
تعداد نشریات | 43 |
تعداد شمارهها | 1,706 |
تعداد مقالات | 13,972 |
تعداد مشاهده مقاله | 33,559,122 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 13,308,879 |
مقتل طرفة بن العبد، نظرة جديدة | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بحوث في اللغة العربية | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مقاله 5، دوره 2، شماره 2، تیر 2010، صفحه 81-95 اصل مقاله (189 K) | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نوع مقاله: المقالة البحثیة | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نویسنده | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
شاکر عامري* | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
استاديار گروه زبان و ادبيات عربي دانشگاه سمنان | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
چکیده | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ولد طرفة بن العبد وترعرع في البحرين في عائلة کثيرٌ من أفرادها شعراء، إضافة إلى بيئة شعرية خرّجت کثيراً من فحول الشعراء؛ أعني بيئة البحرين التي کانت لها في الأدب العربي إسهامات وإسهامات. قال الشعر ولمّا يبلغ الحلم، وکان له طبع نقّاد وبصيرة نافذة. تنقّل طرفة في بلاد کثيرة؛ أولها کان بلاط ملک المناذرة، عمرو بن هند، الذي کان حتفه على يديه. وقد أدّى الصراع السياسي الذي اندلع بين عمرو بن هند وإخوته من جهة، وأخيهم لأبيهم عمرو بن أمامة من جهة أخرى، أدى إلى أن يدخل طرفة في خضمّه، فرحل مع عمرو بن هند عندما رحل إلى اليمن مغاضباً، وکان ذلک بداية النهاية لحياة طرفة. فبعد مقتل عمرو بن أمامة وعودة طرفة إلى قومه، ومن ثَمّ إلى بلاط الحيرة، لم يستطع کلا الطرفين أن ينسى ما حدث، فکان کلاهما يختلق الأعذار للوقيعة بالآخر: طرفة بشعره وعمرو بن هند بسيفه، حتى تُوِّج ذلک بقرار إلقاء القبض على طرفة، وسجنه، ثم مقتله. إنّ الأقوال والحکايات التي حيکت حول مقتل طرفة، والتي أهمها حکاية ــ أو بالأحرى أسطورة ــ الکتاب الذي ينصّ على إعدام حامله، والذي حمله طرفة من عمرو بن هند إلى واليه على البحرين لتکتمل فصول المأساة التاريخية، يرافقها ذلک الإصرار العجيب للحوادث لتصبّ في مسير واحد مرسوم من قبل، ألا وهو مقتل طرفة، لا تقوى على الصمود أمام المنطق والعقل إن أخضعناها لأحکامهما. هذه المقالة هي محاولة جادّة لوضع النقاط على الحروف في ما يتعلّق بحياة طرفة والأساطير التي حيکت حول مقتله؛ إذ تثبت بالأدلة النقلية والعقلية أنّ السبب الأصلي لمقتل طرفة هو قيامه بهجاء عمرو بن هند وآل المنذر بأقبح هجاء وأبشعه، وکان من الطبيعي أن يؤدي ذلک إلى مقتله في مثل تلک الظروف، وما عدا ذلک من الأسباب التي ذُکرت کان تمهيداً وتحضيراً لحدوث السبب الأصلي؛ إذ لو حذفنا هجاء ط | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
کلیدواژهها | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
طرفة؛ البحرین؛ الیمن؛ عمرو بن هند؛ عمرو بن أمامة؛ البلاط | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اصل مقاله | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المقدمة: الحمد لله الذی أعطى فغمر، وقدر فغفر، والصلاة والسلام على سادة البشر، محمد وآله الخِیَر، وعلى أولیائهم فی ما جاء أو غبر، واللعنة الدائمة على أعدائهم وظالمیهم من الأولین والآخرین. أمّا بعد، فإنّ الحدیث عن طرفة، الشاعر الجاهلی، حدیث ذو شجون یتناول أوّل ما یتناوله حیاته التی حیّرت أهل التاریخ والأخبار، فنسجوا حولها الأساطیر، وحاکوا حولها الحکایات، متعجّبین من قِصَرها وکثرة نتاج طرفة بن العبد من الشعر وجودته. أوّل مسألة تواجه الکاتب عن الشاعر طرفة بن العبد هی قلّة الدراسات التی کتبت عنه. فلم أعثر بین الکتب التی بحثت حول شعره وحیاته سوى على کتاب واحد تناول هذا الموضوع بشکل علمی، وهو کتاب الدکتور محمد علی الهاشمی (طرفة بن العبد: حیاته وشعره). أمّا الکتب الأخرى، فقد قامت بجمع أشعاره المنسوبة إلیه من بطون الکتب بدیوان، أو تناولت معلقته ضمن المعلَّقات الجاهلیة الأخرى مع شیء وجیز عن حیاته دون تحقیق أو تمحیص إلّا ما ندر. وقد تناولت المقالة حیاة طرفة فقط دون التطرّق إلى شعره، إلاّ إذا تعلّق بمجال من مجالات حیاته کان ضروریاً لسبر غوره، أو الاستدلال على حادثة أو مسألة. وقد کان أهمّ موضوع فی حیاة طرفة، الذی کان من شعراء البلاط، هو العلاقة فی ما بینه وبین عمرو بن هند بشکل خاص، وبین أمراء البلاط من المناذرة بشکل عام؛ حیث ساءت تلک العلاقة فی أخریات أیام عمر طرفة لتنتهی بأسوإ حادثة یمکن أن تحلّ بشاعر فی بلاط، وهو ما رکّزت علیه المقالة بشیء من التفصیل. أرجو أن أکون قد استطعت إیفاء الموضوع حقّه، ورسم صورة واضحة لحیاة طرفة تجلو ما کان یلفّها من غموض وضباب. والله أدعو أولاً وآخراً أن یعیننی فی ما قصدت إلیه، إنّه خیر ناصر ومعین.
مولده ونشأته: هو طرفة بن العبد بن سفیان بن مالک بن ضُبَیعة بن قیس بن ثعلبة بن عُکامة بن صعب بن علی بن بکر بن وائل من نزار بن معدّ بن عدنان، واسمه عمرو وکنیته أبو إسحاق. أمّا طرفة فهو لقبه، والطرفة واحدة الطرفاء، وهو شجر الأثل. ولم تحدد المصادر القدیمة سنة ولادة طرفة أو وفاته، وقد حاول المحدَثون ذلک، فجعل أکثرهم ولادته سنة 538م، ومنهم من اعتبرها عام 543م، کما أنهم اختلفوا فی تحدید سنة وفاة طرفة، فأکثرهم أجمع على سنة 564م، وذلک اعتماداً على بیتین للخِرْنِق، أخت طرفة من أمّه، من قصیدة لها فی نعیه تقول فیها:
فإذا اعتبرنا ولادته عام 538م، ثم أضفنا إلیها 26 سنة، فسیکون عام وفاته 564م، وهو ما یُجمِع علیه أکثر المؤرخین، وإن کان بعضهم اعتبرها عام 500م (جرجی زیدان)، وآخر اعتبرها عام 560م (عمر فرّوخ)، وثالث جعلها عام 567م (محمد علی الهاشمی)، بعد أن أضاف إلى سنة 564 ثلاث سنوات وقال: إن طرفة أمضاها بعد رجوعه إلى قومه، حیث اعتبر أبیات الخِرنق السالفة تؤرّخ لحیاة طرفة قبل عودته إلى قومه، ورابع اعتبرها سنة 569م (حنّا الفاخوری) بعد أن اعتبر عام ولادته 543م. یقول عمر فرّوخ (1984م): اسمه عمرو بن العبد بن سفیان من بنی سعد بن مالک بن ضُبیعة من بکر بن وائل وطرفة لقبه. أمّه وردة بنت عبد العزى من بنی ضُبیعة بن ربیعة بن نزار، وأخته من أمه الخِرنق بنت بدر بن مالک کانت شاعرة. مات أبوه وکان طرفة صغیراً، ورفض أعمامه أن یعطوه حقّه من إرث أبیه؛ فنشأ مع أمّه فی بؤس (ص 135). أمّا حنّا الفاخوری (1368 هـ. ش)، فیعتبر أمّه وأباه کلیهما من أصل شریف، وأنّ أمّه هی وردة بنت عبد المسیح، وأنّ أباه عبد البکری کان شاعراً (ص 71). ویقول عنه عبد الجلیل (1373 هـ. ش): «طرفة واحد من شعراء بلاط الحیرة. ولد فی البحرین فی عائلة مرفّهة الحال یتیم الأب؛ فانشغل باللهو والمجون حتى اعترضت علیه کل القبیلة فأخرجوه وعزلوه کما یقول فی معلقته» (ص47).
بیئته: لقد کان طرفة یقطن مع قبیلته التی کانت تسکن البحرین مع عدد من القبائل العربیة الکبیرة. وعن البحرین یقول الهاشمی (1987م): نطق العرب اسم البحرین هکذا فی حال الرفع والنصب والجرّ. وهو اسم جامع لبلاد على ساحل الهند بین البصرة وعُمان، قیل هی قصبة هَجَر، وقیل هجر قصبة البحرین. وفیها عیون ومیاه وبلاد واسعة کانت فی مملکة الفرس وکان بها خلق کثیر من عبد القیس وبکر بن وائل وتمیم، مقیمین فی بادیتها (ص 11). والبحرین قدیماً لیست البحرین الیوم. قال فی المعجم المجمعی: «البحرین دولة عربیة فی الخلیج، وهی أرخبیل من 33 جزیرة عاصمتها المنامة ...». (بقّال، 1375ش، ص 370). ویتّضح من موقع البحرین على الخلیج الفارسی أنّها کانت من الموانئ المهمّة، حیث تقع على طریق الملاحة بین البصرة والهند، إضافة لکونها منفذ شرق الجزیرة العربیة البحریّ؛ حیث یتم تصدیر المنتوجات الزراعیة إلى المنطقة عن طریقه، وخاصة التمر، کما ویتمّ استیراد بضائع الهند والیمن من السیوف الهندیة والیمانیة والأقمشة والمنسوجات والتوابل والعطور وأدوات الزینة والأخشاب وغیرها. وقد أشار طرفة فی معلّقته إلى البحر والسفن بقوله:
وبعد نبوغه فی الشعر، قصد طرفة الحیرة، حاضرة المناذرة الذین کانوا ملوک العراق فی الشمال الشرقی من الجزیرة العربیة، حلفاء الفرس وأعداء الروم وحلفائهم من الغساسنة الذین کانوا ملوک الشام فی الشمال الغربی من جزیرة العرب. وقد کان ملک المناذرة الذی عاصره طرفة هو عمرو بن هند. فکیف کانت الحیرة وکیف کان ملکها؟ یرى معظم المستشرقین أن کلمة "حیرة" هی من «Harta» السریانیة الأصل، ومعناها: المخیّم أو المعسکر (الهاشمی، 1987م، ص17) . وإذا کان المؤرخون قد اختلفوا فی المؤسس لها، فإنهم اتفقوا على أنها کانت قریة على شاطئ الفرات الأیمن؛ توسعت شیئاً فشیئاً حتى أصبحت مدینة، اتخذها المناذرة عاصمة لهم. إنّ وقوع الحیرة على شاطئ الفرات الأیمن إلى الجنوب الشرقی من مدینة النجف الحالیة جعلها تتمتع بمناخ لطیف معتدل متوسط بین جفاف الصحراء ورطوبة الأنهار؛ أو بعبارة أخرى رطوبة الأنهار قد خففت من جفاف الصحراء وحرارتها. وقد کان ذلک سبباً لاعتبارها مصحّاً من قبل کثیر من قاصدیها آنذاک. وفی الحیرة کثیر من المعالم التاریخیة، أهمها: قصرا الخورنق والسدیر، وفیها کثیر من الأدیرة القدیمة، أهمها: دیّارات الأساقف. عمرو بن هند: توالى على حکم الحیرة عدد من ملوک اللخمیین الذین عُرفوا بالمناذرة لشیوع اسم المنذر فیهم. والذی یهمّنا من ملوک الحیرة هو عمرو بن هند الذی قتل طرفة. ولیَ عمرٌو الملکَ بعد وفاة والده المنذر بن امرئ القیس. ولکنه لم یُسَمَّ باسم أبیه، بل سُمّی باسم أمّه؛ لأنه کان له أخ من أبیه اسمه عمرو کذلک، حیث إنّ المنذر کان قد تزوج بعد کِبَر سن هند ابنة أخیها أمامة التی أولدها غلاماً سمّاه عمرواً کذلک، وقد عُرف بعمرو بن أمامة. ولما قام المنذر، والد عمرو بن هند، بحرمان عمرو بن أمامة من الملک من بعده ــ حیث أوصى لأخوته الثلاثة من أبیه ولم یوصِ له ــ، قام عمرو بن هند بإقطاع أخویه من أبیه قابوس والمنذر، وحرم عَمر بن أمامة، مما کان سبباً لحنقه وحقده؛ فغادر إلى الیمن والتحق به طرفة الذی کان صدیقاً له. کان عمرو بن هند شدیداً قویّ الشکیمة، ولذلک لُقّب بـ«مضرّط الحجارة»، وهو الذی قام بتحریق مائة من بنی تمیم، لذلک لُقّب المناذرة بآل محرِّق. وکان عمرو بن هند سریع الانفعال محباً للنظام والدقة فی العمل، وهو أول ملک عربی ختم رسائله (الهاشمی، 1987م، ص34).
نبوغه الشعری: نشأ طرفة فی بیئة شعریة وعائلة کثیر من أفرادها شعراء؛ فعمّه (المرقِّش الأصغر) شاعر، وعمّ أبیه (المرقِّش الأکبر) شاعر، وخاله (المتلمِّس) شاعر، وأخته (الخِرْنِق) شاعرة، وجدّه لأمّه (عمرو بن قمیئة) شاعر، ویضیف حنّا الفاخوری أباه کذلک. ولم یشذّ طرفة عن عائلته وبیئته، فقال الشعر منذ نعومة أظفاره. من ذلک أبیات یخاطب فیها أعمامه مطالباً إیّاهم بحقه وحق أمه من میراث أبیه ومهدداً لهم؛ یقول فیها:
(البستانی، 1998م، ص 74) وقد حاک المؤرخون حول نبوغه الشعری والنقدی حکایات، ونسجوا حولها الأساطیر التی لا یثبت أکثرها للنقد والتحقیق. من ذلک أنهم نسبوا إلیه قوله: «استنوَقَ الجملُ» تعلیقاً على بیتٍ قاله خاله المتلمّس، وهو:
(الهاشمی، 1987م، ص 44) والآن تأمّل البیت السابق جیداً، ثمّ قارنه بالبیت التالی، فهل تتفق معی أنّ القصة موضوعة؟ یقول طرفة فی معلقته:
(عطوی، فوزی. 1980م، ص 34) فمن الواضح أنّ الذی اختلق تلک القصّة قد استفاد من بیت طرفة السابق، وأدخل علیه بعض التغییرات، ثمّ نسبه إلى المتلمّس. فقد جعل کلمة "أتناسى" بدل کلمة "أمضی"، وغیّر الشطر الثانی بذکر صفات خاصة بالجمل إلّا واحدة، وهی قوله: "علیه الصّیعریّة"؛ فإنّها من صفات النوق. وأنا لا أُنکر شاعریة طرفة المبکرة، ولا تبحّره فی نقد الشعر، أو تقدّمه على غیره فیه، ولکنّ للرواة أفانین فی إثبات آرائهم، أو خلق أساطیر تعجب غیرهم. وقد انشغل طرفة فی فترة شبابه باللذة وشرب الخمر حتى طردته قبیلته ونفته. یقول فی معلقته:
(الزوزنی، 1405هـ ، ص 59) والسؤال الذی یطرح نفسه هنا هو: من أین جاء طرفة بالأموال لیقوم بتبذیرها وهدرها؟ والجواب یمکن استخراجه من البیت الأول؛ إذ ینص على حصوله على نوعین من الأموال: الحدیثة، والقدیمة الموروثة. وإذا سلّمنا بأنه کان یتکسب بشعره وکان ینفق ما کان یکسبه، فمن أین جاءه المال الموروث وقد حرمه أعمامه منه؟ الجواب هو أنّ هناک حلقة مفقودة لم تذکرها القصة، فیحتمل أن أعمامه قد ردّوا علیه سهمه من إرث أبیه. وإذا سلّمنا بصحة هذا الجواب، فإنّه یمکن الجمع بین رأیی عمر فرّوخ وعبد الجلیل السالفین اللذین ظهرا متناقضین. تشرّده وأسفاره: بعد نفی القبیلة طرفةَ لاستغراقه فی شرب الخمر واللذّة، لم یجد بدّاً من الرحیل، فیمّم وجهه شطر عمرو بن هند، کعبة آمال الشعراء المادحین آنذاک، ولکنّ المصادر لم تذکر کیفیة لقاء طرفة بعمرو بن هند، ولا مدحه إیّاه بشعره، وإن کان الظاهر أنه مدحه ونادمه أکثر من مرّة. ولکنّ حنا الفاخوری، وإن یختلف فی توقیت لقاء طرفة بعمرو بن هند، إلّا أنه یذکر أن لقاء طرفة بعمرو بن هند کان عن طریق المتلمّس، خاله، وزوج أخته عبد عمرو اللذین کان لهما جاه فی البلاط (الفاخوری، 1368هـ.ش، ص72). وحینما أقطع عمرو بن هند أخویه من أمه وأبیه، وحرم عمرَو بن أمامة أخاه من أبیه، غضب عمرو ورحل إلى الیمن، ورحل معه طرفة الذی کان صدیقه، ولم یفارقه إلى أن قتل عمرو فی وادی قضیب. فعاد طرفة إلى قومه، بعد أن أظهر ندمه وأعلن توبته عمّا کان منه. وقد وصف طرفة تشرّده وأسفاره وحالاته النفسیة فی قصیدتین من شعره، یقول فی الأولى، وقد افتتحها بقوله:
(عطوی، 1980م، ص 101ــ102؛ والبستانی، 1998م،ص 79) ویفتتح القصیدة الثانیة بقوله:
ثمَّ یستطرد:
وقد اعتذر فی آخرها عما بدر منه، معترفاً بأخطائه السالفة، معلناً توبته وندمه، قائلاً:
(البستانی، 1998م، ص 67ــ73) ولکنّ الفاخوری یذکر أن طرفة بعد أن طردته عشیرته رکب ناقته، وهام فی البوادی. فمرةً کان یغزو، وأُخرى یلجأ إلى الکهوف والغیران، حتى وصل إلى سواحل جزیرة العرب، وفی روایة إلى الحبشة. وبعد أن أضناه الدهر، عاد إلى قومه لیحیى حیاة على أساس العقل، ملیئة بالحکمة والرشاد (الفاخوری، 1368هـ . ش، ص72 ).
عودته إلى قومه: یقال إنّه بعد عودة طرفة إلى قومه، رعى إبلاً لأخیه مَعْبد، ولکنه لم یحفظها وترکها. فأخذها قوم من مضر، فقال شعراً خاطب به قابوساً وعمرواً، ولکنهما خیّبا ظنّه ولم یُرجعاها له. قال:
(الهاشمی، 1987م، ص 52) والظاهر من معنى البیت الأول أنّ عمرو بن هند کان قد أخذ إبل طرفة من مضر ولم یردّها إلیه، بل قام بمصادرتها، ولکنّ الفاخوری یذکر أنّ طرفة بعد ضیاع إبله لجأ إلى ابن عمه مالک الذی لم یستجب له، بل لامه وعنّفه (الفاخوری، 1368 هـ. ش، ص 72). ویدّعی الهاشمی أنّ طرفة بعد أن خاب ظنّه فی عمرو وأخیه قابوس، وجّه شعره هذه المرّة نحو اثنین من کبراء قومه:
(الهاشمی، 1987م، ص53) سجنه ومقتله: الظاهر أنّ البیتین السابقین لا علاقة لهما بعتاب طرفة لعمرو وأخیه قابوس. ومهما یکن من أمر، فإنّ طرفة سرعان ما أتلف أمواله التی حصل علیها أخیراً، وعاد إلى السفر قاصداً بلاط عمرو بن هند مرّة أخرى، ولکنه هذه المرّة کان ندیماً لأخیه قابوس الذی کان مولعاً بشرب الخمر. ویبدو أنّ عتاب طرفة الآنف الذکر لم یَرُق عمراً، کما لم یرقه قیام طرفة بمرافقة عمرو بن أمامة إلى الیمن. فلم یلقَ طرفة الاحترام اللائق به فی البلاط. أضف إلى ذلک عدم الاهتمام السابق، أو بالأحرى البرود الذی لقیه من عمرو بن هند فیما یتعلق بمطالبته عَمراً بالثأر لأخیه عمرو بن أمامة الذی قتلته قبیلة مراد الیمنیة. أضف إلى ذلک غرور الشباب الذی کان یتمتع به طرفة، حیث لم یبلغ الثلاثین من عمره آنذاک، ونزعة الفخر بنفسه أو بقومه، کل تلک الأسباب مجتمعةً أدّت إلى نفاد صبر طرفة، وعدم استطاعته تحمّل الذلّ الذی کان یلقاه فی بلاط عمرو بن هند، فلم یجد بدّاً سوى أن جرّد سیف الشعر لیهوی به على رقبتی عمرو بن هند وأخیه قابوس، فهجاهما بثمانیة أبیات، جعلها قسمین، خصّص الأبیات الأربعة الثانیة منها لبیان سبب الهجاء، أو إنها کانت بمثابة محاولة لإقناع المتلقّی بأحقّیّته فی هجائه. وقد کانت تلک الأبیات الثمانیة کافیة لأن یقوم عمرو بن هند بسجن طرفة وقتله بعد ذلک. یقول طرفة مخاطباً عمرو بن هند الذی جعل أیامه یومین: یوماً للصید، ویوماً یجلس فیه للناس ینظر فی أمورهم، ویستقبل أهل الحاجات منهم، مما یدلّ على ولعه بالصید ورخاء ملکه ودولته:
(الهاشمی، 1987م، ص144ــ145) إنّ وقوف طرفة على باب قصر عمرو بن هند وقابوس نهاراً کاملاً دون أن یُؤذن له بالدخول، قد أوجد فیه شعوراً بالذّلّة والحقارة کان من العسیر علیه أن یهضمه أو یتحملّه وهو الحرّ الأبیّ، خاصة وأنه یبدو أنّ تلک المسألة کانت قد تتکررت أکثر من مرّة، وهو ما یدل علیه قوله: «وأمّا یومُنا فنظلُّ رَکْباً»، حیث لا یعنی به یوماً محدداً، بل یقصد به النهار بصورة عامة. ویذکر الدکتور محمد علی الهاشمی (1987م) عدّة أسباب لقیام عمرو بن هند بسجن طرفة وقتله بعد ذلک، منها: 1ــ تشبیب طرفة بأخت عمرو بن هند، وذلک ــ حسب قول ابن قتیبة ــ أن طرفة کان ینادم عمرو بن هند، فأشرفت ذات یوم أخته، فرأى طرفة ظلَّها فی الجام الذی کان فی یده، فقال:
فحقد عمرو بن هند ذلک على طرفة، ولکنه لم یُظهر له سوءاً (ص 55). وقد ذکر نیکلسن (1969م) تلک القصة بتفاصیل تختلف؛ إذ تحدّث عن جلوسه فی مقابل أخت الملک عمرو على مائدة واحدة لیقوم طرفة بالتغزّل بها أمام أخیها دون خجل أو استحیاء، فیضمرها له الملک (ص181 ــ 182). وهذه القصة التی اعتبرها الرواة سبباً لحقد عمرو بن هند على طرفة وسجنه وقتله بعد ذلک، تعجز عن الإجابة على سؤالین، هما: أولاً. إنّ طرفة، وإن کان شارباً للخمر ویهتمّ کثیراً باللذة، إلا أنه لم یکن مستهتراً بالأعراف والقیم الاجتماعیة والشرف والناموس. یشهد على ذلک ما یُثبته لنفسه من شیم النجدة والحمیّة والدفاع عن الشرف، والبعد عمّا یُشین والحیانة والفساد. ومن ذلک قوله:
(البستانی، 1998م، ص 66) فکیف یقول تلک الأبیات فی حضور عمرو بن هند؟ ثانیاً. لماذا یحقد عمرو بن هند لذلک على طرفة ولا یُظهر له سوءً؟ هل کان یخاف منه، وهو مضرِّط الحجارة ومحرّق مائة من بنی تمیم، أم أنه لم یکن عربیاً أصیلاً فیهبّ للثأر لشرفه وعِرضه، أم أنه کان غبیّاً، فلم یفهم ما کان یرمی إلیه طرفة بأبیاته؟ 2ــ شخصیة طرفة الفتیة المستعلیة الفخور التی لا یمکن أن تذوب فی شخصیة الملک الممدوح؛ 3ــ تسرّب أنباء هجائه إلى عمرو بن هند وقابوس وبنی المنذر؛ 4ــ مطالبته عمرو بن هند بالثأر لأخیه عمرو بن أمامة من قبیلة مراد التی قتلته، بقوله:
لکن هذا البیت لا یُفصح عمّا یشین، کما فی عتابه لعمرو وأخیه قابوس، حیث قسا علیهما، وهل تُعتبر الدعوة إلى طلب الثأر إثماً؟ 5ــ معاتبته على [عدم إرجاع إبله أو ] أخذها من قبل عمرو بن هند أو قابوس بسبب مسیر طرفة مع عمرو بن أمامة إلى الیمن. ویمکن إضافة سبب آخر لحقد عمرو بن هند على طرفة، وهو مسیره مع عمرو بن أمامة ومناصرته له، وترکه عمرو بن هند وأخاه قابوساً. ونحن لا ننکر أن تکون کل تلک الأسباب، الصحیح منها طبعاً، ما عدا هجائه لعمرو بن هند، سبباً فی إثارة عمرو بن هند، وکانت کافیة لإبعاد طرفة أو إذلاله، ولکنّها لم تکن کافیة لاتخاذ قرار قتله. لذلک عندما عاد طرفة إلى البلاط، وافق عمرو بن هند على ذلک، وکان له ألّا یوافق. ولو کان قد اتخذ قرار قتله منذ البدایة لقتله، لکنه لم ینفذه لعدم وجود الداعی القویّ لذلک. ولو تمعّنّا فی کافة الأسباب التی جرى ذکرها، لوجدنا أنّ هناک سبباً رئیسیاً جعل عمرو بن هند یقوم بسجن طرفة، ثم بقتله، یبرز من بین کافة الأسباب المذکورة، بحیث یمکن اعتبار کافة الأسباب السالفة تمهیداً له لیصل عمرو بن هند بعد ظهوره إلى قناعة تامة بقراره. وقد کانت الأسباب الأخرى ثانویة أدّت إلى الهجاء، أو تظافرت معه لیکون نصیب طرفة السجنَ ثم القتلَ. والدلیل على ذلک أنّ عمرو بن هند لم یقتل طرفة إلى أن قام الأخیر بهجائه. والآن اقرأ معی هذه الأبیات الأربعة، وهی الأربعة الأولى من أبیات الهجاء الثمانیة:
(الهاشمی، 1987م، ص 31) تأمّل فی الأبیات السالفة، هل ترى أنّ مثل عمرو بن هند یحتملها وهو الملک المستبدّ المطاع فی الآفاق؟! إنه بحقّ هجاء مرّ لاذع. وتصل أنباء هذا الهجاء إلى عمرو بن هند وقابوس، وإن الشائع أنها وصلت عن طریق عبد عمرو، زوج أخت طرفة، الذی کان من ندماء عمرو بن هند عندما کانا فی ساعة لهو؛ حیث ذکر عمرو بن هند أبیاتاً لطرفة یذکر فیها ضخامة بطن عبد عمرو واسترخاء جلده، فغضب عبد عمرو وقال: «لقد قال طرفة فی الملک ما هو شرّ من هذا وأقبح!» ثمّ یذکر أبیات طرفة السابقة بعد إلحاح الملک علیه. ولتأیید تلک القصّة یذکرون أبیاتاً لطرفة عاتب فیها عبد عمرو على إفشائه سرّه. ونحن لا نرى فی الأبیات ما یشیر إلى تلک القصة، ولا دلیل فیها على أنّ السرّ المذکور هو هجو طرفة لعمرو بن هند؛ إذ من الممکن أن یکون أمراً آخر (البستانی، 1998م، 76 ــ 77). ولیس مهماً کیف وصلت تلک الأنباء إلیهما، وإنّما المهم أنها وصلت عمرواً الذی استشاط غضباً، وأمر بإلقاء القبض على طرفة وإیداعه السجن، لیأمر بقتله بعد ذلک. ولم تنفع محاولات طرفة فی استعطاف عمرو وإنکاره عدم هجائه، حیث أرسل إلیه من سجنه:
(الهاشمی، 1987م، ص 57) ولطرفة شعرٌ جمیل فی سجنه ضاع أکثره؛ إذ ینقل الدکتور محمد علی الهاشمی عن الجاحظ فی البیان والتبیین (ج 2، ص 268) والحیوان (ج 7، ص 157) قوله: «ولیس فی الأرض أعجبُ من طرفة بن العبد وعبد یغوث، وذلک إذا قسنا جودة أشعارهما وقت إحاطة الموت بهما، لم تکن دون أشعارهما فی حال الأمن والرفاهیة» (الهاشمی، 1987م، ص87). ویذکر فوزی عطوی (1980م) قصیدة قالها طرفة فی سجنه مستعطفاً عمرو بن هند، أولها:
(ص 96) کل ما مرّ یدل على أن سجن طرفة لم یکن لفترة قصیرة. وقد ذکر بعض مؤرخی الأدب أسباباً مختلفة لمقتل طرفة، حیث قال عبد الجلیل (1373 هـ. ش): «إنّ طبائع طرفة المیّالة للمزاح وفخره بنفسه الذی لا یحدّه حدّ لم یرقْ لملک الحیرة، وأدّى إلى مقتله، ولکننا لا نستطیع بسهولة أن نبیّن ظروف قتله؛ لأنّ الأساطیر قد صبّتها فی قالب قصّة حزینة» (ص47). ویقول عمر فرّوخ حول طرفة ومقتله: واشترک طرفة فی حرب البسوس، وکان معاصراً للمنذر الثالث (514 ــ544) ولابنه عمرو بن هند. وکذلک کان صدیقاً لعمرو بن مامة[هکذا وردت فی النصّ]، أخی عمرو بن هند لأبیه. فلمّا تولّى عمرو بن هند مُلک الحیرة، ولم یکن قد بقی بینه وبین طرفة مودّة، سافر طرفة وعمرو بن مامة بتجارة لهما إلى الیمن، ومکثا هنالک بضع سنوات. ثمّ إنّهما قُتلا فی أثناء رجوعهما، نحو عام 62 ق. هـ (560م)، وطرفة فی الثلاثین من عمره (فرّوخ، 1984م، ص 136). إنّ أکثر الکتب التی ترجمت لطرفة ــ وخاصة القدیمة منها ــ قد ذکرت قصة طریفة لسجن طرفة ومقتله، ولکنّها أبعد من أن تُصدَّق، وملخصها أنّ عمرو بن هند، بعد أن وصله هجاء کل من طرفة وخاله المتلّمس إیاه، أرسل إلیهما أن یأتیاه لیکافئهما، خدیعةً وغدراً. فلما حضرا عنده، أعطاهما کتابین إلى عامله على البحرین لیقوم بذلک. فلما صارا فی ضواحی الحیرة، سأل المتلمّس ــ وکان أُمّیّاً ــ غلاماً أن یقرأ الکتاب له. فسأله الغلام: هل أنت المتلمِّس؟ فقال: نعم. قال: فانجُ بنفسک؛ فإنّ فی هذه الرقعة حتفک. فألقى المتلمّس صحیفته فی نهر، وطلب من طرفة أن یفعل مثل ذلک، فلم یستجب له طرفة، وقال: إن کان قد تجرّأ علیک، فإنه لم یکن لیتجرّأ علیَّ. فترکه المتلمّس وسار إلى الشام ولحق بالغساسنة، بینما سار طرفة إلى البحرین، وسلّم الکتاب إلى عاملها البکری الذی طلب منه الهرب قبل أن یقرأ الکتاب على الملإ، ولکنّ طرفة رفض ذلک فسجنه العامل، ولکنه رفض قتله واستقال من منصبه. فأرسل عمرو بن هند تغلبیّاً مکانه، وأمره بقتل طرفة مع العامل. وتتعدد الروایات وتتضارب حول تفاصیل القصة، وخاصة کیفیة مقتل طرفة. وترد على هذه القصة عدّة أسئلة: 1ــ لماذا أحال عمرو بن هند قتل طرفة إلى عامله على البحرین؟ هل کان یکره أن تتلطّخ یداه بدم طرفة وهو الذی حرّق مائة من بنی تمیم؟! 2ــ لماذا اختار عمرو بن هند البحرین وفیها قوم طرفة وعاملها بکریّ، أما کان یخشى ثورتهم علیه بسبب مقتل شاعرهم؟! 3ــ کیف أنّ بکراً لم تَثُر وهی تنظر إلى شاعرها یُقتَل أمام أعینها، بینما خاضت حرباً شعواء لمدّة أربعین سنة بسبب ناقة؟! 4ــ لماذا لم یهرب العامل البکریّ؛ إذ رفض تنفیذ أمر الملک ولم یطلق سراح طرفة؟ کیف یلبث ذلک العامل لیُقتل على ید تغلبیّ، وهو أعرف من غیره بعمرو بن هند؟! 5ــ کیف صبرت بکر على إهانة عمرو بن هند إیاها بتنصیب تغلبیّ علیها وقتل اثنین من أبرز شخصیّاتها؟! ویؤید الشکوک التی أوردتُها الشک الذی أورده بطرس البستانی (1989م) تعلیقاً على قصة مقتل طرفة، حیث قال: «هذه هی الروایة المشهورة عن مقتل طرفة، وقد تناقلتها کتب الأدب فی شیء من الاختلاف. أمّا نحن، فلا یسعنا إلّا أن ننظر إلیها بشک واحتیاط لظهور الاصطناع علیها؛ فإن سیر حوادثها یبیّن التکلّف» (ص 118). ثم یذکر المواضع التی شکّک فیها من القصة الأسطورة، فیذکر هجاء طرفة لعمرو بن هند وعبد عمرو[19]، و إشفاق ملک العراق من قتله فی قاعدة ملکه خوفاً من هجاء المتلمس له، فیرسله إلى البحرین لیُقتل فی مسقط رأسه وبین أهله وعشیرته، وغیر ذلک من أحداث القصة. ثم یعلّق على ذلک بقوله: فلقد کان بوسع عمرو بن هند أن یفتک بالشاعرین معاً فی العراق، بدلاً من أن یرسلهما إلى البحرین. ولقد کان ینبغی أن یخشى هجاء المتلمس أخیراً، کما خشیه أولاً بعد أن نجا هذا من الشَّرک الذی نُصب له. ولقد کان بوسع صاحب البحرین أن ینجو وطرفة دون أن ینتظر قدوم العامل الجدید لیقتلهما معاً (السابق). ثم یذکر البستانی قصة أُخرى أوردها الرواة، مفادّها أن نسیبه، صاحب البحرین، أرسل إلى طرفة فی سجنه جاریة اسمها خولة، فردها وقال فی ذلک أبیاتاً مطلعها:
ومنها البیت الذی یخاطب به عمرو بن هند:
فیشکک فیه کذلک؛ لأنه لا یدل على حقیقة الحال، حیث إن ملک العراق لم یُفنِ قبیلة الشاعر حتى یصحّ قوله السابق طالباً استبقاء البعض. ویتساءل البستانی کذلک عن سبب تسمیة الجاریة بخولة، وهو الاسم الذی یشبّب به الشاعر، مشکِّکاً فی القصة برمّتها، ثم یخلص إلى هذه النتیجة، وهی أن مقتل طرفة على ید عمرو بن هند قد یکون بسبب الهجاء، وقد أشار الفرزدق إلى ذلک بقوله: «وأخو بنی قیسٍ وهنّ قتلنهُ»؛ أی: القصائد(البستانی، 1989م، ص 118ــ119). والواقع أنّ قول الفرزدق السالف لا یثبت إلّا أن الذی قتل طرفة هو شعره، وهذا مسلّم به، فلم یکن لطرفة سلاح سوى شعره، بل لا یشکّ أحد من الباحثین أن سبب مقتل طرفة هو هجاؤه لعمرو بن هند، ولکنّهم یختلفون فی المنفِّذ والطریقة. ویضیف مصدر آخر ذکر أسطورة مقتل طرفة مدافعاً عنها سبباً آخر لخوف عمرو بن هند من قتل طرفة، إضافة إلى هجاء المتلمس له، وهو اجتماع بکر بن وائل علیه. وفی طیّات حدیثه، یحاول تبریر عدم إظهار عمرو بن هند علمَه بهجاء طرفة له، بعد أن أخبره عبد عمرو بن بشر، صهر طرفة، بذلک بأنه کان یخاف هروب طرفة. (البستانی، د . ت، ص 8). فعمرو بن هند کان یخاف هروب طرفة منه، فلا یُظهر علمه بهجائه له، وطرفة ــ کما فی الأسطورة ــ عندما یخبره المتلمس ووالی البحرین بعزم عمرو بن هند على قتله وأمره بذلک لا یهرب! فهل هذا منطقی؟ والطریف أنّ فؤاد أفرام البستانی (1998م) یذکر أنّ قبر طرفة کان معروفاً بـ«ـهَجَر»، وهی من بلاد البحرین (ص 55). ولا بأس أن نشیر فی نهایة المقالة إلى عدد من الکتب المهمة فی العصر الحدیث التی تناولت حیاة العرب الأدبیة فی الجاهلیة وأشارت، من قریب أو بعید، إلى طرفة. یشیر بلاشیر فی کتابه تاریخ الأدب العربی (1998م) إلى أنّ عمرو بن هند قد حقد على طرفة لهجائه إیاه، کما یشیر إلى صحیفة طرفة ومقتله على ید والی البحرین، ویعزوه إلى کون طرفة أقلّ درایة وحذراً من المتلمّس (ص327). ولم یتطرّق شوقی ضیف (د. ت) إلى طرفة أو إلى حیاته سوى أنه عدّه من ضمن الشعراء الذین مدحوا عمرو بن هند (ص 211)، أو أن یستشهد بشعره بعض الأحیان (ص 7). ویروی طه حسین أسطورة مقتل طرفة باختصار معتبراً أن سبب حنق عمرو بن هند على طرفة والمتلمّس هو هجاؤهما له. ثمّ یُعلّق بعد ذلک بقوله: «وقد کثُرت الأحادیث حول هذه القصة، وأفضت إلى أشیاء أعرضنا عن ذکرها لظهور النّحْل فیها» (حسین، 1991م، ص 230ــ231) ویقصد بقوله: (النّحْل) الوضع. لم یرکز طه حسین اهتمامه على قصة مقتل طرفة بقدر ترکیزه على قضیة النحل فی شعره والتشکیک به وخاصة معلّقته، بانیاً شکّه على مسألة واحدة فقط هی أنّ أسلوب شعر طرفة یمیل إلى الجزالة وقوّة الألفاظ، وهو ما یُبعده عن شعر ربیعة المعروف بسلاسة ألفاظه، على حدّ تعبیره، واکتفى بالشک فیها واعتبارها أسطورة لا تُصَدَّق. ویتحدّث أحمد الزیات (د. ت) باختصار، عن حیاة طرفة مکرِّراً جمیع النعوت والقصص التی حکاها الرواة حول طرفة، بما فی ذلک أسطورة قتله التی یتناولها تناول المسلّمات دون أن یشکّ فیها، ولعل ما یشفع للزیات فی ذلک هو کون کتابه لم یکن تحلیلیاً، بل کان منهجاً دراسیاً کتبه لطلبة المدارس الثانویة والعُلیا (ص 70). أمّا نکلسن (1969م)، فیذهب إلى أبعد مما تطرّق إلیه الزیات، فیذکر موجزاً عن حیاة طرفة، معتبراً إیاه نابغة فی الهجاء منذ صغره مسجِّلاً بیت طرفة فی هجائه لعمرو بن هند، مضیفاً إلى ذلک جلوسه فی مقابل أخت الملک عمرو على مائدة واحدة لیقوم طرفة بالتغزّل بها أمام أخیها دون خجل أو استحیاء، فیُضمرها له الملک. وبذلک یُظهر طرفة بمظهر الناکر لجمیل الملک الذی أکرمه فهجاه طرفة، واستأمنه على عرضه فخان الأمانة. وفی نهایة المطاف یذکر قصة مقتله المعروفة آخذاً بها أخذ المسلَّمات، دون نقاش أو تحلیل (ص181ــ182).
الخاتمة قامت هذه المقالة بسیرٍ متأنّ فی حیاة طرفة الذی یعدّ أُسطورة فی الشعر قبل الإسلام، بالنظر إلى قِصَر حیاته وغزارة عطائه وعبقریّته الفذّة، فجلت عن حیاته شیئاً من الغموض الذی کان یلفّها. ومما لاشکّ فیه أنّ السبب الحقیقی لمقتل طرفة هو هجوه لعمرو بن هند، ولکنّ الباحثین فی حیاة طرفة انقسموا حیال مقتله إلى قسمین: الأول صدّق أسطورة قتله التی تنصّ على أنّ ذلک تمّ بشکل غیر مباشر عن طریق والی البحرین، والثانی لم یصدّق تلک الأسطورة، و اعتبر قتله قد تمّ بشکل مباشر على ید عمرو بن هند فی الحیرة. وهؤلاء ینقسمون إلى قسمین کذلک: الأول جعل السبب الحقیقی لمقتل طرفة هو أشعاره الهجائیة أو قصائده الموجهة إلى عمرو بن هند ومن حوله ومواقف طرفة؛ والثانی رجّح أن یکون السبب الحقیقی هو هجوه لعمرو بن هند فحسب، ولکنه لم یقطع به. أمّا هذه المقالة، فقد ناقشت القصة التی یذکرها أغلب الرواة والمؤرخین لمقتله بما یشبه الأساطیر، ورفضتها بعدد من الأدلة المنطقیة، وأثبتت ــ بما لا یقبل الشک ــ أنّ مقتل طرفة تمّ فی الحیرة بأمر مباشر من عمرو بن هند. هذا أولاً، وثانیاً أنّ سبب مقتل طرفة الوحید هو هجاؤه لعمرو بن هند وأخیه قابوس، وأنّ الأسباب الأخرى التی ذُکرت لمقتله ــ إن صحّ بعضها ــ لم تکن سوى تمهید أو تحفیز لعمرو بن هند لیقوم بذلک ودافعاً له؛ إذ لم یقم عمرو بن هند بقتل طرفة إلّا بعد أن قام الأخیر بهجائه، ممّا یدلّ على أنّ کافة تلک الأسباب مجتمعة، ما عدا الهجاءَ، لم تکن کافیة لأن یقوم عمرو بن هند بقتل طرفة. وإنّ واحداً من أحدث الکتب المعاصرة (التی استطعت الحصول علیها)، أعنی کتاب الدکتور محمد علی الهاشمی، أستاذ الأدب العربی فی کلیة اللغة العربیة فی جامعة الإمام حمد بن سعود الإسلامیة فی الریاض، الموسوم (طرفة بن العبد: حیاته وشعره) والذی تمّ تجدید طباعته عام 1987م، لم یستطع هو الآخر ــ رغم قیامه بدراسة علمیة لحیاة طرفة ــ أن یعطی سبباً واضحاً وقاطعاً لمقتل طرفة، واحتمل عدّة أسباب لقیام عمرو بن هند بقتل طرفة، ولم یرجّح أیّاً منها، مما یترک القارئ فی حیرة من أمره، کما أنّ بطرس البستانی هو الآخر اکتفى برفض الأسطورة معتبراً أنّ هجاء طرفة لعمرو بن هند کان السبب فی مقتله على ید عمرو بن هند، ولکنه أعرض عن الجزئیات، واهتمّ بالنفی أکثر من اهتمامه بالإثبات. وأنا لا أدّعی أنّ هذه المقالة کاملة متکاملة لا تخلو من نقص، بل تبقى جهداً متواضعاً، آمل أن أکون قد وُفِّقتُ فیها لما ادّعیته لها، ولله وحده الکمال، علیه توکلت وإلیه أُنیب.
نتائج البحث: نستطیع فی نهایة المقالة أن نسجّل بعض ما توصّلت إلیه المقالة من نتائج کما یلی: 1ــ إنّ الحلقة المفقودة التی لم تذکرها قصة طرفة حول مصدر المال الموروث الذی حرمه أعمامه منه، هی أنّ أعمامه قد ردّوا علیه سهمه من إرث أبیه. 2ــ إنّ قصة نقد طرفة لبیت المتلمّس بقوله: «استنوق الجمل» هی قصة ملفّقة؛ فإنّ الذی اختلق تلک القصّة قد استفاد من أحد أبیات معلقة طرفة، وأدخل علیه بعض التغییرات الطفیفة، ثمّ نسبه إلى المتلمّس. 3ــ إنّ قصة تغزّل طرفة بأخت عمرو بن هند التی اعتبرها الرواة سبباً لحقد عمرو بن هند على طرفة وسجنه وقتله بعد ذلک لا صحّة لها ومرفوضة لسببین: الأول أنّ طرفة، وإن کان شارباً للخمر ویهتمّ کثیراً باللذة، إلّا أنّه لم یکن مستهتراً بالأعراف والقیم الاجتماعیة والشرف والناموس. یشهد على ذلک ما یُثبته لنفسه من شیم النجدة والحمیّة والدفاع عن الشرف والبعد عمّا یُشین والخیانة والفساد؛ والثانی أنّ عمرو بن هند لم یکن یخاف من طرفة؛ فهو مضرِّط الحجارة ومحرّق مائة من بنی تمیم، کما أنّه کان عربیاً أصیلاً یدافع عن شرفه وعِرضه ویثأر له إن تعرّض لإهانة أو خطر، ولم یکن غبیّاً فلم یفهم ما کان یرمی إلیه طرفة بأبیاته، وبالتالی یجب استبعادها من الأسباب الممهّدة لمقتل طرفة. 4ــ إنّ مسألة مطالبة طرفة عمرو بن هند بالثأر من قاتلی أخیه عمرو بن أمامة لا تعتبر سبباً منطقیاً لحقد عمرو بن هند على طرفة؛ لذا یجب استبعادها من الأسباب الممهّدة لمقتل طرفة. 5ــ یمکن تلخیص الأسباب الممهّدة لمقتل طرفة أو المحفّزة على ذلک بما یلی: أ. شخصیة طرفة الفتیة المستعلیة الفخور التی لا یمکن أن تذوب فی شخصیة الملک الممدوح؛ ب. معاتبة عمرو بن هند وقابوس على عدم إرجاع إبله أو أخذها من مضر؛ ت. مسیره مع عمرو بن أمامة، ومناصرته له وترکه عمرو بن هند وأخاه قابوساً. 6ــ إنّ السبب الحقیقی لمقتل طرفة هو هجاؤه لعمرو بن هند وقابوس وبنی المنذر. 7 ــ إنّ قصة وصول أنباء هجو طرفة لعمرو بن هند وقابوس عن طریق عبد عمرو، زوج أخت طرفة، الذی کان من ندماء عمرو بن هند عندما کانا فی ساعة لهو، هی قصة لا دلیل علیها ومن اختراع المؤرخین. 8 ــ نحن لا ننکر أن تکون کل تلک الأسباب، الصحیح منها طبعاً، ما عدا هجاء طرفة لعمرو بن هند، سبباً فی إثارة عمرو بن هند، وکانت کافیة لإبعاد طرفة أو إذلاله، ولکنّها لم تکن کافیة لاتخاذ قرار قتله. 9ــ لو کان عمرو بن هند قد اتخذ قرار قتل طرفة منذ البدایة، ولکنه لم یفعل لعدم وجود الداعی القویّ لذلک. 10ــ إنّ قول الفرزدق: «وأخو بنی قیسٍ وهنّ قتلنَهُ»، أی القصائد، لا یُثبت إلّا أنّ الذی قتل طرفة هو شعره، وهذا مسلّمٌ به؛ فلم یکن لطرفة سلاح سوى شعره؛ لذلک یحتمل الباحثون عدّة أسباب لمقتل طرفة أحدها هجاؤه لعمرو بن هند. 11ــ أشار بعض الباحثین إلى أنّ هجاء طرفة لعمرو بن هند وقابوس من الممکن أن یکون سبب القتل، لکنّهم لم یقطعوا بذلک، واختلفوا فی أسلوبه والتفاصیل، إضافةً إلى أنّ هذه المسألة لم یُفرِد لها أحد باباً أو بحثاً خاصاً، وإنّما کان یمرّ علیها مرور الکرام ضمن موضوع أشمل، وقلّما تناولها أحد بعمق واهتمام، الأمر الذی قامت به هذه المقالة. فهذه المقالة، إذن تتمیّز بأمرین: الأول هو أسلوبها، والثانی هو تأکیدها على أنّ القتل قد تمّ مباشرة على ید عمرو بن هند بسبب قصیدة واحدة فقط ولا غیر هجا بها طرفةُ عمرو بن هند وأخاه قابوساً، وما عداها کان تحفیزاً وتأکیداً.
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مراجع | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
) العربیة 1. ابن عبدالرحمن، فهد. (1423هـ/ 2002م). اتجاهات التفسیر فی القرن الرابع عشر. (ج 1). (ط4). الریاض: مکتبة الرشد. 1. البستانی، بطرس. (1989م). أدباء العرب. بیروت: دار نظیر عبود. 2. البستانی، فؤاد أفرام. (1998م). المجانی الحدیثة. (ج1). (ط 4). قم: ذوی القربى. 3. البستانی، کرم. دیوان طرفة بن العبد (المقدمة). (د. ت). بیروت: دار صادر. 4. بقّال، عبد الحسین محمد علی. (1375هـ/1996م). المعجم المجمعی. (ج 1). (ط 1). طهران: جامعة طهران. 5. بلاشیر، ر. (1419هـ/ 1998م). تاریخ الأدب العربی. (ترجمة إبراهیم الکیلانی). دمشق: دار الفکر 6. حسین، طه. (1991م). من تاریخ الأدب العربی (العصر الجاهلی والعصر الإسلامی). (ط 5). بیروت: دار العلم للملایین. 7. الزوزنی، الحسین بن أحمد. (1405هـ). شرح المعلقات السبع. قم: منشورات أرومیة. 8. الزیات، أحمد. (د. ت). تاریخ الأدب العربی. (ط 28). بیروت: دار الثقافة. 9. ضیف، شوقی. (د. ت). تاریخ الأدب العربی (العصر الجاهلی). (ط 7). بیروت: دار المعارف. 10. عطوی، فوزی. (1980م). دیوان طرفة بن العبد. بیروت: دار صعب. 11. فرّوخ، عمر. (1984م). تاریخ الأدب العربی. (ج1). (ط 5). بیروت: دار العلم للملایین. 12. مصطفى، إبراهیم وآخرون. (1416هـ ق/1374هـ ش). المعجم الوسیط. (ط 5). طهران: مکتب نشر الثقافة الإسلامیة. 13. نکلسن، رینولد. (1388هـ/1969م). تاریخ العرب الأدبی (فی الجاهلیة وصدر الإسلام). (ترجمة صفاء خلوصی). بغداد: مطبعة المعارف. 14. الهاشمی، محمد علی. (1407هـ/ 1987م). طرفة بن العبد: حیاته وشعره. (ط 2). بیروت: دار البشائر.
ب) الفارسیة 15. عبد الجلیل، ج. م. (1373). تاریخ ادبیات عرب. (آذرتاش آذرنوش، مترجم). (چ 2). تهران: امیر کبیر. 16. الفاخوری، حنّا. (1368). تاریخ ادبیات زبان عربی. (عبد المحمد آیتی، مترجم). (چ2). تهران: طوس.
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 1,137 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 2,960 |