
تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,706 |
تعداد مقالات | 13,973 |
تعداد مشاهده مقاله | 33,635,510 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 13,344,659 |
الآثار المترتّبة على التنغيم في الخطاب الشعري لعبد المعطي حجازي اعتماداً على ديوان مدينة بلاقلب | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
مقاله 3، دوره 9، شماره 17، دی 2017، صفحه 19-30 اصل مقاله (695.22 K) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
شناسه دیجیتال (DOI): 10.22108/rall.2017.80618.0 | ||
نویسندگان | ||
محمد موسوي بفرويي* 1؛ مرضيه فيروزپور2 | ||
1أستاذ مشارک في قسم العلوم القرآنية والحديث بجامعة ميبد | ||
2طالبة الدکتوراه في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة سمنان. | ||
چکیده | ||
إنّ الدلالة هي کون الشئ بحالة يلزم من العلم به العلم بشئ آخر. هناک نوع من الدلالة يسمّى بالدّلالة الصوتية التي تستمدّ من طبيعة بعض الأصوات، فإذا حدث اختلاف في صوت، يؤدّي ذلک إلى اختلاف في المعنى کالتنغيم الذي يدلّ على المعاني المتنوعة في جملة واحدة وفقاً لارتفاع الصوت وانخفاضه ويعدّ عاملاً لتوضيح المعنى وتفسيره والکشف عن السياق الذي فيه يوجد الکلام، ذلک أنّه يتغيّر تبعاً لسياقات مختلفة. تحاول هذه الدراسة أن تدرس الخطاب الشعري لأحمد عبد المعطي حجازي بالاعتماد على ديوانه المسمّىبمدينة بلا قلب، على أساس هذه الظاهرة الصوتية التي تقترب من نفسية الشاعروأفکاره وتدلّ على السياق الذي أنشد الشاعر فيه خطابه. أما النتائج التي توصّلت الدراسة إليها، فهي أنّ الشاعر الشعبي مال إلى استخدام التنغيم لمشارکة مخاطبيه في إحساساته ولإثارة انتباههم والتواصل معهم. يتغيّر صوت الشاعر على أساس أغراضه وأفکاره، حيث يهبط صوته عند الوصف والخبر وغلبة الحزن عليه ويعلو صوته عند النداء والأمر والاستفهام والإشارة إلى التعجّب وما هو محطّ الإنکار والاهتمام. | ||
کلیدواژهها | ||
الدلالة الصوتیة؛ التنغیم؛ عبد المعطی حجازی؛ دیوان "مدینة بلا قلب" | ||
اصل مقاله | ||
1ـ المقدمة إنّ الدلالة الصوتیة هی قسم من علم الدلالة تهتمّ بدراسة الأصوات للکلمات من حیث التغییر الذی یحدث فی الصوت، وهذا یؤدّی إلى التغییر فی المعنى کالتنغیم الذی إذا حدث فی کلمة أو عبارة غیّر معناه. إنّ التنغیم ظاهرة صوتیة ترتبط ارتباطاً واسعاً بغرض المتکلّم والسیاق الذی توظّف فیه، فمن هنا قد یمیل المتکلّم إلیها لیعبّر عن نفسیته ولیوصل االمعنى المبطّن إلى المخاطب. إنّ الشاعر أحمد عبد المعطی حجازی الذی واجه قساوة المدینة حین الدخول فیها وغیّر مذهبه الشعری من الرومانسیة إلى الواقعیة إثر التعرّف على المجاهدین، جعل التنغیم وسیلة لغویة لمشارکة مخاطبیه فی إحساسه بالغربة والوحدة وکذلک وسیلة لتحقیق أغراضه الجدیدة فی التواصل مع الناس ودعوة الشعراء إلى نبذ المذهب الرومانسی الذی لم یکن یناسب السیاق آنذاک. ویبدو أن استخدام هذه الظاهرة الصوتیة عند الشاعر کان وسیلة لإنجاز الغرض التواصلی وانتقال المفاهیم الشعریة إلى المتلقّی والتأثیر علیه. اختارت هذه الدراسة دیوان مدینة بلا قلب للشاعر؛ لأنّ هذا الدیوان ـ کما یقول الشاعر نفسه ـ تمیّز بعنصر الإیقاع والتنغیم بشکل مکثّف (حجازی، 2015م، مأخوذ من موقع: www.masress.com). إنّ التنغیم بما أنّه یناسب الشاعر أهدافه ونفسیته وسیاق کلامه، فمعرفته فی خطاب ما خاصة الخطاب الشعری الذی یتمیّز بالمعانی الکامنة، تعدّ أحسن طریق للکشف عن خفایا الشاعر والمعانی التی أراد نقلها إلى المخاطب غیر مباشر. کذلک دراسة أشعار عبد المعطی حجازی من هذا المنظار یقرب الدارس خطوة ولو کانت قصیرة، من الشاعر وأهدافه ویکشف عن خفایا خطابه الشعری إلى حدّ ما.
2ـ خلفیّة البحث هناک عدد من العلماء الذین اهتمّوا بدراسة هذا الجانب الصوتی، منهم: زید خلیل القرالة (2009م)، الذی خصّص قسماً من مقالته المسمّاة بالتشکیل اللغوی وأثره فی بناء النّص: دراسة تطبیقیة، بالحدیث عن التنغیم ودراسة قصیدة لا تصالح للشاعر أمل دنقل وفقاً لبعض الإشارات الکتابیة التی توحی للقارئ بدلالات تملی علیه أن ینغّم النصّ تنغیماً خاصاً ینسجم مع مضامینه. وکذلک هائل محمد طالب (2003م)، ففی بحثه المسمّى بظاهرة التنغیم فی التراث العربی، درس ظاهرة التنغیم فی التراث العربی بعدما ادّعى کثیر من الدارسین أنّه لم یعرف هذا النوع من الدراسة. وتطرّق أیضاً سامی عوض مع عادل علی نعامة (2006م) فی دراستهما المسمّاة بدور التنغیم فی تحدید معنى الجملة العربیة إلى الحدیث عن سرّ الجمال الفنّی للتنغیم ودوره فی تفریق بین معانی الجمل والمقولات النحویة والکشف عن الأماکن الکامنة وراء الظاهرة من التشکیلات والمعانی. تحاول هذا الدراسة أن تتناول هذه الظاهرة الصوتیة فی أشعار أحمد عبد المعطی حجازی الشاعر المعاصر من خلال الإجابة عن السؤالین التالیین:
3ـ منهج البحث المنهج الذی تمسّکت الدراسة به للوصول إلى الإجابة، هو المنهج الوصفی ـ التحلیلی. فتطرّقت الدراسة فی البدایة إلى الحدیث عن علم الدلالة والدلالة الصوتیة والتنغیم لغة واصطلاحاً. ثمّ تناولت دلالة هذه الظاهرة الصوتیة وتوظیفها فی أداء المعنى. ثم زاولت هذه الظاهرة فی دیوان أحمد عبد المعطی حجازی الأوّل المسمّى بمدینة بلا قلب.
4ـ الإطار النظری للبحث 4ـ1 علم الدلالة علم الدلالة[1] هو علم نمت وترعرعت أصوله فی ظلّ الدراسات اللسانیة والحدیثة. الدلالة فی اللغة مأخوذة من مادة «دلّ»، «دلّ فلان إذا هدی إلیه ودلّه على الشئ» (ابن منظور، بلا تا، مادّة دلّ). و«دلّل الدلیل: ما یستدلّ به والدلیل: الدّال وقد دلّه على الطریق یدلّه دلالة» (الجوهری، بلا تا، مادّة دلّ). على رأی علی بن محمد الجرجانی (ت 816 هـ) هی «یکون الشئ بحالة یلزم من العلم به العلم بشئ آخر والشیء الأول هو المدلول. فالدلالة تعنی ما یدلّ علیه اللفظ أو الترکیب من معنى، أی هی کون الشئ بحالة یلزم من العلم به العلم بشیء آخر، الشیء الأول هوالدال والثانی هوالمدلول» (بلا تا، ص 61). فعلى سبیل المثال، جرس الباب یدلّ على وجود شخص بالباب قد ضغط على الزرّ، فصوت الجرس هو الدالّ ووجود الشخص بالباب هو المدلول علیه والدلالة هی إیجاب إدراک وجود الشخص بالباب لإدراک صوت الجرس.
4ـ2 الدلالة الصوتیة المراد بالدلالة الصوتیة هی التی تستمدّ من طبیعة بعض الأصوات، فإذا حدث إبدال أو إحلال؛ صوّت منها فی کلمة بصوت آخر فی کلمة أخری، یؤدّی ذلک إلى اختلاف دلالة کلّ منهما عن الأخری. تنقسم الدلالة الصوتیة إلى نوعین: الدلالة الصوتیة الطبیعیة والدلالة الصوتیة التحلیلیة. الدلالة الصوتیة الطبیعیة هی التی ترتبط بإحدی نظریات أصل اللغة التی سمّاها ابن جنّی بالدلالة اللفظیة، وهی تدلّ على علاقة طبیعیة بین اللفظ والمعنى. أمّا الدلالة الصوتیة التحلیلیة فهی ترتبط بتغیّر الوحدات الصوتیة الذی یتغیّر المعنى تبعًا لهذا التغییر، بالإضافة إلى النبر والتنغیم (الکراعین، 1993م، ص 96). فموضوع الدرس الصوتی فی مدارین: إمّا البحث عن الصوت اللغوی من حیث مخرجه ومن حیث صفته وامتزاجه بغیره من الأصوات وإمّا البحث عن تلک الملامح الصوتیة التی تصاحب الترکیب اللغوی کلّه، وذلک کالنبر والتنغیم والطول والسکت وغیر ذلک من السمات الصوتیة التی لها علاقة کبیرة بالترکیب وفهمه (کشک، 2007م، ص 11).
4ـ3 التنغیم التنغیم[2] لغة «النغمة جرس الکلمة وحسن الصوت فی القراءة وغیرها وهو حسن النغمة والجمع نغم والنغم کلام خفی والنغمة الکلام الحسن» (ابن منظور، بلا تا، مادّة نغم). «ونغم تنغیماً: نغم الرجل، طرب فی الغناء والنغمة: حسن الصوت فی القراءة والتنغیم إخراج النغم وأداء الموسیقى» (نعمة،2003م، مادّة نغم). والتنغیم اصطلاحاً فهو تغییر فی الأداء بارتفاع الصوت وانخفاضه فی أثناء الکلام العادی للدلالة على المعانی المتنوعة فی الجملة الواحدة. للتنغیم فائدة فی معرفة نوع الجملة إما کانت استفهامیة وإما تقریریة وإما تعجبیة وإما سخریة. وکلّ ذلک یتّضح ویتبیّن من خلال کیفیة قراءة الجملة، فعلى سبیل المثال، عندما قیل: «ذهب محمد إلى الجامعة» وتغیّرت نغمة الصوت فی کلّ مرّة، یُفهم من کلّ أداءٍ معنى معیّناً على أساس علوّ الصوت وانخفاضه. إنّ لکلّ حالة نغمة معیّنة وأداء خاصّ یختلفان عن غیرهما. وهذا یعنی أنّ للجملة أکثر من معنى واحد حسب طریقة أدائها لأنّ لکلمة واحدة فی الجملة أکثر من معنى واحد بناء على تنغیمها (محمّد مناف، 1996 م، ص 134 - 135). فالتنغیم هو موسیقى الکلام عند إلقائه تکسوه ألوان موسیقیة لا تختلف عن الموسیقى، إلا فی درجة التوافق والتلاؤم بین النغمات الداخلیة التی تصنع کلا متناغم الوحدات والجنبات. تظهر موسیقى الکلام من أداء إلى آخر ومن حالة نفسیة إلى آخری من حیث الارتفاع والانخفاض. فعندما ترتفع درجة التلوین الموسیقی، فالکلام على تنغیم مرتفع وعندما تنخفض فهو على تنغیم منخفض. أما إذا لزمت هذه الدرجة مستوی واحداً، فالحاصل إذن نغمة مستویة (بشر، 2000 م، ص 533). من هذا المنطلق، التنغیم یکون على ثلاثة أنواع: الأوّل النغمة الهابطة، والثانی النغمة الصاعدة، والثالث النغمة المستویة.
4ـ4 دلالة التنغیم بناءً على سیاق الکلام والهدف الذی یتبعه المتکلّم، یتغیّر صوته من هبوط إلى صعود أو على العکس، من صعود إلى هبوط. تکون هذه التغییرات متناسبة مع مشاعر المتکلّم وأفکاره، وکذلک مع هدفه فی الترکیز على الخطاب الذی هو محطّ العنایة. فالمتکلّم یغیّر صوته فی أداء ما یرید لإثارة انتباه المخاطب إلیه وکذلک یغیّره طبقاً لأحاسیسه ومشاعره. فمن هنا، إنّه هناک صلة وثیقة بین تغییر الصوت عند المتکلّم والهدف الذی ینشأ من أجله الخطاب والسیاق الذی یدور علیه الخطاب. تؤکّد الدراسات الصوتیة على أهمیة التنغیم فی الدلالة. فقد أکّد السّعران على أنّ: «التغییرات الموسیقیة فی الکلام التی ندعوها التنغیم تستعملها اللغات المختلفة استعمالات مختلفة. فعن طریق هذه التغییرات یتوسّل کثیر من اللّغات إلى التعبیر عن الحالات النفسیة المختلفة وهن المشاعر والانفعالات، فتستعمل تنغیماً خاصاً لکلّ من الرضا والغضب والدهش والاحتقار إلى آخره» (1997 م، ص 160). کذلک أشار المبرّد إلى دور التنغیم فی التعبیر عن المعانی النحویة، فقال: إنّ الجملة على أساس الإطار الصوتی الذی توضع فیه، تحمل معانی متعددة. فالجملة الاستفهامیة قد تخرج عن معناها وتلبس معانی أخری، کالتوبیخ والإنکار بوساطة تنغیم خاصّ یؤدی به، کهذا القول: أقیاماً وقد قعد الناس؟ (1388 هـ، ج 3، ص 228). والواقع أنّ المتکلّم لا یعتمد فی خطابه على المستوی الصرفی والترکیبی لتبیین مقاصده فحسب، بل یرکن إلى جانب ذلک، وهو اختلاف مستویات التنغیم الذی یعبّر عن مقاصد مختلفة لخطاب واحد. إمکانات التنویع فی النغمات وفقاً لنوع الکلام وظرفه واسعة إلى حدّ کبیر. هذا التلوین الموسیقیّ یعطی الکلام روحاً ومعنى خاصاً ویدلّ على الحالة النفسیة للمتکلّم ویعدّ عاملاً مهمّاً لتوضیح المعنى وتفسیره وتمییز أنواع الکلام بعضها عن بعض وتبیین المعانی الإضافیة التی ترافق الکلام من التأکید والنفی و ... ( المصدر نفسه، ج 3، ص 523). کما یذهب عصام نور الدین إلى أنّ «سیاق الحال الذی یحدّد حالة الناطق أو المرسل والسامع أو المتلقی ونوع الرسالة ووجود مستمعین أوعدم وجودهم ونوعیة المستمعین وحالتهم النفسیة والاجتماعیة والثقافیة والسیاسیة، کلّ أولئک قد یساعد أیضاً فی تنغیم الجملة أو العبارة تنغیماً خاصاً ویعطیها معنى محدّداً» (حسان، 1990م، ص 164). فالتنغیم قرینة صوتیة سیاقیة تکشف عن ضرب محدّد من أنواع الکلام اختیاریاً وتساعد على نقل المعنى إلى المخاطب، ولها أهمیة بالغة فی الإتیان بالکلام مطابقاً لمقامه وحاله. بما أنّ التنغیم یکثر فی الکلام المنطوق، لذلک الحدیث عنه فی الکلام المکتوب عمل صعب یتطلّب السعی والجدّ. والواقع أنّ التنغیم فی الکلام یقوم بالترقیم فی الکتابة إلى حدّما، فیمکن الکشف عن التغیّرات الصوتیة فی الکلام المکتوب بالاعتماد على الترقیم، وکذلک هناک بعض القواعد الکلیة التی یمکن بها التعرّف على هذه الظاهرة فی المکتوبات، کالقاعدة التی تقول إنّ الجمل التقریریة والإخباریة التی تکتمل عند البیان تکون على نغمة هابطة. وعلى العکس، فالجمل الاستفهامیة التی تستوجب بلا ونعم والجمل التی تتعلّق بالجمل الأخری تکون على نغمة صاعدة تخبر المخاطب عن نقصان الکلام.
5ـ دلالة التنغیم عند أحمد عبد المعطی حجازی اللغة الأدبیة بعیدة عن أن تکون دلالیة حرفیة فحسب، بل لها جانب تعبیری ینقل لهجة المتحدّث أو الکاتب وانفعاله وموقفه. کذلک هی لا تقتصر على تقریر ما یقال أو التعبیر عنه، وإنّما تحاول أن تؤثّر على القارئ وتقنعه وتثیره وتغیّره فی النهایة (قدّور، 2001 م، ص 15). فإذا انتظمت بطریقة تنغیمیة أو موسیقیة صار التأثیر مضاعفاً. یلجأ الأدیب إلى اللغة الأدبیة، ومنها اللغة الشعریة لهدف معیّن. وهذا الهدف لا یتحقّق إلا بآلیات محدّدة وأدوات لغویة معیّنة، نحو التنغیم الذی یلعب دوراً فاعلاً فی إیصال المعنى المراد إلى المخاطبین ویثیر بینهم انتباهاً عجیباً لما فیه من توقع لمقاطع تنسجم مع ما سبق سماعه، فتتحفز النفس وتتهیّأ لاستقبال المعانی والاستجابة لها أیّاً کانت تلک المعانی. إنّ الشاعر أحمد عبد المعطی حجازی[3] عندما ترک الریف إلى المدینة، واجه فیها القساوة والشدّة التی لم یکن یعرفها قبل ذلک. ففی هذا السیاق الحزین، وجد الشاعر الخطاب الشعری وسیلة للتقلیل من شعوره بالغربة والوحدة. ویبدو ذلک الإحساس فی دواوین الشاعر خاصة فی دیوانه الأوّل المسمّى بمدینة بلا قلب الذی أنشده بعد مغادرته الریف إلى المدینة وتجربته للحزن والألم فیها. فإنّ الشاعر فی ظلّ ذلک الحزن والألم جرّب حیاة جدیدة غیّرت أفکاره وأحاسیسه وحملته على اتّخاذ مذهب شعری یناسب السیاق الجدید ویلیق بأفکاره الجدیدة. وجد الشاعر أنّ مذهبه الرومانسی لا یناسب السیاق ولا یحلّ مشکلة ولا یرضی أحداً، فمن هنا، راح یدعو أصدقاءه إلى ترکه وینشد على منهج الواقعیین ویصبّ اهتمامه على معالجة القضایا الاجتماعیة خلاف ما کان علیه فی حیاته الریفیة، وحاول إثر ذلک لیکون شعره وسیلة للتواصل مع الناس وسیرهم نحو تغییر الأوضاع، إلى جانب کونه وسیلة للتعبیر عن أحزانه وآلامه فی البلد الغریب. مال الشاعر فی هذا الموقف الجدید إلى استخدام التنغیم کوسیلة لتحقیق أغراضه ولذلک هناک قرابة تامّة بین الشاعر وأفکاره وبین تغییره الصوت فی الخطاب الشعری. جدیر بالذکر هنا، أنّ الشاعر وإن أعرض عن المذهب الرومانسی، إلا أنه فی هذا الدیوان کان لا یزال متأثّراً بهذا المذهب، فلذلک نری أنّ الشاعر إلى جانب جعله التنغیم وسیلة للوصول إلى أهدافه الاجتماعیة، عبّر به عن إحساسه الذاتی ومشاعره الفردیة.
5ـ1 تنغیم النداء عند عبد المعطی حجازی إنّ الشاعر بعد أن یدخل فی المدینة ویدرک أنّ الحیاة المدنیة الوافرة بالظلم والاستعمار تختلف عن حیاته الریفیة وبعد أن یرجّح المذهب الواقعی على المذهب الرومانسی، یحاول أن یدعو الشعراء الآخرین إلى ترک المذهب الرومانسی ویقنعهم على اتّخاذ المذهب الواقعی الذی کان یناسب الأوضاع فی ذلک الموقف. یجد الشاعر فی تغییر الأصوات طریقاً لوصوله إلى الهدف، فیغیّر صوته من هبوط إلى صعود وهو ینادی أصدقائه إلى المطلوب. یمثّل النداء فی السطور التالیة طریقاً استهلّ الشاعر کلامه به؛ ذلک لأنه موصول بالتنبیه والإثارة وجلب الانتباه ویهیّئ المجال للاندماج فی الموضوع والاستماع إلى المتکلّم: أَصْدِقَائِی! / نَحْنُ قَدْ نَغْفُو قَلِیلًا / بَیْنَمَا السََّاعَةُ فِی المَیْدانِ تَمْضِی / ثُمَّ نَصْحُو فَإذا الرَّکْبُ یَمُرُّ / وَإِذَا نَحْنُ تَغَیَّرْنَا کَثِیراً / وَتَرکْنَا الأَقْبِیةَ / وَخَرجْنَا، نَقْطَعُ المَیْدانَ فِی کُلِّ اتِّجَاهٍ (حجازی، 1993م، ص 15). إنّ الشاعر یلتجئ فی السیاق الجدید إلى إیقاظ شعبه وأصدقائه من الغفلة والنوم ویتمرّد على وجدانیة الرومانسیین داعیاً إلى حیویة شعریة تأخذ مادّتها من الحیاة والاتّصال بالناس وتجاربهم فیفضّل الخطاب المباشر على غیر المباشر ویمیل إلى النداء الذی یتصدّر الجملة، وله قدرة تعبیریة تتشکّل من النغمیة والشدّة والطول والحدّة الممتلئة بالشحنة الشعوریة والانفعالیة، فهذه النغمة القویة التی أعلى من نغمة المقاطع الأخری فی الجملة تتناسب مع التنبیه والإثارة. یعلو صوت الشاعر عند نداء أصدقائه علوّاً یؤدّی إلى حرکة ونشاط یبرز فی الألفاظ، حیث یختار ألفاظاً یترک استماعها على العقول والنفوس ما یوحی بأمور لم تورد فی المعاجم. من هذه الألفاظ التی یعتزّ الشاعر بها ویستشفّ فی ثنایاها عمّا یوحی بمقاصده یمکن أن نشیر إلى «تمضی ونصحو وتغیّرنا وترکنا وخرجنا ونقطع». والواقع أنّ هذه الألفاظ تتناسب مع الغایة المنشودة من وجهتین: الأول أنّها تحمل معانی الحرکة والثانی أنّها أفعال علماً بأنّ إحدی ممیّزات الفعل دلالته على الحرکة. بما أنّ الشاعر أراد أن یوظّف النداء لتأدیة أغراضه کتقویة حال الحدیث والتواصل مع المتلقّی والدعوة إلى التأمّل، فقام بحذف حرف النداء وجعل خطابه الشعری یتّصل بالشفویة التی تمثّل الأداة الأساسیة للتواصل، فهکذا نادی أصدقاءه بصوت عالٍ یقرب إلى التنادی الحمیم أکثر منه إلى الخطاب العنیف. والواقع أنّ هذا الشاعر المنادی المتکرّه الرتابة لا یکتفی باستمرار هذا الصوت، بل یجعله یصوّت بین الصّعود والهبوط لینجز حقّ النداء فی التنبیه والإثارة، لذلک بعد أن کان صوته عالیاً یخفضه فی عبارة تحمل معنى الغفوة والسکون وهی جملة «نحن قد نغفو قلیلاً»، ثمّ بما أنّه أراد أن یلفت أنظار أصدقائه إلى مضی الزمن الذی هو سبب التوبیخ، یرتفع صوته ویبیّن نتیجة غفلتهم ویشیر إلى مفاجئتهم المرور والتغییر بتلک النغمة الصاعدة التی نشأت من کلمة «بینما» و«إذا» الفجائیة والنبر الذی نتج عن تقدیم «السّاعة» واتّصالها بالمفردة السابقة. مما یلاحظ أنّه هناک تناسب بین النغمة عند الشاعر والمعنى الذی یحاول إیصاله إلى المخاطب، ذلک أنّه عند الحدیث عن الغفوة والجمود یخفض صوته ویقلّل من شدّته ثمّ یعلوه وهو یتحدّث عن المضی والحرکة. أخیراً تنتهی السطور الشعریة بنغمة هابطة تتّسق مع نهایة الکلام الذی یثبت ویقرّر عمل الناس بعد الصحوة والخروج، وهو عبارة «نقطع المیدان فی کلّ اتّجاه». عند الانتباه إلى المقاطع الشعریة المستخدمة، یبدو أنّ أکثرها من المقاطع المقفلة التی ترسم لدی القارئ ذلک الجمود والرخوة لدی الشاعر وزملائه الذین تغافلوا عن مرّ الزمن وما زالوا تمسّکوا بثوب الرومانسیة المراهق دون الاهتمام بمقتضیات العصر. یمکن القول إنّ أغلبیة هذه المقاطع المقفلة (أَص، قا، ئی، نَح، قَد، نَغ، فو، لَن، بَی، مَس، سا، فِل، مَی، دا، تَم، ضی، ثُم، نَص، حو ...) تعبّر عن أمرین: الأوّل ثبات الشعراء وسکونهم، والثانی الجزم والقطع فی مرّ الزمن والتغییر. هذا الشاعر الذی غیّر منهجه الشعری واختطى فی سیر یقدّم الاجتماع وآلامه على الفرد وآماله، فیرسم مدینة بغداد فی القصیدة المسمّاة ببغداد والموت، مدینة الثورة والصمود وتوأم الموت ومدینة ینتظر أهلها من یساعدهم على البحث عن المنجاة، ثمّ ینشد مخاطباً الشهید صلاح الدّین الصبّاغ، ویقول: یَا ... یَا صَلاحُ! / یَا ... یَا صَلاحُ! / أَطْفَالُ بَغدَادَ بِجَانِبِ الجِدارِ یَهْمَسُونُ / رُدَّ عَلینَا! إنَّ صَمْتَکَ الطَّویلَ یَقْطَعُ الصَّبرَ الجَمِیلَ / رُدَّ عَلَینا! مَا الَّذی فَعلْتَ فِی عَامِ الرَّحیلِ / یَا قَائدَ الثُّوارِ! یَا جِیرانُ بِالحِلْمِ النَّبِیلِ / هَلْ یُجْمَعُ العُرْبُ الشَّتاتُ؟ / هَلْ یَدْفِنونَ قَاتِلاً مِن قَبْلِ أَنْ یَمُوتَ ... مَاتَ؟! / یَا ... یَا صَلاحُ! / إلَى اللِّقاءِ، لَنْ نَقُولَ ... الوَدَاع! ( المصدر نفسه، ص93-94). طبقاً لما تقدّم ذکره، أنّ الشاعر إثر مواجهته للسیاق الجدید والهدف المتغیّر، یمیل إلى استخدام حرف النداء التی تتّصف بصفتی الجهر والشدّة ویمتدّ معها الصوت بامتداد النفس لیسمع من ینادیه ممن حوله أو من بعید عنه، موبّخاً أو ساخطاً على صمتهم وأعمالهم فی السطور الماضیة ومستجیراً أو مستغیثاً بهم فی هذه السطور. والشاعر قد لجأ إلى حرف النداء وقام بتکرارها؛ ذلک لأنّه قد وجد فیها متنفساً له وتعبیراً عما یجول فی صدره من الرخوة التی شملت المدینة، فاحتاجت إلى من ینقذها ویخرجها من المستنقع الذی هوت فیه. الواقع أنّ أصوات النداء لما تمتاز بامتداد للصوت والنفس معاً، تخبر عن نفسیة قائله وتبیّن غایته من النداء. إنّ حجازی عندما ترک الریف قاصدًا إلى المدینة واجه المشاهد البشعة والواقع الألیم الذی کان یخالف ما یتوقّع من المدینة، فراح یستعین بأصحاب الضمائر الحیة، منهم الشهید صلاح الدین الصبّاغ الذی کان قدوة للصمود والمقاومة، من خلال ابتداء کلامه بما یتمیّز بالطبیعة التنبیهیة وتکراره وحذف مناداه حذفًا زاد على قدرته الإثاریة. لمّا کان الشاعر یحاول أن یجلب انتباه مخاطبه، ذکر وتکرّر اسم «صلاح» بعد أن کان محذوفًا بنغمة صاعدة جعلته یسیر نحو المطلوب الذی ذُکر فی سطور أخری تتمیّز بنغمة خفضاء «أطفال بغداد بجانب الجدار یهمسون». هناک نوعان من النداء فی هذه السطور الشعریة ولکلّ منهما نغمته الخاصة التی توافق الغایة. إنّ الشاعر قد استخدم تارة نداء العلم بصوت هادئ، ثمّ رفع بصوته مستخدماً نداء الوصف «یا قائدَ الثوار! یا جیران بالحلم النبیل» الذی أوصل بالمتلقّی لاقتراب المنادی من مضمون الرسالة، فهکذا تحقّق التوازن فی الإرسال والاستقبال بین طرفی الخطاب ووصل الشاعر إلى غایته التواصلیة على أکمل وجه. لا یسیر التنغیم عند الشاعر على وتیرة واحدة، بل یتفاوت بین الهبوط والصعود. کما یتلألأ التنغیم الهابط فی الجملة التقریریة «أطفال بغداد...» والجملة الخبریة «یقطع الصبر الجمیل» ویتضمّن النداء وفعل الأمر والاستفهام الإنکاری تنغیماً صاعداً، وکذلک الاستفهام الذی یدلّ على معنى التعجّب فی سطر «هل یدفنون قاتلاً من قبل أن یموت» یوحی بتنغیم خاص. إنّ التنغیم الذی یتلألأ عند الشاعر بأنواعه الثلاثة: الهابط والصاعد والمتوسط فی سطر واحد أی الابتداء بموسیقى هادئة فی عبارة «إلى اللقاء» وارتفاع الصوت عند نفی القول بالوداع لزیادة تأثیر النفی والشدّة فی توکیده وکذلک استمرار الکلام بتنغیم متوسط تبیّن للمخاطب هدف الشاعر الذی أراد أن یقنع المخاطب على استمرار طریق الشهید وعلى أنّه حیّ یسکن فی القلوب وینتظر تبعیة أعماله والخطوة فی طریق کان یخطو فیه. فالنغمة الهادئة عند أداء عبارة «إلى اللقاء» والنغمة الصاعدة عند أداء کلمة «الوداع» تحمل مقاصد الشاعر التی أراد الترکیز علیه ونقله إلى المخاطب. إضافة إلى آلیة التنغیم التی تمسّک بها الشاعر وعبّر بها عن أغراضه، یمکن القول إنّه قد یلجأ إلى الوقفة فی الکلام وبها یجلب أنظار الناس إلى ما هو مطلوبه، کما فعل فی السطر الأخیر ومکث بین عبارتی «لن نقول والوداع»، فهکذا جعل المخاطب ینتظر لاستماعه ویتأکّد من نفی الوداع.
5ـ2 تنغیم الاستفهام عند عبد المعطی حجازی إنّ الشاعر ـ کما قیل ـ رغم محاولته لترک المذهب الرومانسی ـ کان ولایزال متأثّراً بهذا المذهب فی هذا الدیوان، لذلک نجد عنده سطور شعریة تعبّر عن الهمّ الذاتی عنده، کالسطور التالیة التی خاطب فیها الشاعر أصدقاءه عبر أسلوب الاستفهام وحاول به التقریب منهم والاستعانة بهم: یَا أَصْدِقَائِی أقْبِلُوا / بَابِی لَکُم، قَلبِی ادْخُلُوهُ / تَزَاحَمُوا مِنْ حَوْلِه، فَالبَرْدُ یَأْکُلُ کُلَّ الوَجْهِ / غَنُّوا مَعِی... إنِّی حَزِینٌ! / یَا أَصْدِقَائِی مَا لَکُم لا تَسْمَعُون / وَمَا لَها شِفَاهُکُم تَمْضَغُ قَوْلاً لا یَبِینُ / هَلْ مَاتَ بَیْنَنا الهَواءُ / أَمْ غَاضَتْ الأَلْفَاظُ مِنْ فَمِی (المصدر نفسه، ص 143). إنّ الشاعر حین یخاطب أصدقاءه ویتعاطف معهم، یختار نغمة مستویة تحاول أن یجلب أنظارهم ویجعلهم یلبّون دعوته ویساعدونه وذلک یتجلّى فی عبارات، مثل: یا أصدقائی وأقبلوا وقلبی ادخلوه وتزاحموا من حوله وغنّوا معی. فهی تعین الشاعر على تحقیق المطلوب وتوفّر له الجوّ المناسب الذی یجعل أصدقاءه مستجیبین له ومتفاعلین مع نغمته المستویة. لکنّ الأمر لا یسیر على ما یرام، بل الشاعر یفاجئ بعدم تلبیتهم. وهذا یتبیّن فی تغییر النغمة عنده، حیث یعدل من الجهل إلى الإعجاب ویحوّل حال الخطاب من الجهل إلى إصدار ردّ فعله تجاه ما یعجبه من سکوت زملائه وعدم استماعهم؛ کلّ ذلک بنغمة تعلو على نغمته الأولى وترسم التعجّب والمفاجئة عنده. لا یزال الشاعر المتعجّب یستمرّ فی نغمته التعجبّیة فی إطار استفهام یحمل ظنونه من أسباب عدم الاکتراث عند أصدقائه ویتمیّز بصوت یعلو النغمة السابقة مع إظهار التعجّب ویبیّن بحثه عن سعة الحیلة. والواقع أنّ الشاعر خلال نغمة الصرامة المرتفعة التی تخبر عن شدّة عجبه، یهدأ صوته ویرسم بنغمة متلطّفة «إنّی حزین» انتظاره لسامعیه لأن یتفاعلوا معه شعوریاً ووجدانیاً. اتّضح مما سبق،أنّ للتنغیم دوراً فی إضفاء دلالة معیّنة على الجملة المنغمّة. فلا شک أنّه قد تفهم من جملة واحدة معان عدیدة حسب درجة التنغیم التی تذکر فیها الجملة. فعلى سبیل المثال، یمکن بنغمة صاعدة الحصول على الاستفهام فی البیتین التالیین اللذین یخلوان من أیّ أداة الاستفهام: یَحْلُمُ، لَمْ یَحلُمْ رَمَاهُ باللَّظَى غَادَر / یَألَمُ، لَم یَألَمْ رَأی زَعِیمَه نَاصِر (المصدر نفسه، ص 122). ومن المحتمل أنّ الشاعر قد اتّکأ على التنغیم فی هذین البیتین لإیصال المعنى إلى المخاطب، حیث من یقرأ فعلین "یحلم ویألم" بنغمة صاعدة یحصل على الاستفهام المخفی، کأنّ شخصاً سأل: هل یحلم؟ وهل یألم؟ وأجاب الشاعر: لا، لم یحلم ولم یألم. وکذلک أشار بصوت عالٍ من المقطع السابق إلى سبب عدم الحلم وعدم الألم "رماه باللظى غادر، رأی زعیمه ناصر"، کأنّه أجاب مرّة أخری إلى سؤال من یسأله عن السبب. نفسیة الشاعر الثائرة والغاضبة والقویة التی تعزم على مواصلة الجهاد وإشاعته بین مواطنیه، تؤثّر على صوته وکیفیة أدائه. فهوعندما یصل إلى اسم من یرمز إلى الصمود والجهاد وهو "ناصر"، یعلو صوته، فهکذا ینشّط ذهن المخاطب ویدعوه نحو ما یأمل إنجازه. لغة الشعر إذن تمتاز بجملة من خصائص، أهمّها الانفعال والتأثیر قد یحدثان بالموسیقى، خاصة عند حجازی الشاعر القروی الذی عانى من صعوبات الحیاة عند الهجرة إلى المدینة وأراد أن یشارک المتلقی فی أحاسیسه المؤلمة، فتمسّک بالتنغیم وحاول أن یبرز تجاربه بتغییر الأصوات. کما فی الأسطر التالیة التی یظهر فیها التنغیم إحساس الشاعر تجاه المدنیین: هَذَا الکَئِیبُ / لَعَلَّهُ مِثْلی غَرِیبٌ / أَلَیْسَ یَعرِفُ الکَلامَ؟ / یَقُولُ لِی ... حَتَّى ... سَلام! (المصدر نفسه، ص 26). عندما یهاجر الشاعر إلى المدینة ویواجه عدم مبالاة الناس بعضهم بعضاً تضیق به الأحوال ویتعجّب من معاملتهم هذه، فیمیل إلى استفهام یکمن فی باطنه التوبیخ. إنّ نمطیة التنغیم فی الجمل التی تبدأ بهمزة الاستفهام، تمتاز بالصعود فی البدایة والنهایة أمّا فی الوسط فإنّ التنغیم ینخفض، کما فی سطر «ألیس یعرف الکلام»، یعلو صوت الشاعر فی أدائه همزة الاستفهام وبیانه "لیس" ثمّ ینخفض قلیلاً ویشتدّ تارةً أخری عندما یصل إلى ما هو محطّ للتوبیخ. کذلک یمکن القول إنّ النبر الذی یوجد فی "ألیس" یساعد على هذا العلوّ والارتفاع. حینما یواجه الشاعر الغریب اللامبالاة بین المدنیین لأوّل مرّة، یظنّ أنّهم أغرباء مثله فیشاطرهم فی الحزن بنغمة هابطة، لکنّه بعدما یدرک فقدان أیّ صلة وقرابة بینهم یعلو صوته ویسأل سؤالاً یبدی استعجابه الشدید تجاه المدنیین الذین لا یهتمّ بعضهم بالبعض ولا یتنعّمون بأیّ عنایة والتفات یؤدّی إلى تحیّة تشیع عند الجمیع. یظهر صوت الشاعر العالی المزیج بالحزن والتعجّب فی عبارتی "حتّى" ثمّ "سلام". الواقع أنّ السیاق یساعد على الکشف عن التنغیم الصاعد الذی یتناسب مع استفهام یقصد التعجّب؛ لأنّ هذا البیت جاء إثر الأبیات التی تلهم عن احساس الشاعر ومفاجئته تجاه المدنیة وکذلک قد أنشد الشاعر هذه القصیدة فی المدینة عندما غلب علیه الإحساس بالحزن والألم إثر غربته ووحدته فیها.
5ـ3 تنغیم التحسّر عند عبدالمعطی حجازی إنّه ـ کما مرّ ذکره آنفاً ـ لکلّ تجربة شعوریة نظام صوتی خاص. فأی تغییر یحدث فی صوت المرسل یتبع مشاعره وأفکاره فی سیاق محدّد مع هدف خاصّ. فمن هنا أنّ الشعراء الذین یقصدون التواصل مع المخاطب فی خطابهم الشعری یرون هذا التغییر فی إطار التنغیم وسیلة لتحقیق هدف التواصل ولمس المتلقّی الدلالات الکامنة، فلذلک یحاول کلّ شاعر أن یختار نغمة تناسب مشاعره ونفسیته وتلیق بکلامه وهدفه. إنّ الشاعر عبد المعطی حجازی کغیره من الشعراء یمیل إلى استخدام نغمة موسیقیة مناسبة للتعبیر عن الحالات الشعوریة فی نفسه. تدلّ السطور التالیة التی تتمیّز بموسیقى هابط یظهر من الحروف والألفاظ، على مشاعر الحزن والألم عند الشاعر وهو یصف بهذه الأسطر سکون المدینة وعدم حرکتها وحیویتها. شَیْئاً ... شَیْئاً... یَسْکُتُ النَّغَم / وَیَهْدَأُ الرَّقْصُ وَتَتعَبُ القَدَمُ / وتَکْنُسُ الرِّیَاحُ کُلَّ مَائِدةٍ / فَتَسْقُطُ الزُّهُورُ / وَتَرفَعُ الأَحْزانُ فِی أعْماقِنَا رُؤُوسَهَا الصَّغیِرةَ (المصدر نفسه، ص 40). إنّ تماشی الإنشاد مع طبیعة الأصوات وموسیقى الکلام من جهة ومعایشة الحدث بصدق وبلوغ المشاعر النفسیة حدّها من جهة أخری، یضفی على القصیدة دلالة نفسیة تؤثّر على شعور المتلقّی وتدغدغ فیه عواطفه فتنتقل التجربة من المرسل إلى المرسل إلیه وعندها یحدث المشارکة النفسیة بینهما. هذه الأبیات بما لها تعلّق بإحساس الشاعر الغریب والمحزون تمتاز بموسیقى هادئة خافتة یغلب علیها السکون، وذلک للأصوات المهموسة التی لجأ إلیها الشاعر للتعبیر عن أحزانه وهمومه تجاه المدینة الخالیة من النشاط، کهذه الحروف التی تتمیّز بالأصوات المهموسة «ش، ف، س، ه، ق، ص، ع، ک، ز» (بشر، 2000 م، ص 173). وکذلک للألفاظ التی تدلّ على الهمّ والغمّ معنى ولفظاً، نحو: «شیئاً فشیئاً ویسکت ویهدأ وتتعب وتسقط والأحزان». کلّ ذلک أضفى على القصیدة طابع الهدوء والسکون والرتابة مما یلیق بالجمل التقریریة التی تتّسم بالنغمة الهابطة. کذا یمکن القول إنّ الوقف فی الکلمات الأخیرة لهذه الجمل، قد ساهمت فی تشکیل الموسیقى الخافتة. إضافة إلى ذلک، أنه هناک قرابة تامة بین غرض الشاعر ورصفه الکلمات، فمثلاً نراه جعل العامل ما یوحی بالسکون والمعمول الذی یتأثّر به ما یوحی بالحرکة. ثم قدّم العامل على المعمول تبعاً للغایة التی یرغب فی تحقیقها "یسکت النغم ویهدأ الرقص وتتعب القدم وتسقط الزهور". والواقع أنّ هذا الرصف والموسیقى التی ترافق الکلام تناسب نفسیة الشاعر والتنغیم الذی یعبّر عنها ویخبر المتلقّی عنها. صدمة المدینة التی یمضی فیها کلّ شخص مسرعاً کنمل هائل، هی أکثر ما حرّک حجازی وأثّر به لیواصل الغناء ویقول: سَلَّة لَیمُون، غَادَرت القَریةَ فِی الفَجْرِ / کَانَتْ حتّى هَذا الوَقتُ المَلعُونُ / خَضْراءَ ،مُنَدَّاةً بِالطَّلِّ / سَابحةً فِی أمَْواجِ الظِلِّ / کَانَتْ غَفْوتُها الخَضْراءُ عَروسَ الظَّیر / أَوَّاه!؟ مَنْ رَوََّعَها؟ / أَیُّ یَدٍ جَاعَتْ، قَطَفَتها هذا الفَجر / حَملتها فِی غَبشِ الإصْباحِ / الشَّوارعَ مُختَنقَاتٍ ،مُزدَحماتٍ / أقدام لا تَتوقَّفُ ،سَیَّارات ؟ / تَمْشِی بِحَریق البِنزینِ! / مِسکین / لا أحَدٌ یشمُّکَ یا لَیمون (المصدر نفسه، ص 35-36). الشاعر الذی فوجئ بالمدینة یتحدّث فی هذه السطور عن الامتهان الذی یتعرض له الإنسان حینما یهاجر من القریة إلى المدینة، بصوت یعلو بدایةً تحت عنوان "سلة لیمون"، فینخفض "غادرت القریة "، ثمّ یصعد مرّة أخری بتکرار المسند "خضراء ومندّاة بالطلّ وسابحة " لینتج عن تعبیرات مهمّتها الدلالیة أن تنسب مجموعة من الأحکام إلى محکوم واحد. النبر الذی یوجد فی عبارة "حتّى" یزید من علوّ صوت الشاعر الذی جعل مصیر اللیمون متشابهاً مع تجربته فی غربة المکان وفقدان الهویة والطبیعة. یصعد التنغیم فی عبارة "کانت فی غفوتها الخضراء"، ثم یهبط فی عبارة "عروس الطیر"؛ ذلک أنّ حجازی أراد أن یجعل المخاطب منتظراً لما یخبر عنه ویبیّن أنّ کلامه لا یتمّ، بل یستمرّ بالخبر الذی یلقى بصوت منخفض یدلّ على النهایة والإتمام. إنّه ـ کما قیل ـ جعل الشاعر اللیمون ممثّلاً لمشاعره النفسیة وتجربته الحزینة، ولذلک عندما یری أنّه لا أحد یهتمّ باللیمون، یعلو صوته تحسّراً ویسأل عن الذی قام بهذا النقل سؤالاً لا یهدف الوصول إلى الإجابة، بل یقصد به تبیین حزنه ویأسه. تتمیّز هذه القصیدة بالدرجة العالیة من النغمة الصاعدة التی تبدو فی تکرار المسند «جاعت، قطفت، حملت»، الذی یبیّن مصائب جرت على اللیمون المسکین أو بعبارة أخری، على الشاعر الحزین. وکذلک تبدو فی تکرار الخصائص السلبیة للمدینة التی تتضمّن الشوارع المختنقات والمزدحمات والسیارات التی تمشی بحریق البنزین. بعدما یتحدّث الشاعر عن السیارات والأقدام التی تتحرّک بسرعة بصوت عالٍ، یخفض صوته تبییناً لحزنه وقلقه للیمون الذی فقد قیمته عند الدخول إلى المدینة المختنقة بالغبار والبنزین. أدرک الشاعر الریفی الذی کان یعیش لحظات الفراق فی المدینة، قسوتها وعدم الحبّ بین أهلها، فهذا أضفى على کلامه الشعور بتأوّه وتحسّر یبدو من الصوت والموسیقى الذی اختاره. تنقل النغمة فی الأسطر التالیة إحساس الشاعر فی قلب مخاطبیه حینما ینشد: یَا وَیلَهُ مِنْ لَیله فَضاء/ وَیومِ عُطلتِهِ خَالٍ مِن اللِّقاءِ / یَا وَیْله مَن لَم یُحبّ / کُلّ الزَّمانِ حَولَ قَلبهِ شَتاء! (المصدر نفسه، ص 38). یلعب التنغیم عند الشاعر دوراً فاعلاً فی أنواع الفعل الإنسانی کالیأس والحزن عن طریق التلوین فی الدرجات التنغیمیة بمستویاتها العلیا والهابطة، حیث أبدی عن حسرته بالنغمة الصاعدة "یا ویله ومن لیله ویوم عطلته "، لمن لیله خالٍ لیس فیه أنس ویوم عطلته وحید ولیس له صدیق أو حبیب یزیل عن وحشته، ثمّ أهبط صوته "فضاء وخال من اللقاء" هبوطاً یتناسب مع همّه. یتحسّر الشاعر على من یعیش وحیداً فی زمن یجتمع الناس بعضهم بعضاً، الواقع أنّه یقارن بین قریته التی تحمل اجتماعات القرویین فی اللیالی وأیام العطلة وأیام یرجّحون فیها التعایش والرفق على العمل وبین المدینة التی تفقد هذا الصداقة والألفة وتخلو من الدفء والحنان، حیث یصبح الزمان شتاء فی قلب أهلها وساکنیها. یجد الشاعر فی هذه الموسیقى المنفعلة وسیلة للتعبیر عن تجربته الملتهبة ونقلها إلى الأذهان نقلاً حیّاً موحیاً. هو عند ذکر عبارة "کلّ الزمان" یعلو صوته لیرکّز على أنّ المدنیین ـ کما یظهر من سیاق القصیدة ـ فی کلّ زمن ضاعوا العلاقة والمصاحبة ولیبیّن حسرته على هذا الجفاف والبرد، ثمّ یسیر صوته من الأعلى إلى الأدنى بالتوازی مع إحساسه.
الخاتمة 1ــ عبد المعطی حجازی شاعر شعبیّ انصبّ اهتمامه على الناس وحاول أن یشارک المتلقّی فی إحساساته، لذلک اعتمد على التنغیم، لأنّها تقترب من المشاعر وتکون خیر وسیلة لنقلها إلى المخاطب ومساعدته على فهم المعنى ومشارکته فی خلق الأثر مشارکة نفسیة تسفر عن الانفعال والاقتناع. 2ــ قد لجأ الشاعر إلى التنغیم لإیقاظ شعبه وإثارة انتباهه، لأنّ للتنغیم دوراً فاعلاً فی الإثارة والتنبیه. 3ـ قد یظهر التنغیم عند الشاعر فی استخدام النداء، لأنّه شدید الصلة بالتنبیه وحقل مناسب لظهور التنغیم. 4ــ یتفاوت صوت الشاعر بین الهبوط والصعود وفقاً لما یهدف إلیه وما یشعر به، فیهبط صوته عند الوصف والخبر والإحساس بالحزن ویعلوه عند النداء والأمر والاستفهام والإشارة إلى التعجّب وما هومحطّ للإنکار والاهتمام. 5ــ اتّکاء الشاعر على التنغیم جعله یأتی بالجملة الاستفهامیة دون أی أداة. کأنّه أراد أن یشارک متلقّیه فی إنتاج خطابه الشعری وقراءته ففهمه. 6ــ هناک تناسب بین إحساس الشاعر وتغیّراته الصوتیة والألفاظ والحروف التی یستخدمها، حیث عند الحزن یهبط صوته ویمیل إلى الحروف المهموسة والمفردات التی تدلّ على الحزن معنىً ولفظاً. 7ــ قد یصبو الشاعر لإنجاز التواصل والاتّصال إلى آلیات آخری، نحو الوقفة والنبر الذی یقرب من التنغیم ورصف المفردات التی یستعین بها لتحقیق الهدف.
[1]. Semantics [2]. Intonation [3]. ولد الشاعر أحمد عبد المعطی حجازی عام 1935 للمیلاد بمدینة تلا فی محافظة المنوفیة بمصر. حفظ القرآن وحصل على دبلوم دار المعلمین سنة 1955. ثم حاز البکالوریوس فی علم الاجتماع من جامعة سوربن الجدیدة سنة 1987 ودبلوم الدراسات المعمّقة فی الأدب العربی سنة 1979. عمل فی الصحافة وترأّس تحریر مجلة "إبداع ". ترک الشاعر بلدته الریفیة وذهب إلى القاهرة لیعیش فیها تجربة جدیدة ویطلّ على عالم جدید، لکنّه عانى من قسوة المدینة وحیاتها الصعبة مقارنة بحیاته الریفیة البسیطة وکذلک عانى هناک من الغربة والوحدة. یعبّر عن ذلک فی قصائده المتعددة (جحا، 1999م، ص 432). عندما أدرک الشاعر موقفه داخل الإطار الثوری لعصره ومجتمعه والعلاقة بینه وبین العالم، حاول أن یبحث عن قصائده خارج نفسه ویجد مصدرها فی الإطار العام للحیاة وموقفه فیها. حیث یعترف ویقول: «ما لبثت أن وضعت یدی على النموذج الذی ظهر فی دیوانی الأول مدینة بلا قلب، نموذج الغریب فی المدینة، خاصة بعد أن توفّی والدی فأصبح إحساسی بالغربة قویًا وإن لم یصل أبدًا إلى حدّ القَتامة؛ ذلک لأنّ حنینی القدیم لعالم واقعی أفضل عاد إلى الظهور، حین تهیأت مجموعة من الظروف جعلتنی أومن إیمانًا قویًا بالاشتراکیة والوحدة العربیة لقد أمدتنی هذه العقیدة بالنموذج المقابل للغریب الضائع، وهو نموذج الثوری المتیقن...» (إسماعیل، 2007م، ص 399). فبعد ما أدرک الشاعر أوضاع المدینة وتعرّف على الذین یناضلون لأجل الوطن، غیّر مذهبه الشعری من المذهب الرومانسی إلى المذهب الواقعی الذی وجده الشاعر خیر مذهب فی ذلک السیاق. | ||
مراجع | ||
| ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 979 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 468 |