قد تکون مجرد مفردات عادیة، ولکن لها فی داخل القصیدة إیحا ات ودلالات
فحینما ننظر فی العنوان نجده یتألف من ثلاث کلمات حلملُ فی طیّها مفارقةً غریبةً ،» مدینة بلا مطر « متمیزة. ومن تلک المفردات
جا ت نکرة لتدلّ على أن الناس یعیشون » المدینة « کلمة .؟!» مدینة وبلا مطر « تتأتّى من أسلوب النفی الذی انطوى علیه العنوان
تدلّ على أنّ هذه المدینة أقفرت من کلّ » لا مطر « فیها معیشة ضنکا بسبب ظلم الحکام ولا یعرفون بعضهم بالبعض. وکلمة
من الأصوات التی یستخدمه العامة فی الدلالة على واقع نفسی أو » واأسفاه « أو » آه « مظاهر الحیاة والخصب. وکلمة
فقد ذکره الشاعر فی » تمّوز « انفعالی.وغالباً ما تأتی هذه الأصوات وفق إیقاع موسیقی وعاطفی یمثل التنغمیة الحزینة. وأما کلمة
أول القصیدة رمزاً للحیاة والخصب، والشاعر یرید أن یقول: قریب أن تتغیر الأضاع ویعود المطر والحیاة الجدیدة والخصب إلى
فلا شک أن هذه المدینة التی سماها الشاعر بابل هو نفس ،» بابل « أرضنا، ولکن لا یلبث أن یخیب أمله. وبالنسبة إلى کلمة
رمز للتغییر والثورة » انسکاب المطر « العراق، وهذا الجفاف العام والقحط رمز لما کان یعانیه العراق من قیود على الحریة. وإن
والخروج من هذه الأوضاع والأسوار التی أحاطت المدینة هی الجهل الذی یمنع المدینة من التغییر ولابد من إزالته للتغییر.
رمز للحکلام الظالمین. » أرباب المتطلعین « رمز للثورة الصغار وهم أمل للمستقبل الزاهر. و » السحائب « و
الخاتمة
لبدر شاکر السیّاب، وهی قصیدة » مدینة بلا مطر « کانت هذه الدراسة محاولةً للکشف عن بعض الملامح الأسلوبیة فی قصیدة
سیاسیة رمزیة تشمل السمات العامة للقصیدة العربیة الحدیثة، منها التفرّد والخصوصیة، والترکیب، والوحدة الموضوعیة،
والإیحا وعدم المباشرة، واللغة الشعریة المتمیّزة، والتی تنعکس شخصیة الشاعر وعواطفه الجیاشة. أمّا بالنسبة للملامح الأسلوبیة
فقد توصلنا إلى نتائج ندرجها فی النقاط التالیة:
مع زحاف العصب، وهو بحر یمیل إلى التدفّق السریع ویمتاز » مفاعلتن « المستوی الصوتی: اختار الشاعر بحر الوافر بتفعیلة
باستثارة المتلقّی أو إغراقه فی الحزن حتى الفجیئة. وبما أنّ هذه القصیدة سیطر علیها الجو المأساوی الحزین فاختار الشاعر لشعره من
الأوزان ما یلائم عاطفته. وفی الموسیقى الداخلیة استعان الشاعر بظاهرة التکرار صوتیاً کان أم لفظیاً حیث لجأ الشاعر إلى
مما عزّز النسیج الصوتی لقصیدته وجذب مشاعر المتلقی. واستعان أیضاً الشاعر ،» تکثیف الأصوات « الانزیاح الصوتی بمساعدة
فی المستوی الصوتی بظاهرة التضمین العروضی لیخلق فی القصیدة وحدة الجو النفسی والوحدة العضویة. وهو کثیراً ما یستخدم
التضمین العروضی بالتدویر أی یمزج بین هاتین التقنیتین ویخلق بنیة کلیة وتلاحماً بین سطور النص، حیث نستطیع القول إنّ
القصیدة أصبحت مجموعة من التضمینات.
المستوی البلاغی: الشی الذی میّز هذه القصیدة فی هذا المستوی هو الدور الذی تلعبه الأسطورة، بحیث إنّ المناخ السائد
على القصیدة یختلف تماماً عن الواقع. إنّ السیّاب بارع فی استخدام الشخصیات الأساطیریة, وکثیراً ما نری أنّه یمازج بین الأساطیر
مما یعطی قوّة اللمح الشعری أکثر دفقاً فی الانفعال والحرکة ویلجأ أیضاً إلى الانزیاح الأسطوری. والغرض منه هو تصویر
الشخصیات الأسطوریة بغیر ما تستحقه. وتدل هذه التقنیة على أنّ الفجیعة التی یعانی منها الشاعر أشد هولاً وأعمق تأثیراً. وفی
کما ظهر ذلک فی تقدیم ما حقّه التأخیر. ولاحظنا أنّ ،» خرق لقواعد نحو اللّغة « محور الترکیب، القاعدة النمطیة الغالبة هی
المقدّم لا یرد اعتباطاً فی نظم الشعر، وإنّما یکون عملاً مقصوداً به غرض، إلا أنّ الغرض الرئیس فی هذه القصیدة یرجع إلى
توکید المقدّم والاهتمام به، کما أنّ بعضاً من متعلّقات هذا المحور تتعلق بالسیاق کما کان ذلک فی مبحث الاعتراض، فاستعان
السیّاب بهذه التقنیة بشکل تسلسلی للتلاحم بین أسطر شعریة عدّة.
المستوی المعجمی: لجأ السیاب إلى استحضار بعض الکلمات التی توحی بالجو الأسطوری. ووجود هذه المفردات تدلّ على
وعی الشاعر باللغة المناسبة مع الجو الأسطوری، کما أنّه استقى عدداً من المفردات الرمزیة بمعنى آخر. إنّ الشاعر فی هذه القصیدة
اختار الکلمات التی ترتبط ارتباطاً وثیقاً بعاطفته، فمثلا حین تسیطر علیه بارقة الأمل تسود على کلماته الحرکة وإن کان الغالب
استخدام الکلمات التی ترتبط بالجو المأساوی والمتشائم.