تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,658 |
تعداد مقالات | 13,565 |
تعداد مشاهده مقاله | 31,207,112 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 12,293,209 |
صلة الأدب بالأخلاق في آثار ميخائيل نعيمة | ||
بحوث في اللغة العربية | ||
مقاله 3، دوره 4، شماره 6، تیر 2012، صفحه 7-26 اصل مقاله (384.34 K) | ||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | ||
نویسندگان | ||
سردار اصلاني* 1؛ علي احمدي2 | ||
1استاديار گروه زبان و ادبيات عربي، دانشگاه اصفهان | ||
2دانشآموختة کارشناسي ارشد زبان و ادبيات عربي از دانشگاه اصفهان. | ||
چکیده | ||
الأدب في رؤية ميخائيل نعيمة هو التعبير عن الإنسان وکل حاجاته وطموحاته تعبيراً جميلاً صادقاً، والأخلاق هي مجموعة من الأصول والمبادئ التي تشرف على مسير الحياة والکمال وسعادة الإنسان. الأدب والأخلاق في آثار نعيمة ممزوجان، وثمة علاقة وثيقة بينهما ويتمخّضان عن معين الفکر الواحد ويتتابعان الأهداف المشترکة؛ منها: الوصول إلى معرفة النفس ومکنوناته والغاية من وجودها التي تُسفر عن معرفة الله والاتحاد به. ولا يمکن فصل الأدب والأخلاق في آثاره إلا في العنوان؛ لأنه کان شديد الالتصاق بالقضايا العامة، ووقوفه الصامد في مناصرة الأخلاق والقيم وفي مقدمتها قيم الحريّة واحترام الإنسان وحقوقه. وکان نعيمة أديباً فکرياً أخلاقياً، وشعوره مفعمة بالمعرفة والأخلاق السامية الرفيعة. نرى أنّ أدب نعيمة مرآة صافية لفکره وعواطفه وآلامه وآماله، وکان صدى حقيقي للمجتمع وما وقع فيه. وله رسالة سامية يقظة في تغذية الوجدان البشري، وإفاقة الضمير الإنساني، وتنمية الفضائل الأخلاقية. وأيضاً کان أدبه معبّراً عن النفس البشرية وبثّ الخير والفضائل والتمسک بالقيم الإنسانية. عزلته من الناس في زمان وعدم زواجه خلال عمره تحکيان عن أمانيه وطموحاته في النيل إلى معرفة الحياة وربّها، بينما الحياة العائلية في رؤيته تحول دون الوصول إلى هذه الغاية. الملاحظة الهامّة في هذه المقالة هي أنّ أدب نعيمة أدب ملتزم ورسالي بقي أميناً لرسالته، ويصوّر منهج الحياة المضيء للماشين والحائرين في ظلمات الجهل والوهم والشک؛ کما هو أدب إنساني موجّه يجعل الذات البشريّة محوراً له. وقد کرّس نعيمة جهده في سبيل سعادة الإنسان والحرية وإرواء القلب والفکر والروح. من هنا کلّما نتحدّث عن أدب نعيمة، نکشف عن الفضائل الإنسانية وآرائه القيّمة التي تشمل کل قضايا الإنسان والحياة. | ||
کلیدواژهها | ||
میخائیل نعیمة؛ الأدب؛ الأخلاق؛ الالتزام الأدبی؛ حریة التعبیر | ||
اصل مقاله | ||
المقدمة بما أنّ الأدب مرآة صافیة وصدى حقیقی لحیاة المجتمع، فمن شأنه ان یجسّد ما وقع فیه تجسیداً واضحاً بأسلوب جمیل وبلیغ. والأخلاق عبارة عن کیفیة سلوک الإنسان وتصرفه مع الله وحقائق الوجود والإنسان. وإذا کان الأدب تفسیر عن النفس الإنسانیة ــ التی انطوى فیها عالم کبیر ــ والتعبیر الجمیل والفنی عن رؤیة الأدیب الکونیة، فالأخلاق حصیلة عملیة لفهم الأدیب عن هذا التفسیر والتعبیر. وما کان شأن الأدب إلا أنّه المعبِّر الأفضل عن النفس البشریة. والتحدث عن النفس البشریة هو التعبیر عن العالم بأسره. هکذا یتناول الأدب الأخلاقَ وما یعنى به، ویهتم بالفلسفة وما هو مرتبط به، ویعتنی بالعلم وبالذی هو ذو علاقة به، ویعنى بالدین والتاریخ والسیاسة والاقتصاد وما هو على صلة بکل منها. و یتناول هذه الأمور کلها بأسلوب لیس فیه من الدین زماتته، ولا من الفلسفة جفافها، ولا من العلم تعقّده، ولا من الأخلاق قیمته، ولا من السیاسة سفسطتها، ولا من الاقتصاد تدجیله، ولکنه أسلوب یثیر فکر القارئ وخیاله ووجدانه. من المفاخر الروحیة والأدبیة فی الأدب العربی الحدیث هو میخائیل نعیمة الذی اعتقد بامتزاج الأدب والأخلاق امتزاجاً وثیقاً. اقتحم هو فی معارک فکریة وأدبیة لتعزیز الحق والمعرفة والجمال، وذلک بأسلوب أدبی ممتزج بالأخلاق، ومارسها فی سَدى أعماله الأدبیة ولحُمتها. فأدیبنا المفکر لم یکن من أصحاب «الفن للفن»، ولم یکافح طوال حیاته فی إثبات نفسه وشجب الآخرین، بل کان یعتقد بوجوب جهود الأدیب فی طریق معرفة الحیاة والحق للعمل برسالة الأدب السامیة؛ حیث یقول: «للأدب رسالة سامیة، وکل من أنکر على الأدب رسالته، کان مارقاً من الأدب» (دروب، 1972م، ص 98). هذه الرسالة هی مساعدة الإنسان فی قفزه من الأرض إلى سماء الفضائل الأخلاقیة والکمال الإنسانی المنشود. بدراسة آثار نعیمة وخاصة سیرة حیاته المسماة بــسبعون ــ وهی فی ثلاثة مجلدات ــ یثبت للدارس أنه لا توجد کلمة واحدة غیر أخلاقیة، ولا یسامح فی أی عمل أدبی له یفسر خروجه عن دائرة الأخلاق والعمل بمقتضاه. ندّعی أنه کان فریداً بین زملائه الأدباء فی أمیرکا الشمالیة ولبنان؛ وذلک لرؤیته فی وجوب مزج الأدب بالأخلاق والقیام بها عملیاً، فهو الأدیب الأخلاقی الملتزم بتمامه. وأما المقالة الحاضرة، فهی تبحث عن أدب میخائیل نعیمة والصلة الوثیقة التی توجد بین أدبه والأخلاق، وتبیّن مظاهر هذه الصلة فی مؤلفاته التی ساقها فی التعبیر عن فلسفة الحیاة؛ کما یتجلّى له فی تأملاته وفی خلواته، بأسلوب جمیل دون أیّ غموض وتکلّف.
1ـ ظروف حیاة الأدیب کان من شعراء المهجر المشهورین. ولد فی بسکنتا بلبنان سنة 1889م. من أبوین أمّیّین. تلقّى تعلیمه الابتدائی فی قریته، ثم التحق بمدرسة الطائفة الأرتوذکسیة التی أنشأها الروس. فأظهر نبوغاً وتفوّقاً لفت أنظار معلّمیه. فأرسلوه فی بعثة تعلیمیة إلى مدرسة الناصرة بفلسطین، حیث التحق بدار المعلمین الروسیة. ثم أُرسل إلى روسیا لاستکمال تعلیمه العالی. وهناک اطلع على آفاق الأدب الروسی؛ حیث استهواه الأدباء الروس وخاصة لیو تولستوی الذی أُعجب بآرائه وأفکاره الروحیة. وفی عام 1911م عاد من روسیا إلى موطنه لبنان، لکنه لم یستطع التکیف مع الواقع الاجتماعی هناک. فحزم أمتعته وسافر إلى واشنطن، وراح یتعلم اللغة الإنجلیزیة، والتحق بکلیة الحقوق وتخرّج فیها سنة 1916م. وخلال تلک الفترة الدراسیة کان قد التحق بإحدى الجمعیات الدینیة ذات الأفکار الروحیة المتصوفة. و فی عام 1919م التحق بالجیش الأمریکی لیؤدی الخدمة العسکریة. فالتحق بإحدى الوحدات المرابطة فی فرانسا. وبعد إنهاء الخدمة العسکریة التحق بجامعة «رین» فی فرنسا. وفیما بعد عاد إلى أمریکا سنة 1920م مزوّداً بمعارفه ودراساته الواسعة. فانضمّ إلى «الرابطة القلمیة» مع رفاقه من شعراء وأدباء المهجر الشمالی الذین اختاروه مستشاراً للرابطة، وعمل بها فترة طویلة. لم یطق نعیمة صبراً على الغربة، فقفل راجعاً سنة 1921م إلى موطنه لبنان لیستقر به حتى نهایة عمره. تأثّر نعیمة بالمؤثرات الکثیرة فی آرائه؛ منها: الأدب الروسی، والأدب الغربی، والفکر الصوفی الشرقی، والفکر الإسلامی الصوفی. ومن أهم أعماله: زاد المعاد، والبیادر،والأوثان، أبعد من مسکو ومن واشنطن، والیوم الأخیر، وأبو بطة، ویا ابن آدم، وهوامش، والغربال،والآباء والبنون، وأیوب (رسائل)، وأحادیث مع الصحافة، وسبعون،وجبران خلیل جبران، والدروب، وکَرم على الدرب، وهمس الجفون (شعر)، والغربال الجدید والمراحل. توفی میخائیل نعیمة فی الساعة العاشرة والدقیقة 22 من لیلة 28 شباط 1988م. عن 99عاماً. وکان فی مطلع الشهر نفسه قد حصل على جائزة «جواد بولس» للآداب. وفی تعلیقه على الجائزة قال نعیمة: «المال أسوأ عدوّ للإنسان». من أقوال نعیمة قبل وفاته: «أمهلنی قلیلاً بعدُ یا قلمی! قلیلاً وترتاح منی وأرتاح منک. أمهلنی ففی السراج ما تزال بقیة من الزیت، وفی الدواة بقیة من المداد. وقبل أن تستلّ الشمس نورها من عینی فتشرق ولا أراها، وتغرب ولا ترانی» (عبدالأحد، 2002م).
2ـ الأدب والأخلاق قبل أن نتطرّق إلى صمیم البحث، یجب علینا أن نأتی بتعریف الأدب والأدیب والأخلاق، حتى یُحَدَّد إطار البحث کی لا یؤدی إلى اطالة الکلام. الأدب هو التعبیر عن الإنسان وکل حاجاته وحالاته تعبیراً جمیلاً صادقاً من شأنه أن یمهّد له الطریق إلى غایته. والأدیب هو مرآة نفسه، ولیس علیه أن یکون مرآة عصره إلا على قدر ما ینعکس عصره فی نفسه. فقد یسبق الأدیب عصره، والمهم أن یکون مرآة صادقة لنفسه وأمیناً لرسالته؛ فیجمع حیث غیره یفرق، ویبنی حیث غیره یهدم، وینیر سبل الحیاة للماشین فی الظلمات. وأما الأخلاق، فهو مجموعة من الأصول والمبادئ التی تشرف على مسیر الحیاة وکمال الإنسان. کما أن میخائیل نعیمة یعدّ من أدباء المهجر ویمکن القول: إن الأدب المهجری کان أصدق تعبیراً عن نفسیة الأدباء الذین أنتجوه؛ ثم عن نفسیة أمتهم. فبُعدهم عن دیارهم جعل لدیارهم قیمة فی حیاتهم لیست للمقیمین. ومن خصائص أدب المهجر المیل إلى استبطان النفس البشریة واستکناه أسرار النفس البشریة؛ وأیضاً التجدید فی الموضوع والمیل إلى الطبیعة والامتزاج بها، والتأمل فی حقائق الکون وأسرار الحیاة. اتخذ نعیمة نزعة خاصة فی حیاته، وسیطرت علیه عاطفة التفاؤل وحب الحیاة والتفتّح علیها والتمتع بنعمها الغامرة. فجعل نعیمة رسالته فی إحقاق العدالة والحریِة وإزالة مشکلات الناس، وإرشادهم على طرق غیر التی یسلکونها. أدب نعیمة أدب ملتزم ورسالی، ومن میزاته حریِة الکلمة التی تجعله أن یغوص فی أفکاره وصور خیاله یسدّد خُطاها العقل والفطرة السلیمة. من هنا نتحدث عن أدبه الحرّ وأدبه الموجّه؛ إذ له رحابة الأدب ورحابة الکیان الإنسانی. یقول نعیمة حول مهمة الأدب: إنّ مهمة الأدب هی إقامة العدل ما بین الحاکم والمحکوم، ونصرة المستعمَر على المستعمِر، والمظلوم على الظالم، والمحروم على الحارم. لقد دعانی البعض هدّاماً. أجل، إننی لَهدّام، غیر أننی أهدم لأبنی. والذی أهدمه لیس کما یتوهم البعض أدباً قدیماً، والذی أبنیه لیس ما یدعونه أدباً جدیداً، فالجمال والحق ــ وهما کل الأدب ــ لا یشیخان ولا یتداعَیان ولا یقوى بشر على هدمها، إنّ آثاراً یترکها الإنسان فی الحجر تندثر باندثار الحجر، لکن آثاراً ینقشها الإنسان فی روح أخیه الإنسان لَباقیةٌ إلى الأبد؛ لأنّ الروح باقیة إلى الأبد. والأدب الذی هو بحق أدب، یجب أن یکون نقشاً فی الأرواح، لا غشاوة على الأبصار. فاطلبوا معاً أن یکون لنا أدبائنا رسلٌ للروح لا حاکةٌ للأقنعة المزرکشة (نعیمة،آ 1932م، ص 54).
3ـ الإنسان فی أدب نعیمة بما أنّ الإنسان یعتبر المحور الأساس لعلم الأخلاق، نلاحظ أن أکثر کتابات نعیمة تدور حول الإنسان وأسراره الکامنه وهدفه من الوجود وجبروته ومجده ومشکلاته المادیة والروحیة وافتقاره إلى الله. ولو ألقینا نظرة عمیقة على الإنسان فی عصره الراهن، لرأیناه بلغ الأوج کنسر فی القمّة الشّمّاء: وکان من حسن حظ الأدب العربی أن رُزق مفکراً کنعیمة، وفی أهم معقلین للحضارة الأوروبیة الحاضرة : روسیا وأمریکا، فرأى بأم عینه وبما وهبه الله من بصرة ظلمات هذه الخصارة وفضائحها، لیصبّ جامّ غضبه علیها فی نسق واحد ثابت فی جمیع ما ألّف وکتب وصرّح، وبنفس ثابت هادئ قویم» (شیا،1987م، ص 256). یرى نعیمة أنّ المجتمع الصالح لا یقوم إلا بالأفراد الصالحین؛ مثلما لا یقوم البناء الجمیل إلا بحجارة جمیلة. والعدل والحریة لاینبعان من القانون، بل من القلب والفکر اللذین هما مصدر کل خیر وشرّ. فمن شاء أن یبنی للإنسان عالماً یسوده العدل وتظله الحریّة، علیه أن یبنی أولاً وآخراً فی قلب الإنسان وفکره. ومن هنا تظهر أهمیة ملامسته للقضایا العامة، ووقوفه الصامد فی مناصرة الأخلاق والقیم، وفی مقدمتها قیم الحریة واحترام الإنسان وحقوقه. فی اعتقاد نعیمة، لا یمکن لأی أحد أن ینعزل عن مشکلات الحیاة مادام هو بعضاً من تلک الحیاة؛ وکیف؟! فالإنسان لا یکون إنساناً إلا إذا انعکست فیه کل الإنسانیة. وما نرى من أن بعض الکتّاب یمیل إلى العزلة عن ضوضاء الناس ومشاحناتهم التافهة، فذلک أمر جدّ طبیعی؛ إذ إن مثل ذلک الأدیب یستطیع فی عزلته أن یرى حیاة الناس بخیرها وشرّها من خلال عین لا یُعمیها الغبار الذی تثیره مشاحنات الناس، والرغوة التی یغرقون فیها إلى ما فوق آذانهم. وما أکثر ما یکون الأدیب قریباً إلى الناس من الذی یحتکّ بهم فی کل ساعات النهار واللیل، فینسى أنّهم إخوته وشرکاؤه فی حیاة؛ مثل ما هو أخوهم وشریک لهم فی حیاتهم! وما أکثر ما نعمى عن الأمور التی هی على بُعد خطوة منا، ونبصرها بوضوح إذا ابتعدنا عنها! ولا حیاة للأدب إلا من الحیاة. فهی له بمثابة الماء والهواء والغذاء للجسد. میخائیل نعیمة فی أدبه یتحدث کثیراً عن معرفة النفس وأسرار الطبیعة، ویرى أن الإنسان فی کل ما یفعل وکل ما یقول ویکتب إنما یفتّش عن نفسه، وأنّ سعیه وراء الجمال، وإنما نسعى وراء أنفسنا فی الجمال. وإن طلبنا الفضیلة، فلا نطلب إلا أنفسنا فی الفضیلة. وإن بحثنا عن المکروب، فلا نبحث إلا عن أنفسنا فی المکروب. أدب نعیمة فی الواقع مسرح یظهر علیه الإنسان بکل مظاهره الروحیة والجسدیة. فإنه یعتقد: إن الإنسان یرى فی الأدب نفسه ممثلاً ومشاهداً فی وقت واحد..هنالک یشاهد نفسه من الأقماط حتى الأکفان، وهنالک یمثل أدواره المتلوّنة بلون الساعات والأیام، وهنالک یسمع نبضات قلبه فی نبضات سواه، ویلمس أشواق روحه فی أشواق روح غیره، ویشعر بأوجاع جسمه فی أوجاع جسم إنسان مثله. فیرى من نفسه ما کان خفیّاً عنه،.وینطق بما کان لسانه عَییّاً عن النطق به، فیقترب من نفسه ویقترب من العالم (نعیمة، آ 1932م، ص 98). یلاحَظ أنّ نعیمة کثیر التحدث عن نظرته إلى الکون والإنسان والحیاة، مشدِّداً على ألوهیة الإنسان ووحدة الوجود، وعلى أن المدنیة هی فی داخل الإنسان، وأن العلم هو معرفة الإنسان نفسَه، وأن الکمال هو فی أن یتعرّى الإنسان من کل ما یعلق بإنسانیته من الأدران. و فی اعتقاده أن هدف الإنسان فی حیاته هو أن یعرف نفسه وجمیع ما انطوت علیه من قوى هائلة، لو أحسن هو استثمارها، لاستطاع أن یعرف النظام الذی یسیّره ویسیّر الکون، ولبلغ بتلک المعرفة أقصى ما یتمناه من الحریة والسلام والطمأنینة. فی رأی نعیمة کل ما فی الطبیعة ثمین وجمیل وشریف، ولکن أثمنه وأجمله وأشرفه على الإطلاق هو الإنسان. فهو الکائن الذی لا حدود لکیانه. هو الفکر الذی لا ینثنی یفتش عن ذاته وعالم کبیر وسرّ کنین وکنز دفین. هو الإنسان وإناء قدسی لحقیقة أزلیة أبدیة هی الله. ولا فرق بین رفیع ویافع، وبین شاب وأشیب، ونحن لا نملک من معرفة الغیب ما یخوّلنا أن نحدد قیمة أیّ إنسان، ثم أن نجعل تفاوتاً فاضحاً بین قیمة إنسان وإنسان. فالله ما خلق الإنسان لیُذلّه ویمتهنه ویشقیه، بل لیرفعه إلیه ویکرمه ویسعده؛ ولا براه من الطین لیُبقیه طیناً، بل نفخ فیه من روحه لیجعله روحاً کروحه. فالمعبد الأمثل هو الذی إذا ما دخله العابد ذلیلاً وصغیراً وکسیراً، خرج منه أبیّاً وکبیراً ومجنّحاً» (نعیمة، ب 1973م، ص 65). نستنتج من هذه الفقرة أن أفظع الناس فی عقیدة میخائیل نعیمة هم الذین یعتزّون بمذلة الغیر، وهیامهم فی وادی الجهل والظلمة، ویحبون الحکم والسلطان على الناس. فلا یسرّهم شیء مثلما یسرّهم أن یعفّر الناس لدیهم جباههم، وأن یزحفوا إلیهم على الأکفّ والرُّکَب صباحاً ومساء. ولعلّ أنبل الناس فی عقیدة أدیبنا هم الذین لا یُذلّون إنساناً، ولا یَذلّون لإنسان؛ لأنهم یعلمون أنّ رفعة تنهض على أکتاف الذُّلّ لَمذلّة أحطّ من الذُّلّ،وأنّ صورة الله فیهم هی صورة الله فی کل إنسان، وعلى الأجیال الحالیّة أن ینصرفوا قبل کل شیء وبعد کل شیء إلى تعزیز الإنسان فی أنفسهم. فمن عرف قیمته کإنسان، عرف قیمة الناس أجمعین. فما خفض الجَناح لمغرور بمال أو سلطان، ولا صعّر الخدّ على منبوذ أو مُهان. وإذا ذاک، فلعلّ الأجیال الآتیة تعرف عالَماً یسوده اللطف والصدق والتعاون، وتتذوق فی الیقظة ما لا نتذوقه نحن إلا فی المنام من حلاوة العدل والإخاء وحسن النظام. نلاحظ أنّ نعیمة فی أفکاره وأدبه یتطرق إلى شتى مظاهر الأخلاق، ویعمد إلى ضرب من النظریة النقدیة فی قضایا الحیاة وأمور الإنسان، وفی رأیه أنّ الإنسان کالبحر یقذف اللآلئ والأصداف، غیر أنّه أکبر من کل ما فیه من لآلئ وأصداف، وإن دبّ على الأرض برِجلین من رصاص، ویَدَین من حدید، فهو یمنطق الأکوان بخیال من نور. ویرى أنّ الإنسان هو الصورة الأسمى للقوة التی لله، وهو یملک مثلها القدرة على الإبداع والتنظیم، إلا أنّه لا یزال بالنسبة إلى تلک القوة کالطفل بالنسبة إلى والدیه؛ فهو یتفتّح جیلاً بعد جیل عن قوى کامنة فیه، ولا حدَّ لها على الإطلاق. والإنسان عند نعیمة نقطة البدء وعنده تنتهی النهایة: یموت ثم یعود فیولد من جدید لیتابع ما انقطع بالموت من حیاته الواعیة على الأرض. أما نهایته، فالکمال، والکمال فی نظر میخائیل نعیمة یعنی معرفة کل شیء، والقدرة على کل شیء؛ لأنه یعتقد بالتقمّص فی استکمال النفس وتصبیغها بصبغة الله؛ کما نرى أنّ الموت من منظار میخائیل نعیمة وجه الحیاة الآخر؛ فهو یصور اللحد بأنه مهد الحیاة، قائلاً فی تفاؤل غریب: «وعندما الموت یدنو واللحد یفغر فاه، أغمِض جفونک تبصُر فی اللحد مهدَ الحیاة» (نعیمة، 1945م، ص 8).
3ـ1ـ إیمان نعیمة بالإنسان بعد جولتنا الوئیدة فی أدب نعیمة، تبیّن لنا أنّ أخلاق نعیمة تجلّت فی إیمانه بالإنسان وبالله وبالفیض الإلهی ووحدة الوجود والحبّ والمحبّة والحریّة والمعرفة والمجاهدة وبقوى الإنسان والفضائل الإنسانیة؛ کالعفّة والطهارة والجمال والکمال والصدق والإخلاص والحق والحقیقة والعدل والمساواة والصبر والقناعة والسلام؛ وأثرها ظاهر جلیّ بوضوح فی کل ما خطّه قلمه. الملاحظة الهامّة فی أدب نعیمة هی الإنسان. هو العنصر الوحید الذی یملک نعمة العقل والإحساس والعاطفة. قلب نعیمة عامر بالعاطفة والإنسانیة، ونرى هذه العاطفة تجعله ینظر إلى الإنسان نظرة مِلؤها المحبّة والتفاؤل والطمأنینة. و کان یستمدّ الغبطة الروحیة والنشوة الإلهیة من الطبیعة مباشرة، فتطمئنه الطبیعة وتوحّد فی قلبه الخیر والشر، وقد أصبح قلبه واحة للقریب والبعید. فیتمنّى للناس جمیعاً أن یجعل الله قلوبهم قلباً واحداً، وأن یفعم هذا القلب محبّة وسلاماً وطمأنینة. فقد عالج نعیمة مسألة العلاقات الإنسانیّة بإثارة إنسانیّة الفرد وتذکیره بالعلاقات الأخلاقیّة النبیلة والسّامیة. فأیّ الناس لیس دعامة لحیاة کلّ إنسان؟ إنّه یرى النّاس یحیّون بعضهم ببعض، فکیف لا یحیّون بعضهم لبعض؟! إنّ الحیاة عنده شرکة إنسانیّة،والنّاس عائلة واحدة؛ فعلیهم أن یعیشوا فی ظلّ اشتراکیّة إنسانیّة کاملة. ویدعو إلى أن نعتبر الإنسانیّة بمجموعها شرکة تعاون، لا تمییز بین أفرادها. وقد أشار نعیمة فی أیّامه الأخیرة أنّه علینا أن نعیش فی عالم الأخذ والعطاء، لا فی عالم البیع والشراء. قد انبعثت آراء الکاتب فی الإصلاح الاجتماعی من إیمانه بالحیاة وغایاتها، ویبدأ بالفرد الصّالح لیصل إلى المجتمع الصّالح. من هنا یرید نعیمة أن یحرّض الإنسان على إصلاح نفسه حتى یستأصل جذور الجهل والرذائل فی مجتمعه. فالشیء الوحید الذی یلفت نظره، هو مناصرة المضامین الأخلاقیة؛ من ثمّ یشعف بها، ویضحّی نفسه لأجلها. ومن أهمّ هذه المضامین العدالة وحریّة التعبیر والإرادة والفکر. إننا نحسّ إحساساً عمیقاً بنبل رسالة نعیمة؛ فقد کان قلمه سلیساً ساقه فی قالب الإصلاح. فمن ثمّ نراه حیناً مِبضعاً وحیناً بَلسماً على کل ما خطّ. وقد عالج المسألة الإنسانیّة بالهدم والبناء معاً حین عمد إلى إبراز النّزعات المتضاربة فی أعماق المرء، من خلال الکلمات المتّضادة وألوان الطباق مثل: «الحاکم والمحکوم، والظالم والمظلوم، والهادم والمهدوم، والصّالب والمصلوب ». و أمّا إیمان نعیمة بالإنسان ودعوته إلى الاتحاد بالله والمساواة، فقد جعلا قلبه مسکناً للفضائل ومسکناً للورع والحبّ والصبر والإخلاص والصدق والوفاء. کل هذه الأحوال عبّر عنها فی ابتهالاته مصلّیاً منشداً : و اجعل اللهمّ قلبی / واحةً تسقی القریـب / و الغریب / مـاؤهـا الإیمان، أما غـرسها / فالرجـاء والحبّ والصبـر الطویـل / جـوّهـا الإخلاص، أما شمسها / فالوفاء والصـدق والحلـم الجمیـل. (نعیمة، 1945م، ص 43). لا شک أنّ الذی قضى عشرین سنة من عمره فی أمریکا یتعرّف على الإنسان الغربی بکل عاداته وتقالیده؛ فیقبل على ما یمیل إلیه الغربی من مضامین الحریة والعدالة، ثمّ الصراحة والإیجاز الذی یقتضی العیش فی البیئات الحضاریة. فیبدو أنّه استطاع أن یوفق فی قصده ــ تحریض الإنسان على الإصلاح ــ وسَوقه إلى المنهج الذی یرمی إلیه. فإذا تأمّلنا فی آثار نعیمة، نجد أنّ نزعته الإنسانیة واعتقاده بأنّ الإنسان صورة إلهیة تلعب دوراً هامّاً فی مسلکه. وهذه النزعة تبلورت فی أدبه، وهو دائماً یذکر بأنّه من أبناء الیوم لا من بقایا الأمس، ودائماً یهمس فی أذنه ویصرخ أنه إنسان إلهی یمتلک جمیع الأسرار الإلهیة، ولیس آلة فی ید هذا أو ذاک یتصرف بها ساعةَ یشاء. ومکانة الإنسان فی أدبه تنبثق من روحه الإلهی الذی منه، وتجلّت فیه معطیات وسمات إنسانیة. یتألق عطاء نعیمة فی الأدب الإنسانی حتى صار هو أحد نجومه الساطعة. وکم تدعو فی آثاره کل إنسان أن یعی حقیقة أصله التی انفکّت من مَعین العطاء والنعمة والجود! کان على الحق أن ندعو نعیمة ناسک «الشخروب»؛ إذ إنّه صوفیّ فی أخلاقه، وفی جهاده المتواصل، وفی شعوره العمیق بالمسؤولیة، مسؤولیة إنقاذ الإنسان من آفاته، امرأة کان أم رجلاً. وقد أحسّ بأنّ کل فرد مسؤول تجاه العالم بأسره؛ فدعا إلى الشرکة الإنسانیة. من هنا نلاحظ أنّ نعیمة لا یفرّق بین الإنسان الرجل والإنسان المرأة. فکلاهما مسؤول عن المجاهدة الفکریة والقلبیة، وکلاهما مسؤول عن الحیاة، والرجل دون المرأة فهو ناقص فی ناسوته ولاهوته. مع هذه التفاصیل، یظهر لنا أنّ هذا الإیمان بالإنسان فی فکرة نعیمة تختصر فی صوفیته وکونه صوفیاً فی الأخلاق؛ وهناک نفحات إلهیة فی منهجه الذی یدعو إلى المعرفة والکمال والاتحاد بالله. یرى نعیمة من خلال الإنسانیة آلام قومه وحاجاتهم؛ ولذلک یثور من أجل کرامة أمّته. وهذا الشعور یجعل نعیمة أن یفکر ویعمل أخلاقیاً، ویکون من المناصرین للفضائل الإنسانیة، ویجعله لا یخاف الموت ولا تضنیه فکرته؛ کما یبتعد عن أذى کل مخلوق؛ لأنّه یعتقد أنّ المخلوق جزء لا یتجزّأ من الوحدة الوجودیة. وذاب فی رسالته وعاش لها وبها، وظل یحیا فی صمیم الحیاة وخفق قلبه بالإنسانیة. وکما أشرنا، فإنّ التأمّل هو محور أساسی لأدب نعیمة. وفی هذه المرحلة نشاهد تفانی نعیمة فی الإخلاص والصدق والجهاد فی إرساء الفضائل الإنسانیة. تبرز النزعة الإنسانیة فی کتابات نعیمة فی أکثر من دائرة وإطار؛ فهو یرفض التحالف الإقطاعی والسیاسی، ویندفع مع عاطفته الإنسانیة؛ فیرى غاضباً ما یتمثل فی المجتمع البشری من انحراف عن جادة الخیر والعدل. ینظر نعیمة دائماً إلى مجتمعه بعینیه الناقدتین، ویقوم بالنقد، ویعرّف جذور الظلم والجهل والتخلّف فی أذهان الناس. من هنا یتعمق انطلاق نعیمة الإنسانی فی ثورته على المستبدّین الطغاة، وتصفو رؤیته فی استجلاء مصادر الظلم والجهل، وهو متفائل بمستقبل المجتمع البشری، شریطة أن یستیقظ الناس من غفلتهم وجهلهم. إنّه متفائل بالحصول على الفردوس المفقود الذی یأمله الإنسان ویحبّه؛ فمال إلى الإصلاح، وفی سبیل الإصلاح وجّه نظره إلى نفس الإنسان؛ إذ یرى أنّ جذور کثیر من الأمراض والآفات الإنسانیة تکمن فی عدم معرفة الإنسان بنفسه. وهو یرى سرّ نجاح الإنسان وسعادته رجوعه إلى نفسه؛ لأنّه یعتقد أنّ الحقیقة الأصلیة دفینة فی نفس الإنسان وینبع منها کل شیء. و لا شک أنّ أدب نعیمة غنیّ بالعدید من الخصائص الإنسانیة والقیم الروحیة العامة، وهو عامل رئیسی فی تحویل واقع الأمة العربیة من الرکود والجهل والخفقان إلى النهوض والوعی والانتباه والتجدید فی بناء الفضائل الأخلاقیة التی کادت أن تنسى على مرّ العصور. وله دور هام وفاعل فی بناء المدینة الإنسانیة.
4ـ الفضائل الأخلاقیة فی أدب میخائیل نعیمة 4ـ1ـ المحبّة المعهود أنّ میخائیل نعیمة قد تحدّث بالإکثار عن الحب والمحبّة فی أدبه الرائع؛ إذ إنّه یعتبر من الأدباء المهجریین الذین یفکرون وینظرون إلى الإنسان وکل ما یرتبط به من الحیاة والموت وخلود النفس والطبیعة رومانطیقیاً. من هنا تعدّ المحبّة من میزات هامة وأساسیة لأدب المهجر. المحبّة الّتی نتحدث عنها هنا لیست بمعنى حبّ الرجل للمرأة فقط؛ إذ المحبّة فی نظر نعیمة قوّة أبدیة وباقیة ما بقی الزمان، ولیست بفضیلة؛ إنّها ضرورة الحیاة. یشیر نعیمة إلى هذا الموضوع قائلاً: إذا أضاع الحب نفسه فیما تثیره شهواتُ اللحم والدم،فقد تخلى عن قوته، وأصبح عرضة للانحلال بانحلال اللحم والعظم. ومادام الإنسان یخضع حبّه لسلطان اللحم والدم، دامت الحسرات، والأوجاع تترصد عند کل عطفة من الطریق. فیجب علیه أن یختار بین ذاک وهذا، بین الحب الصافی والطاهر الذی هو غبطة صافیة، والحب الممزوج بشهوات اللحم والدم، الذی یحمل معه الکثیر من الأوجاع والآلام والمرارة وخیبة الأمل (نعیمة، 1952م، ص 246). المحبّة والحب مفتاح لکل أسرار الوجود. فبالحب تتماسک وتتلاحم جمیع الکائنات، وبه تحیا، وبدونه لا معنی لوجودها، والإنسان متى عرف ذلک الحب، عرف الله؛ کما یعتبره أقدس ما فی الحیاة الذی یکفّر عن جمیع الذنوب. یقول نعیمة: «إنّکم تحیون لتعرفوا المحبّة، وإنکم تحبون لتعرفوا الحیاة؛ فبغیر المحبّة لن نفهم الحیاة، وبغیر الحیاة لن نفهم المحبّة؛ فکأنّهما واحد» (المصدر نفسه، ص 78 ). إنّ البشریّة تشکو الیوم أکثر منها فی کل یوم قروحاً وجروحاً کثیرة فی قلبها، ولا بلسم لها إلاّ المحبّة؛ إذ المحبّة دستور الحیاة ومفتاح کل عقدة، وهی الألفة التی تربط کلّ ما فی الکون، ومفتاح السّعادة. فلولاها، لما تذوّق الإنسان لذّة الحیاة. و إذا کانت المحبّة تصاحب المعرفة، تستطیع أن تجلو بصائر الإنسان وأبصاره، ویُفیق ضمیره کی یکون یقظاً منتبهاً. والمحبّة هذه مرآة صافیة تعکس کل ما فی الکون صافیاً وجلیّاً. من هنا یعتقد نعیمة: البون الشاسع بین المحبّة والحب؛ إذ إن الإنسان یشتمّ فی المحبّة أریج الألوهة المنزّهة عن اللحم والعظم والدم. وأما الحب، فتفوح منه الغرائز الحیوانیة التی لا تعرف إلا إشباع شهوات جنسیة، ولیست سوى الممهِّد إلى المحبة المتسامیة عن کل شوق ــ غیر شوق الفناء ـ فی من تحبّ..وهذه المحبّة تعدّ من رؤیة نعیمة المصهر الروحی للرجل والمرأة ومسوّس الضمیر الیقظ» (نعیمة، 1973م، ص 82). نعم، المحبة فی آثار نعیمة لیست سوى ناموس الله، وهی عصیر الحیاة، فی حین البغضاء صدید الموت، والإنسان ما خلق وما عاش إلا لیعرف المحبّة ـ کما ورد فی القرآن:«لا أَسئَلُکُم عَلَیهِ أَجراً إِلَّا المَوَدَّةَ فی القُربىª (الشورى 42، 23). وأمّا ینبوع المحبّة، فهو یبدأ من نفس الإنسان؛ إذ الإنسان لم یکن طافحاً بالطاقة والقدرة النّفّاذة والنشاط الحیوی، ولیس کل من یحبّ نفسه یستطیع أن یحبّ الآخرین ویعشق بهم، فکیف لمن فی قلبه مرض وبغضاء وخمول؟! فهیهات أن یعرف نشوة المحبّة! وأصابت «ثریا ملحس» فی وصف مسیرة نعیمة مرحلة مرحلة بمختصر مفید؛ إذ قالت: «أحبّ نعیمة نفسه أولاً ــ ولعلّ هذه النرجسیة أو حبّ الذات أولى درجات الحب وأولى خطوات معرفة الذات ــ فأحبّها وکرّمها و هذّبها؛ ثم انطلق من بعد إلى الإنسان، ثم إلى الله، فالخلیقة، فالوجود» (1964م، ص 108). وهذا الحب هو رسالة نعیمة القدسیة. والحب هو القوة الإلهیة التی تحدو بالإنسان إلى البحث عن خفایا الکون. ولا یقدّم نعیمة الحب لأصدقائه ومحبیه فحسب، بل یقدمه لمبغضیه لقاء بغضهم؛ إذ نعیمة إنسان کبیر راحب صدره، ویعدّ الحبَّ مفتاح کل مشکلة وحقد وضغینة، ویشعر برسالته المقدسة التی غایتها الحبّ قائلاً: قـدّمت حبّی لمبغضـیّا / لقـاء ما قـد جـنـَوا علیّا / فکان حظّی مـن مبغضیّا / إن عـاد حـبّی بغـضاً إلـیّا (نعیمة، 1974م، ص 59). المحبّة فی اعتقاد نعیمة هی سلام وطمأنینة وحریّة وعنصر جذریة وراسخة للکون، ویرى أنّ الکون کله مکوّن من عناصر أربعة. کما یقول عنها:«عناصر الکون أربعة: م.ح.ب.ة،والعنصر الوحید یجمعها وهو أنا» (نعیمة،1946م،ص 65). وأما العناصر ــ إن کشفت ــ فهی الأحرف الأربعة التی تکون کلمة المحبة، وهذه سلالم « تربط کل ما فی السماء بکل ما فی الأرض» (نعیمة، 1936م ،ص 26). ونستنتج أنّ المحبّة فی نظر نعیمة لیست الفضیلة، بل إنها ضرورة أشدّ من ضرورة الخبز والماء والهواء؛ کما یقول: حذارِ أن یعتزّ أحد بمحبّته؛ إذ المحبّة لا تحمل معها المؤونة والنقود والمشقة، بل حسبٌ على الإنسان الإرادة والقصدحتى یحبّ الآخرین. وعلیه أن یتنفس المحبّة غیر مفکّر بها، وبمثل السهولة التی یتنفس بها الهواء؛ إذ لیست المحبّة فی حاجة إلى من یشید بها ویرفعها (نعیمة، 1932م، ص 112). یحذّر نعیمة الإنسان الذی یحبّ الآخرین أن یطلب ثواباً لمحبّته، غافلاً أنّ فائدة المحبّة ترجع إلى المحبّ لا المحبوب، ویتحقق للمحب الصدر الرحب والنشاط والسکینة الروحیة وإزالة الضعوظ النفسیة والحقد والبغض التی تسفر عن الأمراض الشائعة. وکلامٌ آخر لنعیمة عن المحبّة: «الحریّة لا تکون إلّا بالمعرفة، والمعرفة لا تکون إلا بالتعاون، والتعاون لا یکون إلا بالمحبّة، وأن المحبّة والمعرفة هما نهایة طریق الخیر والشرّ، وأوّل الطریق إلى الحیاة التی لا یحدّها خیر ولا یحصرها شرّ» (نعیمة، ب 1973م، ص 41).
4ـ 2ـ المؤاخاة والسلام فی العالم الذی یتعانق الإله والإنسان، ویندمج الجماد بالحیوان، لو فتّش الإنسان عن غده لوجده فی أمسه، وعن مهده لاکتشفه فی رمسه، وعن والده للقاه فی ولده، وعن نفسه لألفاه فی کل نفس. ولو أنّ الإنسان أبصر الحیاة ببصره، لما کان له من همّ سوى الانعتاق من کل همّ، حتى یستریح فی ظل السلام والطمأنینة. والیوم، المجتمع البشری بحاجة ماسّة إلى التضامن والوئام والطمأنینة لتحقیق أهدافه فی سبیل الوصول إلى الرشد والکمال والتطوّر فی جمیع جوانب الحیاة، حتى لا تساق حیاتهم إلى التباب والهلاک؛ کما جاء فی المثل: «لولا الوئام لهلک الأنام». من ثمّ یدعو نعیمة الإنسان إلى منابذة الصراع والمعارضة والضغینة والمفارقة، ناشداً إلى الإخاء والسلام والتضامن الروحی والفکری، قائلاً: ألیس الإنسان یسمّی من شارکه فی دم أبیه وأمّه ولحمهما ورَضَع الثدیَ التی رضعها أخاً لنفسه أو أختاً لنفسه؟ وما هو موقفه؟ فکیف بمن شارکه فی لحم الحیاة وخضمّها ودمها، ومن یرضع البقاء ویفطم الفناء فی کل لحظة من الثدی التی یرضعها؟! (نعیمة،ب 1972م، ص 28). وحقیق بالإنسان أن یقدّس الأخوّة إیماناً بانّ صلب الأخوّة المحبة. إنّ أخوّة کهذه فی رأی نعیمة ما یقول: الأخوّة المقصومة الصلب والمنفصمة الأواصر والوشائج لا تُنتج إلا القیح والوجع. إنّ الأخوّة کهذه لَأخوّة فی عینها رمد، وفی أمعائها هواء أصفر. ومادام الإنسان معرضاً عن الأخوّة الصحیحة والسِّلم الصحیح، ظلّت حیاته أرجوحة للحزن والألم، ومعترکاً للصراع والنزاع وفقدان الراحة. أمّا الأخوّة الصحیحة، فهی فی تلاشی المحبّ فی المحبوب، تابعاً أنّ السلام لا یمکن حصوله وتحقیقه فی مجلس الثواب، ولا یُحمى بمدفع أو مدرّعة أو صاروخ، ولا یحتاج إلى من یحمیه، بل یجب على الإنسان أن یفتّشوا عن السلام فی قلوبهم. أما فی غیر القلب، فعبثاً یفتّشون! (المصدر السابق،ص 30). میخائیل نعیمة إنسان مدرسة فریدة تستوعب الفضائل الإنسانیة بحذافیرها، ویخفق قلبه خفقاناً شدیداً للناس ولکمالهم ولسعادتهم، وقلبه ینبوع العطاء والسخاوة والمحبة؛ لأنّ الإنسانیة قوّة هائلة سلاحها المحبة والسخاء والمساواة. إنه یعتقد أنّ البشریة تتمثّل بکاملها فی کل فرد من أفرادها، وأنّ الله هو أبو الجمیع؛ لذالک کان لابدّ للإنسان من أن یعامل أخاه فی الناسوت معاملتَه لنفسه. و إن هو لم یفعل ذلک، وقع فی الخطیئة. والخطیئة ــ کبیرة أو صغیرة ــ هی عقبة فی الطریق إلى السعادة وهدفِه من الحیاة (نعیمة، 1936م، ص 86). أجل، قلب الإنسان مصدر المحبة والحنون ومصدر البغض والحقد، والإنسان مختار لاتخاذ أیٍّ منهما. ومن السخف والحماقة أن نزعم أنّ السلم یصون بآلة الحرب؛ إذ التوازن الذی أراده الإنسان حصناً للسلم، یصبح شَرَکاً له. للسلم عُدّةٌ وللحرب عُدّةٌ. عُدّة السلم الصدق والأمانة والثقة والتعاون والمحبة والعطاء والتعمیر، بینما عُدّة الحرب الکذب والخیانة والشک والتنابذ والبغض والنهب والتخریب. یستند میخائیل نعیمة فی اتخاذ السبیل إلى التعاون والحریة والسلام والإخاء بالقرآن، ویعدّه معجزة للناس التی تستطیع أن تجعل من الناس قوة غیر قوة الأساطیل البحریة والقنابل الجهنمیة. معجزة القرآن فی اعتقاد نعیمة هی البقاء وعدم ستر غبار الزوال علیه؛ إذ إنّها أقامت للإنسان هدفاً من حیاته، وکان بغیر هدف؛ واختطّت له طریقاً إلى الهدف، وکان بغیر طریق؛ وما اکتفت بأن أقامت له هدفاً واختطّت طریقاً، بل إنّها برهنت له بحیاة النبی وصحبه. إن ذلک الهدف مستطاعٌ بلوغُه على من سار فی الطریق. فحیاة النبی وخلفائه الأولین ملیئة بالعبر التی تهدی الناس سواء السبیل؛ فلا تترکهم ریشةً فی مهبّ الریح (نعیمة،1952م،ص 22). ویردف قائلاً: لو لم یترجم النبی وصحبُه القرآن إلى افعال، لما کانت المعجزة معجزةً، ولکنّهم ــ وقد امتلأت قلوبهم وعقولهم إیماناً ــ ما ترددوا فی ترجمة إیمانهم إلى أعمال وأقوال تتوافق کل التوافق مع ذلک الإیمان. ومن الأخبار النبویة خبر شاة ذبحها أهل بیته فی غیاب النبی، وفرّقوها على المعوزین. وعندما عاد النبی، أخبرته عائشة بما کان، وأضافت أنّهم لم یُبقوا لأنفسهم من الشاة إلا الکتف. فکان جواب النبی لها: لقد أبقیت کلّها إلا الکتف. إنه لجواب حوى من البساطة والبلاغة والحکمة ما لم تَحوِه مجلّداتٌ من الفلسفة. بقیت کلُّها إلا الکتف (المصدر نفسه). ومعنى ذلک أننا نکسب ما نعطیه، ونحسر ما نمسکه. فالذی ننفقه على الآخرین من أموالنا وقلوبنا وأفکارنا وأرواحنا یُحَسبُ لنا، والذی ننفقه على أنفسنا یُحسَب علینا. فنحن مطالَبون بسوانا قبل أن نُطالَب بأنفسنا! ونحن ــ وکلّنا عیال على الله ــ لا نستحق نعمة من نعم الله إلا إذا أبحناها من صمیم القلب لغیرنا من عیال الله. فهل من یدلّ الإنسان بعد ذلک على طریق إلى الإخاء والسلم والتعاون بین الناس، وبالتالی إلى الحریة، أقرب من هذا الطریق وأقوم؟! قصارى القول: إذا اراد الإنسان أن یعیش فی السلام والوئام، علیه أن لا یفتّش عنه فی المعاهدات الضخمة، ولا ینظّم المسودات الکثیرة لتحقیق السلام والإخاء، ولا یحاول أن ینقشه فی الصخر. فالقلم الذی یکتب کلمة «السلم» بسهولة یستطیع شطبها بمثل تلک السهولة وکتابة « الحرب والضغینة» بدلاً منها. من هنا یرى نعیمة أنّ قلب الإنسان مجرد المحکمة الذی لا یحتاج إلى القاضی، وذلک ینبوع کل شیء.
4ـ3ـ الحرّیة کلمة الحریة لا تزال کلمة غامضة جداً فی قوامیس الناس. وأقامت البشریة أهدافاً کثیرة لنفسها منذ أن استوطنت الأرض حتى الیوم إلا أنّ الهدف الذی کان له أبعدُ الأثر فی حیاتها وفی حیاة الشباب على الأخص، هو الحریة. ذلک الهدف الذی أریقت فی سبیله أنهار من الدماء الزکیة! فی العالم الذی نعیش، تُعَدّ الحریة الهدف الأسمى والثمین والأخیر للکائنات بحذافیرها، وفی طلیعتها الإنسان. وإذا شاء الإنسان أن یحرّر، فعلیه أولاً أن یتحرّر عن کل فرقة وقید ولون. والأهم التحرر عن نفسه. ومن کان عبداً لنفسه وحاجاته وأمیاله الشهوانیة، فحذار من أن یدعو الناس إلى الحریة؛ إذ إنّه لا یقودهم إلا إلى العبودیة. یضیف نعیمة أنّ هذه الحریة ثمینة وعظیمة جدّاً، وللأسف بعیدة عن متناوَل الإنسان: لماذا الإنسان لا یقدر الحصول على هذه الحریة؟ لأنّه یعیش دائماً فی جسدٍ حاجاته تتکاثر باستمرار، وصاحب الحاجة عبد لحاجته. حسب الإنسان أن یتّخذ من تلک الحریة هدفاً لحیاته، فیبدأ ــ وهو فی الجسد ــ یقلّل من حاجاته الجسدیة بدلاً مِن أن یزید فیها. ثم حسبه أن یتقبّل تأدیب الحیاة له بمنتهى الشکر والرضى، فیعمل على تنقیة نفسه من کل فکرة ونیّة وشهوة تعرقل خُطاه نحو الهدف. حسبه أن یوسّع دائماً أبداً فی وعیه لنفسه، إلى أن یصبح شاملاً شمول وعی الحیاة. وإذا ذاک، فالحریة لن تمتنع علیه (نعیمة،1975م،ص73) ومجمل القول: الحریة ما تزال مکتنف بحیاة الإنسان من بدایة نشأته وترعرعه. وعندما یجوع الإنسان إلى الحریة، فذلک دلیل على أنّ الحریة موجودة. ونستطیع أن نقول: کرامة الإنسان ومجده وأهدافه السامیة إلى الکمال والرقیّ العلمی ومحاولته للشموخ والتحلیق واختراع الإنتاجات المتطوّرة یوماً بعد یوم ولیدة تَوقه إلى الحریة، واستعادته جَناحی حرّیّته طلیقین قادرین. وشعوره بها شعوراً عمیقاً بها یفکّ عقال نفسه، فینبری للأشیاء یهدمها ویبنیها من جدید.
4ـ3 ـ1ـ الحرّیة علم ومعرفة وحیاة الحرّیة مدرکة واعیة، وهی العلم عینه، والمعرفة ذاتها من هنا توجد بین الحریة والجهل صلة وثیقة؛ حیث یکون الجهل لا یمکن تحقق الحریة والإنسان عبد ما یجهل ویرتبط العبودیة إذاً بالجهل بینما تستند الحریة إلى المعرفة والشعور والوعی والخلاص ولا طریق إلى الحریة الکاملة الا الوعی والخلاص.والمعرفة هی الطریق المؤدّی إلى الحریة، والحریة هی الطریق المؤدّی إلى المعرفة.فحیث لا معرفة لا حریة، وحیث لا حریة لا معرفة إذ بذر الحریة هو المعرفة والمعرفة الشاملة، الکاملة هی الحریة. الحرّیة الخالصة من الأوهام والخرافات ومن الأهواء الشخصیة والبریئة من الخوف والجبن والطمع والأنانیة. والحریّة تدعو إلى الفکر والفهم والشعور، وهی ــ على حدّ تعبیر میخائیل نعیمة ــ الثمرة النادرة التی «تنبت على شجرة نادرة تدعى الفهم والشعور» (نعیمة، 1946م، ص 91). و یرى نعیمة أیضاً أنّ المعرفة ذاتها هی تحرّرٌ من کل شیء، وأنّ الحیاة بغیر الحرّیة هی الموت. وقد سأل نفسه عن لسان الأرقش قائلاً :«لماذا تریدین أن تعرفی کل شیء؟ أجابت: لأنّی أرید أن أتحرّر من کل شیء. قلت: ألا تکون حرّیة بغیر معرفة؟ قالت: بل تکون عبودیة. قلت: ألا تکون حیاة بغیر حریة؟ قالت: بل یکون موت» (نعیمة، 1949م، ص 130).
4ـ4 الإیمان یعتقد نعیمة أنّ الإیمان بهاء ثمین مؤنس هادئ. إذا ما شاع فی دفائن نفس الإنسان، أزال ظلماتها وأدرانها؛ ثم یبصر الإنسانُ اللهَ فی قلبه ونفسَه فی قلب الله. لا یحصر زمان ومکان ولا یفصل أیّ فاصل عن أیّ إنسان، وینظر إلى الإنسان نظرة صافیة وتفاؤلیة، ویعرف بالضبط أنّه ونفسَه مساوٍ فی الخلق؛ لذا یعدّه کجارحة فی بدنه. یقول: الإنسان الذی یسعى إلى الحیاة والحریة لا یعتمد فی الدفاع عنهما على سلاح من الحدید والنار؛ لأنّه یعلم أنّ الحدید یفلّه الحدید، والنار تأکله النار، ولکنّه یتسلّح بالإیمان الذی هو أقوی من النار، وأمضى من الحدید بما لا یُقاس؛ إذ إنّ الإیمان الناجم عن أعماق النفس والمحصن بشغاف القلب، وهو الصلة المباشرة ما بین المؤمن وربّه، فلیست جمیع قوى الأرض بقادرة على أن تمسّه بسوء! (نعیمة،1952م،ص 32)
الإیمان فی نظر نعیمة: لیس تأدیة الغرائض بعینها فی أوقات وأماکن بعینها، ولا انصبابه فی قالب من الطقوس التی لا تتغیّر ولا تتبدّل. الإیمان فی اعتقاد نعیمة القوة الهائلة التی یَحسُن بالإنسان أن یتذرّع بها فی وجه کل مصیبة تنزل به، ویأخذ أبعاداً عرفانیة تتجاوز الإیمان العادی. (نعیمة،1977م،ص 86). الإیمان عند نعیمة نوعان : أعمى ومبصر. یقول عنهما: «الإیمان الأعمی هو الإیمان الذی یبعثه الخوف فی نفس المؤمن، ویثرثر به اللسان، ولا یمسّ شغافَ القلب من بعید أو من قریب. ذلک الإیمان هو أضعف الإیمان،.ولکنّه خیر من اللا إیمان». یرى نعیمة أنّ الخوف نقیض الإیمان اللذان لا یجتمعان، أما الإیمان المبصر فهو حصیلة التأمّل العمیق فی بحر الحیاة اللامتناهى. ومن شأن مثل ذلک التأمّل أن یبصر قلب الإنسان، یفتحه أمام النوایا الطاهرة، فتملأه محبة وخیر وسخاء، وأن یفتح فکره لمعجزاتها، فتملأه دهشة..والإیمان الأعمى فی الواقع عدوّ الإیمان ومواهب الإنسان. إنّه إیمان الشفاء دون القلوب. کل إیمان لا یقوم على الوعی والمحبة هو تخدیر للإیمان (نعیمة، ب 1932م،ص 181). من هنا یمجّد نعیمة الإیمان المبصر فی أکثر من مجال، ویدعو إلیه، کخطوة فی سبیل المعرفة؛ إذ إنّه ولید التأمّل العمیق فی بحر الحیاة اللامتناهی. ویضیف: تأتی المشاکل ومفاتیحها فیها، إلا أنّ الذین لا إیمان لهم بحقّ غیر حقّ السیف والساعد، یلجّون فی حلّها لجاجة تنتهی بأن تَخلقَ من کل مشکلة مشکلات. أما الذین یؤمنون بحق أقوى من الساعد والسیف، فإیمانهم یهدیهم إلى مفتاح کل مشکلة. (نعیمة، ب 1973م، ص 120) المعهود أنّ الشدائد والویلات محکّ الرجال. ومن کان متسلحاً بإیمان قوی، یجعل من الشدائد مطایا قویة للحصول على أهداف أبعد من أهداف الساعة، وإلى آفاق تتلاشى عنده الشدائد، کما تتلاشى غیمة فی الصیف. إنّ قلباً عامراً بالإیمان لَقلبٌ تنهار من حوله الشدائد، ولا ینهار بالشدائد. وإنّ روحاً یشدّ أزره روح الإیمان والحق، لَروحٌ یفهم أنّ ظلم الناس هو عدل الناس فی الناس. ولا یقنط من عدل الله، إذا ظلمه الناس، بل یعمل الحق کما یفهم الحق ویعشق به.
4ـ 5ـ الصمت والتأمّل ربّ حفلات دُعی الإنسان إلیها ویبتلی فیها بثرثار یحکم علیه الحصار إلى أن یتمنّى أن تنشقّ الأرضُ لتبتلعه. فالثرثرة الداء المستحکم فی کل ذی لسان لم تعقله عن الکلام عاهةٌ من العاهات. إنّ أقوى سلاح وأمضاها على الإطلاق یملکه الإنسان فی کفاحه وصراعه مع المجهول وکشف النقاب عن الألغاز الصعبة التی یواجهها هو الفکر والتأمّل. فلولا الفکر والسکینة والجوّ الهادئ، لخاض الإنسان فی غیاهب المغاور. یقول نعیمة: إذا الإنسان یُلهی الفکر بالقیل والقال، فکأنّه یسخّر العاصفة لنقل قشّة من هنا إلى هناک، والصاعقة لقتل ذبابة أو بعوضة، ومثلما لا یتمّ الجمل ولا ینمو الجنین إلا فی سکینة الارحام وظلماتها، کذلک لا، لا یُحبَل الفکر بعظائم الأمور إلا فی سکینة الخلوات والتأمّلات (نعیمة، آ 1973م، ص123). کثرة الکلام تَهلُکة للفکر والبشر. یهربون من السکوت والتأمّل. فأنّى لهم أن یدرکوا ویعرفوا الله؟! والذین ینادون باسم الله من غیر أن یدرکوه بالتأمّل والطمأنینة ومن غیر أن یجدوه فی أنفسهم، عبثاً یجدون طریقاً إلى الله. والجدیر بنا أن نتّعظ بأقوال المعصومین إشرافاً على أوقاتنا، ومخافة أن لا نسوقها فی أتفه الأمور. وجاء فی الأحادیث: «التفکّر ساعةً أفضلُ مِن سبعین سنةً عبادةً». أجل، بالصبر والسکوت والتعقّل ینال الإنسان کل شیء. ویقول نعیمة فی مذکرات الأرقش: «الکلام مزیج من الصدق والکذب. أما السکوت، فصدقٌ لا غشّ فیه. لذاک سکتتُ والناس یتکلمون» (1949م، ص 54). و من کلماته القصار: «إن یکن الصمت من ذهب، فما أغنى الخُرسان!» (نعیمة، ج 1973م، ص 52).
4ـ6 رحابة الصدر یستوعب أدب نعیمة جمیع الفضائل الإنسانیة والصفات الحمیدة استیعاباً کاملاً، بغیة أن یتسلح الإنسان بها بأکملها، لیسهّل المعقّد من سبیل المعشیة، ویتعامل الحیاة سلماً وصفاءً. ولئن اکتملت للإنسان کل الصفات الحمیدة إلا رحابة الصدر، بقی ألعوبة فی أیدی الزمان. ورحابة الصدر تعنی الصبر الجمیل على معارضة الدهر وصروفه من أیّ نوع کانت، ومن أیّ مصدر نبعت، کیما یتاح للفرد أن یقوم ویستحکم نفسه وشخصیته أمام الویلات ومتناقضات الحیاة. وأما إذا الإنسان حاول القضاء على کل معارضة وسیّئة، فهو منتهى الاستهتار بالعقل والمنطق؛ لأنّه فوق طاقة أیّ إنسان. ویتطرّق نعیمة إلى هذا الموضوع ویعطی الإنسان الحالی المنهج القویم لإرساء هذة الخصلة القیّمة فی نفسه قائلاً: إنّ المعارضة هی الطریق الأوحد إلى المعرفة والحیاة والحریة. ولولا المعارضة، لما کانت حرکة، نشاط أو حیاة. لقد کان الله ــ وهو القدیر على کل شیء ــ رحب الصدر إلى حدّ أنّه خلق من ذاته معارضین لذاته. فما دام الإنسان بعیداً عن المعرفة التی لا یفوتها علم شیء، وعن القدرة التی لا تعاندها قدرة، وعن الحرّیّة التی لا یحدّها حدّ، والحذر أن یضیق صدر الإنسان بمعارضة معارض أو بمنافسة منافس! والإنسان کلّما تبرّم بمعارضیه ومنافسیه، شدّد أزرهم على نفسه، وشحّذ سلاحهم ضدّه، وهم حادوا بالإنسان عن جادة الصواب والرشاد إلى جادة الضلال والفساد (1952م،ص 53). من هنا لیس خلیقاً بالإنسان أن یزدری بأیّ إنسان من الناس؛ سواء الإنسان القوی أو الإنسان الضعیف، وعلیه أن یبتعد عن السوء والظلم؛ لذلک یوصّی الإنسان برحابة الصدر تجاه الأقویاء والضعفاء على السواء. ومن ضاق صدره بالمعارضة وسوء النیة، ضاق بالحیاة التی لا تقوم بغیر المعارضة؛ لانّ الإنسان لا یکون إلا أفکاره وتأملاته عن الحیاة، وکل ما یحدث فی خضمّ الحیاة. والصدر یضیق أو یتّسع على قدر ما تصغر وتهون النفس أو تکبر أو تعزّ، فی حین أنّ النفس الصغیرة تضیق بالکبیرة، فتنصابها العداء. تتسع الکبیرة للصغیرة، فتقابلها إما بالصفح وإما باللامبالاة؛ لذلک کان صغار النفوس مبعث الفساد والقلق فی الأرض، وکان کبار النفوس ملح الأرض وخمیرتها، والواحات الندیّة النضرة فی صحاریها (1946م، ص 49). أجل، إن الحیاة مبنی على الأخذ والعطاء والمحبة وطهارة القلب وغسل العین وصفاء النیة دون أیّ منّ وطمع؛ لذا إذا حصر الإنسان صدره، حصر الآفاق أمام عینیه. إذا الإنسان ضاق صدره بالحیاة ولم یکن له عین طاهرة حتى ینظر إلى الآخرین نظر الإنسان الحنون الذی خالٍ عن أیّ سوء وتشاؤم وحقد وحسد، فی الواقع لا تحصل له فائدة من حنکات الحیاة، وإنّه لعبء على الحیاة والموت معاً. وینصح نعیمة الإنسان أن یفقّه لحظة فیما یکون حوله وما اکتنفه من أسرار الحیاة وغوامضها حتى یتعلّم رحابة الصدر من الأرض ومن البحر ومن الهواء: الأرض لا تضیق بالظَّرِبان دون الغزلان، وبالتراب دون التِّبر والفضّة، وبالأشرار دون الأبرار والبحر لا یقبل اللؤلؤة دون البنفشجة، والجدول الصافی دون الساقیة العکرة، ومراکب الحجّاج دون مراکب القُرصان. والهواء لا یرقص لشَدو البلبل، ویمتعض لنقیق الضفدع، وهو لایستأنس بالنهار ویستوحش باللیل. وعلى الإنسان أن یستلهم من الطبیعة ویتعلّم منها درس الحیاة والإخاء والسخاء والتعاون وصفاء الباطن قبل کل شیء وبعد کل شیء سیراً على برکات الله، ویتذکر فی خَلَده أنّ الحیاة کلها أخذٌ وعطاء دون أیّ طمع (السابق، ص 55) .
4ـ 7 حسن الظن والتفاؤل کما نعرف، إنّ میخائیل نعیمة یعتبر من أدباء المهجریین، ومن میزاتهم هی النظرة التفاؤلیة إلى الکون وکل ما فیه، النظرة التی تساعد الإنسان على اختیار النهج السدید فی الحیاة مؤدیاً إلى الحیاة الفضلى والسعادة والکمال ومعرفة الله. ویرى نعیمة أنّ کل ما فی الطبیعة جمیل وثمین ومنظّم، والطبیعة مدرسة للجمیع، وأمّنا الرؤوم. منها لحوم الناس وعظامهم وأنفاسهم ومهدهم ولحدهم. ویناشد الإنسان إلى التفاؤل وعین الرضا قائلاً: «کل ما فی الکون هو جمیل وکمال، ولا حریّ بالإنسان أن یُغمض عینَ الرضا ویفتح عین السوء» (نعیمة، ب 1972م، ص 148). یقول نعیمة: کیف للإنسان أن تکون له عین رضى وعین سوء فی آن معاً؟! ألعلّ الرضى والسخط، والحسن والبشاعة، والأنس والاشمئزاز صفات کامنة فی حدقة العین وإنسانها، حتى إذا هی نظرت إلى الکائنات، أبصرت بعضَها بغیر سیّئة أو عیب، فکانت عین الرضى، وأبصرت الآخرَ طافحاً بالعیوب والمساوئ، فکانت عین السوء؟ ولکن العین لیست أکثر من آلة فوتوغرافیة تلتقط ما ینعکس علیها من الأشکال والألوان. وسیّانِ عندها أکان ما یُرتَسم علیها کومة من الزّبل والدیدان أم حَفنة من الجوهر! (المصدر نفسه، ص 115) الکمال فی رأی نعیمة: الجمال، و الجمال یعنی الانسجام التام؛ وحیث الانسجام التام لا مجال لـ « لولا» و« لعلّ» و« عسى»، فلا نقص ولا عیب ولا لومة للائم. أما الإرادة، فعملها أن تعکف على ما یراه الفکر والخیال، فتجعل منه حقائق راهنة یقتلها الوجدان الحیّ عن رضى، وعن إعجاب ومحبّة (نعیمة، آ 1973م، ص 58). کما قیل فی الأمثال: «ولا بد دون الشهد من إِبَر النحل»، وعلى الفکر والخیال أن یدرکا أن شهد النحلة ما کان لولا إبرتها، وأن النحلة الکاملة لا تکون بغیر إبرة کاملة، وعلى الإرادة أن تجعل الإنسان یرضى عن إبرة النحلة رضاه عن شهدها. إنّ عین الرضا هی العین التی تقیم فی بؤبؤها وجدانٌ تَعَلّم أن ینظر إلى الأکوان بمجموعها لا بأجزاءها؛ فهو لا یبارک أنوارها ویلعن ظلالها؛ لأنّه یعرف أن النور لا یسطع إلا فی إطار من الظل. فالنقص ظل الکمال، والبشاعة ظل الجمال، والرذیلة ظل الفضیلة. (المصدر نفسه، ص 111) یتبع نعیمة قائلاً: إن أحوج ما یحتاجه الإنسان الیوم وفی کل یوم هو عین الرضى. فلو کان له مثل تلک العین، یبصر بها الزوج زوجه، والأب بنیه، والجار جارٌ، والإنسان أینما کان أخاه الإنسان لما عرف مآسی المخادع الزوجیة، وصراع الآباء والبنین، وخصام الجار مع الجار، وثورة الإنسان على الإنسان، بینما عین السوء هی التی یُطلّ من إنسانها وجدانٌ یقوم بفکر مغلق وخیال هزیل وإرادة مرضوضة؛ فلا تستطیع أن ترى الأشیاء إلا إذا سلخت بعضها عن بعض وبعثرتها نتفاً. وبمثل تلک العین تتلاقى الأمم وتتخاطب وتتعاقب، ثم لاتلبث أن تتشابک فی میادین القتال (السابق، ص 111). من هنا نرى أنّ نعیمة یهزأ بالمتشائمین ناشداً: ذمُّک الأیـامَ لا ینـفـعـکا / فهی لا أُذنَ لها تَسمَعُـکا / لا ولا عینَ تـراها عقـرباً /فی دیاجیر الأسى تَلسَعُکا / ذمّـک الأیـام لا ینفـعـکا / إنمـا الأیـام لا تسـمعـکا / فهی منک الظل یا صاحبیا / عـجباً! ظِلُّک کـم یخدعکا! (نعیمة، 1945م، ص 64). یهجم نعیمة على المتشائمین محاولاً أن ینبّهم على الحیاة وسلطانها على الأحیاء، وهو دلیل على سرّ الحیاة الذی یرمی إلى الغایة المنشودة. ویصرّح أن الإنسان هو أسمى مظهر من مظاهر الحیاة على الأرض، وهذا الإنسان ما عاش فی هذه الحیاة إلا لیبلغ غایتَه وکماله، ولو لم یکن واثقاً من مقدراته ومؤهلاته وعظمته کعصارة الحیاة وکذریعة نشأة الحیاة، لاستسلم لنکبات الحیاة وصروفها وللموت من زمان. ألا أغمِض اللّهمّ عینَ السوء فینا، وافتح لنا عین الرضى، لعلّنا نبصرک فی أجسادنا وأرواحنا، وفی کل ما نثرتَ وکل ما صوّرتَ لنا من جمال وکمال. هنا نأتی بنبذة من الحوار الذی جرى بین «نسیب عریضة» و«میخائیل نعیمة» فی نیورک عام 1916م، والذی یدلّ على روح أدیبنا السامیة وفکرته الأخلاقیة وکونه أسوة للقیم الفکریة والروحیة: ــ أین ترید أن تعیش؟ ــ فی لبنان. ــ أیَّ الأخلاق تهوی فی الرجل؟ ــ الشهامة. ــ وفی المرأة؟ ــ الصدق. ــ وأیّها تکره فی کلیها؟ ــ الریاء. ــ لو لم تکن أنت میخائیل نعیمة، فمَن تودّ أن تکون؟ ــ أفلاطون. ــ ما رأیک فی السعادة؟ ــ أن أجعل غیری سعیداً. ــ ما رأیک فی الشقاء؟ ــ عظة یفهمها الحکیم ویتذمّر منها الجاهل. ــ بماذا أنت ممتاز على ظنّک؟ ــ بالتفانی فی سبیل ما أحسبه حقاً. ــ ما هو أشرف میل طبیعی؟ ــ الحبّ. ــ ما هی ألطف الکلمات؟ ــ أخی. ــ وما أقساها؟ ــ عدوی. ــ ما هو غرضک فی الحیاة؟ ــ أن أکتسب اختباراً یزید نفعی لنفسی وللغیر . ــ أیّ الکتب تُؤْثر؟ ــ الإنجیل. (جریدة الحیاة، بتاریخ 8/12/2001م، نقلاً عن www.awudom.com).
5ـ فی سبیل المعرفة الأدیب الذی کانت سبیله المعرفة وسلک طریق الحق والکمال والأخلاق لابدّ له من التأهّب والاستعداد للمجاهدة الروحیة. أما زاد المجاهد، فهو الفضائل الإنسانیة الرائعة التی تجعل الإنسان کبیراً فی ذاته. کان نعیمة متزوّداً بالفضائل، وجاهد فی سبیل تحقیقها؛و لا غرو إذا حاول نعیمة فی صباه أن یقلّد أباه؛ لأنّ الأب یکون المثل الأعلى لکل صبیّ. فکان أبوه صبوراً قَنوعاً مسالماً صامتاً متأمّلاً عمیق العاطفة، ولا یزال أدیبنا یکبر، وتکبر معه فضائله؛ کما کره الخصام والکذب والریاء، وأقسم أن یحاربها حیثما کانت. ومن طبعه حبّ للوئام والسلام وطلب المعالی والسمو إلى أقصى ما یمکن أن یبلغ الإنسان إلیه. فی اعتقادنا، لعلّ الدافع الذی جعل أدیبنا أن یختار القلم فی سبیل القیم الأخلاقیة والذبّ عنها هو تأثّره بالکتّاب الروس الإنسانیّین الذین خدموا الإنسانیة بروائعهم، وأحیَوا الضمائر، وحاربوا الظلم والاستبداد، والجهل والفقر فی کل مکان؛ لذلک قد تحمّس جداً للقیم الإنسانیة التی شاعت فی الأدب الروسی. ونرى بوضوح التزام أدیبنا برسالته التی حملها فی أدبه، وهی نشر القیم الإنسانیة العالیة المبنیة على الإخاء والسلام والإخلاص والمحبّة؛ کما حاول نجاة الإنسان من رغوة المدنیة الغربیة. وحمل نعیمة هذه المسؤولیة على عاتقه راضیاً بالقلم؛ إذ إنّه کان یکره العنف والرخوة فی جمیع مظاهره، وأکبّ على القلم میلاً وشوقاً، وهیّأ نفسه للامتثال أمام الحق، ودافع عن الفضائل الإنسانیة بقلمه. وقد ترعرع الحق فی جمیع جوانب حیاته على لسانه، وقتل الخوف فی قلبه، ولم تُسکته قوّة عن قول الحق، ولو کان على نفسه. والمقطوعة التالیة تُغنینا عن الإطراءات والمغالاة والإطناب. فَلْیکنْ لی یا إلهـی من لسانی شاهـدان صادقان إن أَفُـهْ بـالحــقّ فلْـیشـهــدْ معــی أو أَفُـهْ بـالباطل فلْیشهـــدْ علىّ و إذا مــا قــــام غـیــری یـدّعــی یـا إلـهـی الحـقَّ فـی بــطل وغیّ فـلْیــکـنْ سـیفــاً لســـانـی حــدّه فــی سبیــل الحـق مـاضٍ لا یـهاب لا یـکــفّ الضـــرب حتى ضـدّه یـنثنـی عـن غیّــه نـحـو الصـواب (نعیمة، 1945م، ص 54) ما یلفت النظر فی أدب نعیمة هو أنه منذ ترعرعه عقلاً وقلباً ضحّى نفسه فی سبیل الفضائل الإنسانیة والقیم الروحیة. ونرى زیادة تمسّکه بالفضائل الإنسانیة ورفض المکاره عندما احتّک بالغرب؛ فضاق صدراً بمادّیّة الغرب، وندّد بالغرب؛ لأنه لا یرحم الإنسان، وإن کان رحیماً به، فرحمه ظاهری. کما اعتبر نعیمة الغرب عائقاً فی سبیل المعرفة الکبرى والسعادة العظمى. فهذه نظریة أخلاقیة بحتة نتقبّلها؛ إذ یعتقد نعیمة أنّ فی إقرار الشرق بضعفه وعدم إشرافه على قوى الموت والحیاة لیس بمعنى رفضهما، بل یعترف الشرق بالموت والحیاة، لکن التأمّل هنا، أن الغرب یکابر قوى الموت والحیاة بجمیع طاقاته؛ إذ إنّه یکفر بالله، ولا یؤمن بالموت والحیاة. من هنا جاء کفرُ نعیمة بالغرب الآلی، وإیمانه بالشرق الإنسانی. وقد أعجب فی حیاته بأقوال السیّد المسیح Uفی الله، وأقوال محمد & فی الله، وأقوال «لاوتسو»[1] فی الله. وهو ثار على کل عمل قبیح شنیع من أجل الإنسان، ومن أجل سلامته وطمأنینته وهدوئه وعزّته وکرامته. کما أنّ نعیمة کان فی الصراع الدائم مع نفسه وصولاً إلى المعرفة والحقیقة. وهذا الصراع یمثّل قمّة نضجه الفکری التی بلغها بعد معاناة طویلة مضنیة فی سبیل المعرفة. من هنا نرى أنه یقف کتاباته وأحادیثه ومقالاته وخطبه على تبصیر الناس بالمعرفة. ما تجدر بالإشارة هنا أن نعیمة کان واقفاً على جمیع لحظات حیاته؛ إذ کان هدفه فی الحیاة محدّداً وموجّهاً، وقد صوّر لحیاته وحیاة الآخرین المنهجَ السدید للوصول إلى المعرفة؛ لذلک یهجم على الذین یقضون أوقاتهم لهواً وعبثاً، وینخرطون فی أودیة الهُیام والارتباک. وکان یعتقد أنّ العمر فرصة لکسب المعارف والوصول إلى غایته هی المعرفة الکبرى. والمعرفة الکبرى فی اعتقاد نعیمة لا تحصل إلا عن طریق المراقبة ومحاسبة الإنسان نفسَه، ویرى أن الإنسان خلیق به أن یزیل ضباب الجهل والشک عن آفاق نفسه. ولابدّ من بدئه بنفسه وتطهیر قلبه وضمیره من آفات البشر من الحسد والذل والبغض والحقد والنمیمة والجشع والکبریاء والغرور وحبّ الظهور والغضب. وبعد أن تقهر تلک الآفات، تحلّ محلّها الفضائل وتتوافر للإنسان النشاط والعقل والإیمان، ویُعبَّد المسیر فی طریق المعرفة. کما یبدو لنا، کان نعیمة کثیر التأمّل فی الطبیعة وفی کائناتها عامّة؛ فقد بات یقلقله ویلحّ علیه بالسؤال تلو السؤال. فجزم عزمه على معرفة الأسرار وإزالة الشکوک والتردیدات حتى یحظى بالمعرفة الکبرى التی هی العودة إلى المنبع الصافی بعد التخلّص من الجسد. و نلاحظه فی ابتهالاته یطلب من الله أن یوقظ ضمیره ویعطیه عیوناً بصیرة وأذناً واعیة: کحِّل اللهمّ عینی بشعاع من ضیاک کی تراک فی جمیـع الخلـق، فی دود القبـور فی نسـور الجـوّ، فی مـوج البـحار فی صهـاریج البـراری، فی الزهـور فی الکلا، فی التِّبـر، فی رمـل القفار (نعیمة، 1945م، ص 62) هکذا نرى قلب نعیمة یخفق للوصول والقرب إلى الله خفقاناً شدیداً، کما له تعطّش إلى المعرفة التی لا یجد لها منسرباً. وعندما کحّل الله عینیه بقبس المعرفة، انجلت أمامه المخلوقات وتساوت، ورأى نفسه سعیداً فی نشوة إلهیة. ورأى الله فیضاً فی جمیع الکائنات. و هذه النزعة إلى المعرفة یشتدّ فی جمیع جوارح نعیمة حتى یستأثر به. وبتلک النزعة نَعَمَ نعیمة بالمعرفة الکبرى، وانتهى إلى الفهم المقدّس، بعد المجاهدة والإشراق والمشاهدة. کما هو ینعم بنشوة الإیمان بالله والخلیقة. ونلاحظ أنه اندفع مبتعداً متتبعاً مرّات خُطى المسیح فی جبال الناصرة وأودیتها لیسعد بالغبطة الروحیة. وما عاش إلا بالیقین والإیمان بأنّ الخلیقة لم تکن من العدم، بل خالقها هو الله الذی لا یحدّه زمان ولا مکان، فرکع إلى الله وآمن به إیماناً ما أحاط به أیّ شک وإضطراب. و هذا الصراع الدائم مع نفسه فی سبیل المعرفة هو أروع ما فی أدبه؛ حیث جعله من المحاور الرئیسیة التی تدور علیها فکرته. ومن خلال تصویر کفاحه العنیف الذی نقول فی النهایة: إن نعیمة أدیب أخلاقی تزخر آثاره بالدراسات الإنسانیة الأخلاقیة، ولا یتخلى الأدیب فی أثر من آثاره ومقالة من مقالاته عن تجاوب الأدب والأخلاق. وددنا أن نعالج شتى المظاهر الأخلاقیة ضمن المختارات النثریة والشعریة؛ إذ إن عنوان المقالة جامع ویستوعب جمیع آثار نعیمة، لکن خشینا أن یتجاوز حجم المقالة الحد المحدد والمرسوم له؛ فاکتفینا بهذا المقدار، وجعلنا هذه المسؤولیة على عواتق الذین یخفق قلبهم للفضائل الإنسانیة والأخلاقیة. ونحسب أننا قد أدّینا الرسالة بهذا الأمر؛ وما توفیقنا إلا بالله علیه توکلنا وإلیه ننیب.
نتائج البحث فی نهایة المطاف وبعد هذه السیاحة القصیرة فی صلة أدب نعیمة بالأخلاق وآرائه وأفکاره حول الأخلاق والحیاة والإنسان، نستنتج أن أدب نعیمة ترجمان للفضائل الإنسانیة والأخلاقیة والقیم الروحیة. فهو لم یکن أدیباً فحسب، بل حاول أن یکون هادیاً إلى الحیاة الفضلى وإلى طریق الکمال والسعادة. و نودّ أن نرکّز على الحقایق التالیة التی تمثل نتائج البحث: 1. التأمّل والتفکر روح أدب نعیمة وجوهره، وکان ساعیاً فی أن یعمّق أفکاره ویفلسف مشاعره؛ 2. رسالة نعیمة هی البحث عن معنى الإنسان والغایة من وجوده. فتعالج النواحی الباطنیة من حیاة الإنسان والقوی التی لا تزال مغلقة فی کیانه: أهو کائن طارئ تتحکم فیه أقدار عمیاء، أم إنّه کائن ینطوی على قوى هائلة تمکّنه فی المستقبل القریب أو البعید من أن یبلغ منتهى ما یتشوّق إلیه من المعرفة والحریة؟ 3. اتسع مفهوم الحب عند نعیمة حتى صار منهاج حیاته، واتخذ من الطبیعة دستوره ومبادئه ومُثُلَه العلیا؛ إذ الطبیعة لا تزال عنده من أعذب الموارد التی استقى من معینها تأملاته وأفکاره، وتفهمّ سیاستها واکتنه دستورها بعینه وقلبه، واعتقد أن دستورها الطاعة ومصدر تلک الطاعة المحبّة.
4. لم ینصبّ التأمّل فی الوجود عند میخائیل نعیمة على أصل الکون، وانما على التأمّل فی مظاهر الوجود الکونی وحقیقة الوجود الإنسانی. فبحث عن حقیقة سعادة الإنسان، وأدهشه تناقض القیم التی تحوطه من کل جانب، وآمن بوحدة الوجود، واعتقد بألوهیة الإنسان؛ 5. فی أدب نعیمة ظهرت نزعة إنسانیة واضحة تدعو إلى الأخوّة والمحبّة والوحدة بین الناس، وترفض الظلم والحقد والعداوة والکراهیة والتفرقة. ویتألّم هذا الأدب من انقسام المجتمع الإنسانی إلى الفقراء والأغنیاء، ویناشد عطف الإنسان على الإنسان، والعمل على خلق مجتمع إنسانی یسوده العدل والحریّة والمساواة والإخاء والطمأنینة والرحمة والمحبّة؛ 6. وفی موقف نعیمة من الحیاة، فهو مقبل علیها برغم نصوصه التی تهاجم الوجود والناس أحیاناً. وکان مهاجماً لوجه الحیاة الفاسد ولم یهرب منها، وثار على الظلم، لکنّه لم یشهر سلاحاً، بل کان جهاده خطاباته وکتبه، ولاسیّما نظراته النقدیة التی تنبثق عن أدبه الملتزم والرسالی وعن عبقریته الفذة. فقد آمن بأنّ الموت والحیاة ممتزجان؛ فلا حیاة ولا موت، وإنما هناک وجود دائم متجدد، واعتقد أنّ ما یصیب الإنسان من مصائب فی حیاته هو عقاب له على جرائم ارتکبها؛ 7.مما تقدّم، نستطیع القول إن میخائیل نعیمة علیم بالأدب الروسی وتأثّر بالشخصیات الأدبیة فی القرن الماضی، ویعد من أنصار أفکار لیف تولستوی، وکلاهما من أنصار السِّلم، ونَدّدا بالحرب الهجومیة والدفاعیة، وشجبا استغلال الإنسان لاخیه الإنسان، وطالبا الأغنیاء بتوزیع أملاکهم على الفقراء، وطلبا من الناس العفة واحترام الأسرة. والأفکار المشترکة بینهما کثیرة نراها فی معظم مؤلفات نعیمة؛ 8. نعیمة أدیب مهجری تخلج العاطفة الإنسانیة فی نفسه خلجاناً شدیداً. انکبّ ــ ککثیر من الأدباء المهجریین ــ على الحدیث عن الرذائل الأخلاقیة التی استولت آنذاک على الإنسان. ولا غرو، فإنّ الظروف الاجتماعیة التی تسود البلدانَ العربیة آنذاک من ظلم الحکّام والجهل والقمع والحروب التی خلقت الجوع والتشرید والتبعیة وإقامة الدول الاستعماریة ساقت نعیمة إلى معالجة مشاکل مجتمعه. وکان یحبّ أن یرى الإنسان فی ذروة الرقیّ والسعادة؛ إذ یعتقد أن الإنسان بذار إلهی لابدّ أن یتّحد بالله. من هنا یصرّح نعیمة بهذا الحبّ أکثر من مرّة. فلأجل ذلک یحتفل بتخلّص الإنسان من الآفات الاجتماعیة والعثرات المعرقلة فی سبیله. وحبّ نعیمة فی أدبه هو بناء المدینة الفاضلة لیعیش الإنسان فیها لا العربی فقط، ویدلی بآراء ومقترحات قیّمة لإزالة کل الرذائل والآفات؛ وکل ذلک من أجل شخصیته وولوعه بالإنسانیة التی تسوقه إلى الحدیث عن الرذائل والآفات الإنسانیة، فیستخدم قلمه لأجل الإصلاح، ونجاة الإنسان من کلّ شیء. 9. ما استخلصنا من هذه المقالة أنّ نعیمة یرفض مذهب «الفن للفن»، ویذهب إلى أنّ الأدب ینبغی أن یکون خادماً لحاجات الإنسانیة، ویکون المعبّر الأفضل عن النفس البشریة محاولاً تنمیة الضمیر الوجدانی، وتسییر الطرق للوصول إلى سعادة البشر والکمال. ولا یجدر بالأدیب أن یطبّق عینیه ویُصمّ أذنیه عن حاجات الحیاة، وینظم ما توحیه إلیه نفسه فقط، سواء أکان لخیر العالم أو لویله؛ 10. أدب نعیمة أدب خالد خرج عن حدود الإقلیم؛ لأنّه تطرق فی قوالب الأدب إلى القیم الإنسانیة والأخلاقیة التی یقبلها الإنسان فی أیّـة لغة وملّـة کانت.
| ||
مراجع | ||
ــ القرآن الکریم 1. شیا، محمد شفیق. (1987م). فلسفة میخائیل نعیمة. بیروت: مؤسسة بحسون للنشر والتوزیع. 2. ملحس، ثریّا. (1964م ). القیم الروحیة فی الشعر العربی. بیروت: مکتبة المدرسة ودار الکتاب اللبنانی. 3. نعیمة، میخائیل. (1917م ). الآباء والبنون. بیروت: مؤسسة نوفل. 4. ــــــــــــــــــــــــــــــ. (آ 1973م ). أحادیث مع الصحافة. بیروت: مؤسسة بدران وشرکائه. 5. ــــــــــــــــــــــــــــــ. (1940م ). البیادر. بیروت: مؤسسة نوفل. 6. ــــــــــــــــــــــــــــــ . (آ 1932م ). دروب. بیروت: مؤسسة نوفل. 7. ــــــــــــــــــــــــــــــ . (1936م ). زاد المعاد. بیروت: موسسة نوفل. 8. ــــــــــــــــــــــــــــــ . (آ 1972م ). سبعون. بیروت: مؤسسة نوفل. 9. ــــــــــــــــــــــــــــــ . (ب 1973م ). صوت العالم. بیروت: مؤسسة نوفل. 10. ـــــــــــــــــــــــــــ. (1975م ). الغربال. بیروت:مؤسسة نوفل. 11. ـــــــــــــــــــــــــــ . (ب 1972م ). فی مهبّ الریح. بیروت: مؤسسة نوفل. 12. ـــــــــــــــــــــــــــ . (ج 1973م ). کرم على الدرب. بیروت: مؤسسة نوفل. 13. ـــــــــــــــــــــــــــ . (1946م ). لقاء. بیروت: مؤسسة نوفل. 14. ـــــــــــــــــــــــــــ. (1949م ). مذکّرات الأرقش. (ط 5). بیروت: مؤسسة نوفل. 15. ـــــــــــــــــــــــــــ. (ب 1932م ). المراحل. بیروت: مؤسسة نوفل. 16. ـــــــــــــــــــــــــــ. (1952م ). مرداد. بیروت: مؤسسة نوفل. 17. ـــــــــــــــــــــــــــ. (1974م ). نجوى الغروب. بیروت: مؤسسة نوفل. 18. ـــــــــــــــــــــــــــ. (1950م ). النور والدیجور. بیروت: مؤسسة نوفل. 19. ـــــــــــــــــــــــــــ. (1977م ). ومضات. بیروت: مؤسسة نوفل. 20. ـــــــــــــــــــــــــــ. (1945م ). همس الجفون. بیروت: مؤسسة نوفل. 21. ـــــــــــــــــــــــــــ. ( 1965م ). هوامش. بیروت: مؤسسة نوفل. 22. ـــــــــــــــــــــــــــ. (1969م ). یا ابن آدم. بیروت: مؤسسة نوفل.
المواقع الإنترنتیة : 23. جریدة الحیاة، المورخ 8/12/2001م فی: www.awudam.org 24. عبدالأحد، یوسف. (22/6/2002م). «الفیلسوف المفکر میخائیل نعیمة 1889ــ 1988». جریدة الأسبوع الأدبی . فی: www.awu.sy/archive/alesbouh 802/813/isb813ــ024 | ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 5,225 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 408 |